وجدت لزومآ ان أحدد مفهوم التجديد النقدي بما يتلائم مع التجربة الشعرية الجديدة ، حيث نجد في زمن الانحطاط الفني كثير من القصائد تستسلم كما يستسلم كثير من الشعراء الى المفردة الخنوعة لا تلك النافرة عن قواعد اللعبة السهلة والقادرة على صدم وعينا وذائقتنا بألوان زاهية من المفردات المتفجرة في معانيها وتراكيبها وما تحدثه في الذائقة من هزات وجدانية عنيفة تجعلنا نستغرق في الجمال التكويني الخارج عن تحديد الاطار الزمني والمكاني وفق اشتراطات موضوعية تجعل من العقلنة الشعرية وعيآ قائمآ بذاته ومحددآ لاطر تكوينية وسابقآ على حدثه الآني ، وبهذا يكون الشاعر قد أنهى الانسيابية العفوية او التلقائقية التعبيرية في انزياح شكلي قادر على ان يؤطر قيم القصيدة الفنية ويعطيها طابع السيولة المحصورة بين الذات المبدعة والشكل المحدد لذلك الابداع او ما نطلق عليه ب ( هيكل القصيدة الموضوعي ) وقد نجد في القصيدة المتفجرة هذه شاعرآ ثوريآ يقف على عتبات الرؤى الزاخرة والكلمات الفعالة لا يهادن في سوق الابتذال الشعري ، بل يقف كما وقف المتنبي وهو يعلن على الملأ قولته الشهيرة :
( أنا الذي نظر الاعمى الى أدبي *** وأسمعت كلماتي من به صمم )
واذا كان المتنبي قناص معان فريدة بأطر فنية ثابتة ومحددة او مانسميه بهيكل القصيدة العمودي ، فان الشعر الحديث يتخذ من الأطر البلاغية والصور المجازية المتحركة ضمن قوالب فنية جديدة دون ان يخضع الى الهيكل الجاهز فأن الاسلوب التعبيري في هذه الحالة يمسي لبوسآ للشاعر المتحرر من ثوابت التقييد الشكلي ، ان الاسلوب التعبيري في القصيدة الحديثة يعطينا الانطباع عن ثقافة الشاعر الفنية ويكشف عن ادواته الاسلوبية في قصيدة من الواجب علينا ان نحدد معاييرها وفق اتجاهات المدارس الشعرية المتعددة . ولم يكن المتنبي الا حفيد اولئك الشعراء الفحول امثال أمرؤ القيس وعنترة العبسي وجرير والفرزدق وابو العتاهية وجميل بثينة وابي نؤاس ، ولم تكن المدرسة العمودية الا ذلك النسق المعبر عن وحدة العقل المنسق للفكر تنسيقآ احادي التعبير شكلا ومتفرق المضمون وعيآ وفقآ لاختلاف القابليات الشعرية في التجربة والمعاناة وقدرة الكشف ، ان وحدة التعبير تعطينا ذلك الانطباع ان القصيدة العمودية وليدة التجربة العربية الخالصة والتي استمرت في شحذ همم الشعراء وتلبية طموحاتهم على مدى عقود من الزمان المنصرم ، فلا حاجة للشاعر الحديث ان يقف الموقف ذاته امام شعراء قدماء طغت على تجربتهم الحياتية صنوف التعابير من مديح وهجاء ورثاء ووصف الحروب والمعارك او التلذذ بمفاتن النساء ونشوة الخمرة الفاعلة في الرؤوس مثلما تفعل القصيدة المصفاة في النفوس من نشوة وابتهاج .
ان للقصيدة زمنها الموضوعي مثلما للشاعر عصره الذي يحيا به بكل ما فيه من احداث ومعتركات تصب في تجربة الشاعر وتعكس على صفحة وجدانه صورها المختلفة ، وتبقى القصائد العظيمة عظيمة بشعرائها ، اما القصائد الطيعة فلا تبيح لاصحابها سوى ذاكرة هشة تنسى في أقرب وقت القصيدة المرصوفة في مفردات متداولة دون عناء ، اما القصيدة العصية فلها امتياز الفرادة في بلوغ المحاسن التي لا تتكشف الا لاولئك الشعراء القادرين على معرفة أماكن الجمال ومداعبة الهواجس الرقيقة في مكامن الجسد الحي النابض بالحيوية ، حيث الصورة وحدها غير كافية بأقناعنا بفرادة الجمال بقدر ما تكون حيوية النبض الداخلي وأنسيابية الدم الجاري في العروق مع حرارة عاطفة نتقبلها بصدق ونحس من خلالها بوجدان الشاعر وهو ينبض بترف الكلمات وفخامة الهيبة المقدسة المتمثلة بروعة الخلق والابداع . كل ذلك يتضافر مع كل مفردة من مفردات القصيدة لتشكل في النهاية لوحة ناطقة تحتفظ بروعة جمالها الأخاذ لا ينال منها غبار الزمن مهما تقادم ، وهنا يبلغ الشاعر قمم النهايات ، وعلى الشعراء الخانعين بالميسور من الكلمات السهلة يمكن ان يحل النثر بديلا عنها ان يعلنوا موتهم دون أسف على شيء.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق