أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 23 فبراير 2016

طعم للغيلم ( قصة قصيرة) .................. من كتابات الاديب المرحوم فهد الاسدي // العراق




في بلدة جنوبية تولد مئات القصص اخوات للحكاية هذه –
ورغم ان تلك البلدة الصغيرة تكاد تخنقها الاهوار الا ان الدودة المتطورة مضطرة للعيش والناس هناك فريقان احدهما يزحف صعودا" مجتازا" السلالم الاولى في وضع يسمح له بأن يبيع للناس ويشتري حياتهم وقد يسخر منهم
– لا بل يحتقرهم لانهم في الدرجات الواطئة –
وثانيهما وهم الغالبية والعيش بالنسبة لهم صراع مع هور يفتح فاه كالوححش لتنتزع منه اللقمة – والوحش غني فالقصب مشاع للجميع
– أحرار في أن يقطعوه ساعة ماشاؤا – ولكن للحرية حدود تصطدم بها وذلك عندما يأخذ الحرفيون ( البواري) الى دكاكين تجار البواري ليعودوا بالطحين والشاي والسكر وليسجل عليهم مايتبقى دينا" مضاعفا" يتضاعف راس الشهر أن لم يسدد –
والامور تسير نحو الاحسن مع ( الحاج عبد الرزاق ) فالسفن والجنائب النهرية تحبل كل يوم في مشرعته لتجهض أحمالها في بغداد والعملية لاتستلزم منه الجهد فالهور ينبت كل عام وعمال البواري لابد من ان يطعموا اطفالهم بطححين طاحونته وفوق ذلك والحق يقال فالحاج رجل عاقل لايحب اثارة المشاكل مع عملائه وفي المرات السابقة التي يرى فيها ابنه سعيدا" يحتد في النقاش مع عملائه حول خطا في الدفتر كان لايثور كما يفعل الاخرون بل كان يكتفي بالقول –
واالله وحجتي نحن لانخطيء في الحساب هل من المعقول ان نسرقكم ؟ ماقيمة الدينار والدينارين ؟
وامام هذا الهدوء ورغبة العمال في ان لايجوع الاطفال من جديد كانت عناقيد الغضب تنفرط وتستمر الارقام تتحدث برطانة لاتصدق
– رطانة لايملك الناس حيالها سوى ان يبتسموا ويبصبصوا كالكلب الذي يتملق سيده –
وفي يوم تجادل اثنان – همس الاول : والله هذا الدفتر يمتلىء غشا"
هؤلاء لايخافون الله
– ويصرخ الاخر : عمي لاتقل ذلك – هذا حاج شاف بيت الله ليس من المعقول ان يسرقك ؟
وتضيع الهمهمات وسط هدير الطلاء فالحاج عبد الرزاق لاينسى أقامة مجلسا" للعزاء عندما تدق طبول الايام العشرة – ورغم ان تبرعه لمشروع الشتاء يجيء بعد امر الحكومة الا انه يدفع على كل حال –
وصحيح ان ثمة بعض الهنات التي اثارتها مشكلته مع ( جبير) الا انه استطاع ان يقنع المعاتبين بان الدين قد مرت عليه ثلاث سنوات كافية لان ينفذ منه الصبر فيضطر للشكاية ثم ترتيبات الحجز ومع ذلك فقد وجد منافسوه من طبقته في هذه القضية متنفسا" ومجالا" للتعريض في اخلاق الحاج عبد الرزاق
كان جبير واحدا" من الصنف الثاني اقلعت به الحاجة فوقفت سفينته امام الحاج –
هتف بذل : ايها الحاج- اطفالي يجوعون والمروءة لاتقبل –
لماذا لا تشتغل ؟
ولكن ايها الحاج – كيف اشتغل ولا زورق عندي اذهب به للهور –
ويصمت الحاج طويلا ثم يرق منه القلب فيبيع زورقا" لجبير انتزعه من مدين لم يسدد له قبلا" وتفتح صفحة في الدفتر الكبير بأسم جبير –
وتمضي الايام وجبير في حيرة فما يجلبه من الهور لايكاد يسد باب الجوع استطاع ان يسدد ثلاثة دنانير من الستة ولكن بعد مضي شهور وجد انه غير لاحق بربا الحاج مهما جذف
– الزورق استهلك قوته ولكن الثمن لاايزال متطاولا" كغول يسد عليه دروب الطمانينة وحفظ ماء الوجه –
وفي يوم فاجئه الحجز : ولكن ما الذي تحجزون عليه
– هاكم هذه الخربة –
واضطر جبير لان يختفي وعائلته في الظلام ويرحل الى البصرة –
وحسب منطق تتجار البواري فلاتزال قيمة زورق جبير تربو كشيء له ديمومة لاتطالها يد البلى –
وحكاية جبير تعاد في كل مجلس ويسمعها ( طالب) او بالاصدق ( طويلب) اذ هكذا تلذ للناس تسميته – لانه ابن حمود نوتي السراي القديم وتسمية ابنه بطالب شيء كبير عليه يدل على التخطي والمطاولة – كان هذا ( الطويلب) محبا" للمشاكسة والشقاوة استنفذ ثمانية عشر عاما وهو لايفارق الاطفال وكان يلذ له ان يصطاد السلاحف والغيالم ثم يرميها في النهر وفي يوم وبعد سماعه حكاية جبير رمى صنارته فاصطاد غيلمين وبطريقة غلمانية قاسية ادخل مسمارين كبيرين في راسيهما واخرج طرفي المسمارين في وضع لا يسمح به للغيلم ان يدخل راسه في ترسه ثم رماهما في النهر وبقي الغيلمان يصطدمان بالجرف بطريقة تثير الضحك كثملين افرطا في الشراب –
كان المنظر قد اثار بعض الحاضرين فانبوا طالبا" على هذه القسوة لكنه مع كل تانيب كان يجيب : دعوني معهم انتم الا تدرون كم تضر الغيالم العباد ؟
يكفي ان يعضك احدهم ثم لا ينصرف الا ويقلع اللحم الذي عضه –
بعد ايام الحكاية وجد طالب في مشاكسة الحاج عبد الرزاق لذة فائقة تنسيه متاعب بطالته فكان يكيد للحاج مكائد ويوقعه في مطبات كافية لتسد رغبات التشفي لدى منافسيه من التجار ولكن الحاج رغم ذلك لا يلتفت في غمرة اعماله الى هذه الامور الصبيانية حتى وانه لايعرف من يرتب عليه تلك المقالب
وفي يوم وحين كان الحاج في المعمل رن جرس الهاتف :
هلو – من ؟
اهلا بيك --- اهلا بسعادتكم –
وبدون ان يتلقى جوابا يستمر في الترحيب والاعتذار عن غير ذنب –
نعم بيك – نحن في الخدمة – تشرفنا –
ساعتها يمتلىء وجه الحاج بانفعالات متناقضة فالفرحة مثلومة
– اذ ان الغداء لموظف كبير ليس بالأمر الهين وعندما يطرح موضوع هذه الزيارة مع سعيد يوكل المهمة اليه
– اذ ان سعيدا من الجيل المتحضر نوعا ما لاعارف بمتطلبات مائدة تحظى بمثل هذا الشرف –
والحاج خبير فمن اجل الاحتفاظ باحسن المواقع تنبغي التضحية ببعض العتاد –
صحيح انه رجل يبدو ولا غبار على سلوكه الا ان ثمة بعض الفجوات قد تتسرب منه رائحة ليست في صالحه ولذا فقد كان الحاج مضطرا للعودة مبكرا الى البيت ذابحا" عادته الحبيبة على شرف اللقاء –
وعندما وصل المدير كانت الصورة تامة في ذهن الحاج عنه ولذا فقد جرت مراسيم الاستقبال بما يليق وسعادته –
رحب الحاج كثيرا بالصورة من غير تحديق في الشكل –
وردد العبارات التي استحضرها في مخيلته عدم مرات
– فكر : اه لو راني سعيد وانا اصافح سعادته لفخر بابيه وعرف كيف يجب ان تؤكل الكتف ولكن لابأس سأقدم سعيدا لسعادته عندما يفرغ من اعداد الوليمة –
في الدار كان ( الفرخ) قد اجاد المهمة ووجد الحاج ان كل متاعب هذه الزيارة ستذوب بعد ان تزدرد اللقم ولكن مما يأسى حقا هو ان سعيدا قد تعود الافراط فالطعام يكفي لعشرين وليس هناك غير واحد
وعندما اعدت المائدة كلف الحاج ابنه في دعوة الضيف لغرفة الطعام –
دلف سعيد الى الغرفة وحدق : كأنه هيأة الجالس بالقبعة والرباط تتناقض مع وجهه
– تأمل سعيدا الوجه جيدا وصرخ :
ولكن يا ابي اين المدير ؟ هذا طويلب بن النوتي –
وقبل ان يفيق المشدوهان كان طالب ينسحب وعلى شفتيه ابتسامة التشفي والنصر كان صوت داخله يردد :(( لقد وفيت دين جبير ))
------------------------------------------
- البواري : القصب الغليظ ويستعمل في انشاء المضايف والبيوت القصبية في الاهوار وكذلك في دفع القوارب –
الغيلم : ذكر السلحفاة
صورة ‏الاديب الخالد فهد الاسدي‏.


  مجموعة عدن مضاع القصصية 1969

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق