زمردة تقف بين الجميع قائلة : أي كابوس أعيش ؟ هل من الممكن أن يكون ما يحدث حقيقة ؟أي بشاعة هذه ؟ لكن ابنه معه هل من الممكن ان يقتله ؟
سمعها الجميع ..والمارد يقول ولم يفهمه احد: هل نعود يا أميرة؟
قالت : لا لن اتركهم .
كانت العجوز على الأرض واحمد يحاول مساعدتها وامتدت يد زمردة إليها وأخذت بالبكاء .
العربة تسير واسعد يبدو عليه الغيظ فيزمجر قائلا : سترون اليوم هلاككم يا كفرة.
الطفل: أبي ..إلى أين نذهب ؟
اسعد: حيث أهل الله يا بني..
اصطدمت عربة اسعد بعربة أخرى توقفت أمامه فجأة ..راح يتفقد ولده وقد أصيب برأسه قائلا: كلمني هل أنت بخير ؟
أجابه الطفل وهو يبكي : نعم .
نزل مسلحون وأحاطوه .
قال احدهم : إذن أنت جاسوس.
اسعد: لا..إنما أرسلني الأمير لأتقصى موطأ الناس الهاربين من المدينة.
الرجل : يا كاذب ..اصمت سنريك حاصل فعلتك...تبيع المجاهدين ..بكم اخبرنا ؟
وانهال الجميع بضربه وسحبه إلى سيارة أخرى ومعه الطفل يصرخ من الألم والخوف.
وجاء الصباح ويوم آخر من الخوف والنواح يلقى زمردة وأيامها في بغداد..
جاءت مكالمة أصابت احمد بالصدمة وخرج مسرعا وقد فقد رشده وهو يصرخ: هل كان صادقا..؟
زمردة تتبعه خائفة: ماذا هناك ..أرجوك؟
لم يجبها احمد..لقد خرج مهرولا حافيا ..وربما سمعته يجهش بالبكاء.
جلس الجميع واجمين بانتظار الكابوس الجديد ولانهاية لحال السوء المبين.
انحازت الشمس وابتعدت عن كبد السماء ..فأكباد الأمهات والزوجات احترقت من كثر الموت والفقدان..وعاد احمد معفرا بالتراب وهو ساكت دخل غرفته ولم يفتح فمه بكلمة أو ينظر إلى احد. دفعت الباب زمردة ودخلت خلفه ولم تكن تعي ما تفعله لكنها صارت مختلفة :
احمد..أنت مخيف ..كلمني أرجوك تعلم انك من قلبي قريب ..أَسمعني شيئا؟
أجابها احمد: أخاف عليك من المزيد مما عشته في يومين.
زمردة: تكلم ..لقد تحملت ما لا يحتمله الحديد منذ سنين.
احمد : لقد قتلوا اسعد بقطع رأسه ..و....
أجهش بالبكاء ..وبكت معه زمردة وكأنها فهمت باقي الكلام .
قالت: قتلوا الغلام ؟ هل قطعوا رأسه أو ربما سلقوه؟
احمد : بل شووه !! هل سمعت بأناس مؤمنين يطهون الطفل والشيخ الكبير ؟
زمردة: لم يفعل والدي إلا القليل مما فعلوه ..وهو حبيس الأحجار منذ عصور.
لم يفهم كلامها احمد ولم يسأل ..لكنه أكمل الحديث:
وهل تصدقين المزيد؟ ظنوه خانهم وهو معهم الصادق الأمين ..كان مرسلا من سيده الأمير ليبيعنا له فكلنا بهم كافرين..ولم يعلم قاتليه بصدقه إلا بعد أن انهوه وطفله ..ورموهما على الطريق ..هكذا جاءنا الخبر من عيوننا عندهم ..اخبريني زمردة ..كيف سأنقل الخبر للباقين ..وهل سيحتملون؟
زمردة: اترك الخبر ألان ..حتى تستعد لتحتمل ما سيتبعه من أثر على أمك وأختك فالأمر عسير ..تمهل واصبر ..يا ليت ما كنتُ هنا وبقيت عند الفراغ حيث لا نفس ولا حياة.يا ليت كنت عرفتك خارج هذا الزمان...ما الذي تعيشونه ؟ لا معنى للأشياء ..لا معنى للحياة ..لا معنى للموت.
سكتت زمردة وبدت تائهة عن الوجود لم تعد تعرف ما تريد ! هل العودة إلى أبيها في قبره تنتظر البعث من جديد فتكون ملكة على قومها أم هو البقاء في زمن القسوة والدم و حب يجذبها لتعاني كوابيس القتل وضياع وخراب كل المعاني , حتى الدود غادر باطن الأرض ليمارس حياته بحرية على الطرقات فينهش الأجساد ولا يبالي إن كانت في أكفان او رميت كما الحيوانات.. يا لقسوة عمري ومكائد قراراتي "قالت زمردة"بصوت عالي. التفت إليها احمد وقال : لم لا تعودين إلى اهلك إن كان حالهم أفضل من هنا؟
زمردة: إن الزيف الذي تعيش به بغداد الآن يجعل من مسؤوليتي أن اعرف عمقه .
احمد: ما تعني بكلامك لم افهم ؟ إنها لعبة الكبار بقائهم مرهون بما يحدث ..أنا ومن معي نحاول أن نقاتل لكن لا جهد لنا أمام خراب النفوس وتشتت الأفكار والمعتقدات فالمهزوم الأول هو الدين لأنه ليس محمولا في العقول والإدراك بل في السمع والكلام ..فجعل الناس دمى متحركة بلا قرار فهؤلاء مسحوبون إلى ساحات دماء أزلية وأولئك إلى قنابل موقوتة تتفجر بينهم بإصرار .
كانت زمردة تسمع الكلام وتهز رأسها إن نعم هي لعبة الحكام ولا تشبه ما كان من أبيها في ذلك الزمان.
والتفتت إلى احمد وقالت: تستحق أن تكون ملكا لأنك تقف على خط الفصل والبيان وقلبك مملوء بالخير ...لكنك عندها ستكون من الملوك الذين يتوجهم التاريخ وليس تيجان الذهب وركام المنافقين .
حدثت جلبة وضجيج وامتلأ البيت بالملثمين كما الليل العقيم الذي لا ينتظر صبحا يهل أو فجرا قريب ..وصوت رصاص ..دفع احمد زمردة وقال بهمس : ادخلي تحت السرير .
هنا ..دخل الغرفة رجال الظلمة والسواد ..فقال احدهم :هاهو..وضربوا احمد على رأسه حتى فقد وعيه ...
اندفعت زمردة من تحت السرير تصرخ : لا..لا..أيها المجرمون.
قال احدهم: هل تكون زوجته؟ أظنها تهمه..لنأخذها معنا ستنفع.
واقتادوها معهم..تلفتت حولها تبحث عن المارد فكان قد تحول إلى منضدة صغيرة مختَرقة ببعض الرصاص والباقون في عداد الأموات .
صاحت:أيها المارد كن معي بأية حال..فتحول المارد غالى سوار وكان في معصمها في الحال.
هاهي زمردة في مركبة الغرباء من جديد بعد ما أصبح احمد من المقربين..جعلت رأسه في حضنها تمسح الدماء عنه وتطلب منه أن يكون بخير .
رفعت رأسها تنظر فكانت الشمس تسقط في الأفق البعيد..والليل قادم..والمجهول سيكون معلوم عن قريب.
وبقيت المركبة تسير ..حتى بانت الأضواء ..أضواء كثيرة وأصوات أناس يعيشون بسلام وضحكات في كل مكان..وتلك مساجد على الطريق ومعممين وأطفال يتراكضون ونسوة ملاح ودكاكين ..كانت حياة مطلقة تماما ..وكأنها مدينة أخرى وليست بغداد!!
دخلت المركبة في ساحة بناء كبير واقتادوهما زمردة واحمد حيث أفاق , كانت ذراعاه تحتويها خوفا من أن تمسها أيدي الرجال ...
ساروا في ممرات متتابعة يمين ثم يسار ثم يمين ليفتحوا باب إحدى الغرف وتركوهما هناك بعد أقفالها .
زمردة: كأنكم في قفص زجاجي كبير سجناء تلاحقون بعضكم البعض ..ترون كل شيء من خلاله ولا تقدرون على شيء ..ان تمكنتم من كسره ستتناثرون في كل مكان كحبات رمل في يوم ريح عاصف ..لكل واحد منكم بئرا من الحكايات تصلح لكل الأماكن والأزمان...يتمنى الفرار ليعيش آمالا رآها عبر الزجاج في سنين الحرمان...يا له من زمن اخترته لأعرفه .
احمد: عالمنا مرتب على مدّ الموت منذ عصور وكأنها سبحة في يد رجل مؤمن اعتاد التسبيح دون أن يعي انه يقول عند كل حبة دمرني ,دمرني ..دمرني..هههههههههه
زمردة" بادلته ضحكته المُرَّة" : هذا المكان الآمن أليس هو مقرهم "الكبار" ماذا تسمونهم ألان ؟فليس عندكم ملك أو سلطان .. وماذا يريدون منك؟
احمد: يريدون ان أكون منهم ..زعيما لإحدى الجماعات المتنازعة ..ادخل اللعبة لأقتل وأفجر وتكبر الحلقات وتزداد ..
زمردة : ولم نزاعهم..وما الأبعاد؟
احمد: ليبق الكبار كبار ..ويعيش الباقي من الشعب بلا قرار .
زمردة: لقد تأخر الصباح كثيرا ..شيء ما يتقطع في صدري .. يا احمد..
احمد: ليتنا تلاقينا في زمن آخر ..لا ألم فيه..لماذا تبعتني ؟ وماذا سيفعلون بك؟ وكيف سأحميك ؟قد أميل إلى قتلك لأنقذك.
زمردة: أما أنا فأقول ..كيف يمكن أن أُخرجك من هنا؟
احمد: تخرجينني !؟
زمردة :انا حرة متى أردت ..صدقني ..لكنني لن أتركك.
احمد: من أنت؟
زمردة:أنا الأميرة زمردة.
انفتح الباب ودخل رجلان بلا ملامح تُبان ..وقال احدهما: هيا معنا يا احمد سيهل الصباح ويكون مع خيوطه نهاية الكلام.
التفت احمد إليها بحزن ..وقال: أمركم معي فأطلقوها .
قال الرجل: لتأتي هي أيضا معنا لتنتهي المسالة بجرة قلم واحدة.."وضحك."
التحقت زمردة بسرعة بأحمد متمسكة بذراعه بخوف وترقب...ذاب الإصرار بعيونها وتنفست بحسرة وهي تنظر إلى احمد ..سيبدأ كابوس جديد ..لا تعلم إن كانت ستحتمله أم لا.
وانفتح باب آخر أمامهما ..ليكونا في غرفة فاخرة ..يجلس خلف المكتب رجل حاد الملامح أمعن النظر إلى احمد ..ثم انتقل بصره غالى زمردة.. فقال: إذن أنت احمد؟
أجابه : نعم أنا ..احمد.
التفت آمراً الرجلين بالخروج.ثم قال : كان أباك صديقا لي , رجلا عظيما كريما يهابه الجميع ..وأنت مثله صورة وعملا ..لو تقبل أن تكون معنا سنعيد إلى بغداد عنفوانها وازدهارها .
احمد: كيف ؟ هل تريد أن تقنعني بأنك بعيد عن ما يحدث؟
الرجل: ليس أمامك إلا أن تكون معنا لا يمكن لخط ثالث نحن خطين فقط على الأرض وجودك وجماعتك تأخير للحل الأسلم ..نحتاجكم ليميل الكيل ألينا ..ألا تريد أن يتوقف الموت؟
سأتركك الليلة لتفكر جيدا استطيع إزاحتكم عن الطريق لأنكم مجرد حجر .. بعض طرق اللعب البسيطة تجعلكم قتلة أمام الناس فتتنافر وحدتكم المزعومة أنت و مِمَن التفوا حولك من الطرفين بدعوى الوحدة . وهذه المرأة التي معك فكر بسلامتها أيضا .
سأتركك في هذه الغرفة لتتعود الفخامة والنفوذ فإنها تليق بك .سأراك في الصباح.
خرج الرجل وأُغلقت الباب من بعده بمفتاح..وصوت يقول "أطعموهما مما لذَّ وطاب" .
نظرت زمردة إلى احمد كان على وشك الجنون لكنه رمى بنفسه على كرسي قريب ..ثم تحرك بغضب نحو الباب محاولا فتحها..جاء صوت الحارس : أنت محتجز..أرجو أن لا تضطرني لاستدعاء آخرين ليضعوك في غرفة تأكل أصابعك ندما فيها.
قال احمد: سآكلها هنا أن بقيت . الستَ من هذه الأرض؟..ألا تحب وطنك ؟..كيف تساعدهم على التدمير؟
الحارس : الحب أنواع ..ودرجات ولكل منا ثمن ..سأرى ثمنك يا أحمد.
ترك احمد الباب واستدار لتكون زمردة أمامه ..فقالت : عندي خطة وأرجو ان تنجح.
احمد ضاحكا بمرارة: و ما هي ؟
أمسكت زمردة بالسوار وقالت : أيها المارد اظهر للعيان.
فقال المارد: نعم سيدتي.
وسط دهشة احمد كان المارد يقف بمظهره كشيخ أمامهما .
في هذه الخزانة أشياء اربد ان اعرفها ..ادخلها وأعطني مفاتيح انهيار هذا الصرح .
اختفى المارد للحظات ثم عاد ..فقال: سيدتي إنها أوراق بار قام وصور لمجرمين يقتلون ويمثلون بالجثث وتسجيلات وأشياء أخرى لا أحب أن أقولها أمامك فأنت بنت طاهرة.
قالت : أريدك أن تدخل كل الخزانات وتبعثر ما فيها وخذ منها ووزعها في غرف مختلفة كهذه الغرفة على وسع الصرح ...ثم عد إلى معصمي كسوار.
قال المارد: نعم سيدتي.
كان احمد صامتا يسمع ولا ينطق ..وشعر انه في خضم كابوس غريب ..فأمسك رأسه وجلس دون حراك..حتى حلَّ الصباح وتم فتح الباب وجلب مائدة مهذبة بأطيب الطعام ..ولا صوتٌ لدِيك ولا حتى أذان.
ودوت الضحكات في كل مكان ..ودخل الرجل الكبير بين مجموعة الكبار يتهامسون ويتمازحون ..فقال احدهم لأحمد: هل تصدق يا هذا إن احدهم حاول أن يوقع بيننا العداوة بنشر ما نمسك به من مستندات وملفات جاهلا انها مجرد مفرقعات لا خير فيها ولن تقلق احدنا ..إنما هي لشحن الجو ليحلو اللعب ونتلذذ باللقاءات.
..........
تابعوا ان راقت لكم
ابتهال الخياط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق