يستيقظ الزقاق بعد منتصف الليل، متلفعاً بصراخ مفزع، ينشر ضفائر الارتباك على تفاصيل ليلة موحشة، أصوات متداخلة، مشوشة، تتطاير في الظلام، تتناهى إلى سمعي، أفتح نافذة غرفتي المطلّة على مصدر الصوت، الخطى تسابق الريح، تلهث نحو دار جارنا، القلق يرتسم على الوجوه، يؤازرهم الاستغراب، أتساءل:
- ما الأمر ؟
- مات الرجل البدين.
تجلدني المفاجأة؛ اللحظة العابقة بالوجع تستمطر دموعي، تتفجّر صادحة بصوته الساخر من الأشياء، تردّد مزاحه وطيبته. كان ضخم العنق، بديناً، لا تستوعبه الثياب، كرشه يتماوج في سيره، يتدلّى من سرته حتى فخذيه، يتوكأ على عصا، قدماه لا تقويان على حمل جثته، أنفاسه اللاهثة تمسّ الأنوف؛ كنت أجالسه أمام داره، أقف على تخوم ضيمه، أرقب حزنه، أحصي انكساراته؛ أحاديثه الموشاة بالفطرة تشي بألم دفين، مطرّزة بموت مؤجل؛ وحدهم أطفال الزقاق يسعدونه بألعابهم الجميلة، يمارس طقوسه المرهقة في أحضان ضحكاتهم، يمنحهم بعض حنانه وشيئاً من الحلوى.
الليل ينتصب كابوساً، مشبعاً بالوحشة، الرجل البدين جثة هامدة، يحوم حوله بعض الرجال، يحاولون رفعه، لم يتمكنوا، الأيدي تجتمع، تزحزحه من مكانه قليلاً، زوجته المسكينة، غارقة في موجة لطم وبكاء، أحدّق في هيئته، عيناه مفتوحتان، بقايا طعام عالق بثوبه؛ يقترب أحدهم منّي، يتساءل:
- أيّ تابوت سيحمله؟! كلّ التوابيت لا تستوعب نصف جثته.
يا لتعاستك! هكذا أنت، حتى في موتك لا تجد من يحمل أساك؛ كيف سيتداركون الأمر؟ العيون تتنقّل بين الجثة وبين التابوت، اللحظة يسودها الارتباك، الأصوات تتعالى، يغمرها اللغط، يحسموا أمرهم،
" لا خيار لنا، لا تابوت أكبر من هذا".
تستدير الوجوه نحوه، ترميه بنظرات بلهاء، يضمّون بعضه إلى بعض، يحشرونه عنوة بين دفتي التابوت، عيناه تبعثان رسائل عتب، أجمعها، أزفر حسرات، أغوص في موجة بكاء؛ تتزاحم الأيدي والأكتاف، تحمله، يخرج المشيّعون محتمين بالتهليل، يترك رائحته الأولى تملأ فضاء الذكرى؛ ليرحل إلى ظلمة مرتجفة بوجود آخر لا متناه؛ بينما الأطفال، تراهم يفترشون ركن الزقاق صامتين، عابسين، تلفهم الحيرة والدهشة، يتساءلون:
- يا ترى مَن يمنحنا الحلوى في قابل الأيام؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق