وجدانية الحضور والغياب في زمن الوجودي الذاتي
مقدمة لمجموعة ( قصاصات ٌ .. من وجعٍ أول) للشاعرة كوكب البدري
عندما يكون الصوت الداخلي للغة هو لسانية صوت الشاعر , تتحول الجمل الشعرية الى هاجس معنوي يمتد بامتداد قدرة الشاعر على صياغة الجملة الشعرية وفق نسق الخيال المتطابق مع مدراك هذا الصوت والذي يعبر عن مساحة اللاوعي والذي يوحد الرؤيا مع ذائقة المفردة اللغوية , وتصبح هنا اللغة هاجس إنضاج لخيال الشاعر والذي يتدرج بإخراج مكنونه الداخلي وفق الأنزياح الأستعاري لكي يقارب هذه المفردات من أعطاء الصورة الشعرية التكثيف والأتساع الدلالي ,ونجد هنا في مجموعة الشاعرة كوكب البدري ( قصاصات ..من وجع أول ) هذه القدرة وحيث تتحول الجملة لدى الشاعرة سؤال جوهري داخلي يستفز المعنى المركب من خيالها الموحي بعملية الفقد لديها ويكون هذا السؤال أشارات معنوية تفجر كل المعنى المختفي داخل اللاوعي لكي تقارب هذا المعنى مع مسارات رؤيتها المكونة لهذا المعنى ومن خلال الإيجاز والترميز باستعارات قادرة على نقل هذه الرؤيا الى مفردات لسانية معبرة عن الهم الداخلي والذي يتحول بدوره الى إيقاع صوتي يعطي الى جملتها الشعرية مؤشرات لسانية عالية الدلالة والمرتبطة بالمعنى ضمن متن النص الشعري ...
نص الى مسافر ص14
ودمي يسربله انتظارك في الخفاء
ويظلُّ يمضغني السّؤال
ذاتُ السّؤال..متى تعود ؟
ذا ألف فجرٍ عاد من أحزانه
وحصان فجرك لم يعد
مازال يومئ من بعيد
ولا جديد
وأظل انتظر الصباح إلى الصّباح
ولا تعود لديها ....
نجد هنا في هذا النص أن الرؤيا تتخذ من الصوت الوجداني طاقة التعبير عن الهم الذاتي والذي يتحول الى سؤال جوهري يلتصق بالذات من الداخل , و في هذه الحالة نجد التعبير النسقي لهرمونية الجملة الشعرية يتحول الى سؤال وجودي يمتد بامتداد الفقد التي تعيشه الذات الى من هو كان رمزها حيث يشعر المتلقي أن هذا الرمز يتخذ من الرموز الوجودية المرتبطة بهموم الذات وتكون هي السر المحرك في اقتفاء الفقد الوجودي لهذا الرمز (ودمي يسربله انتظارك في الخفاء /ويظلُّ يمضغني السّؤال /ذاتُ السّؤال..متى تعود ؟ ) حيث نجد الشاعرة تبتدئ من الداخل الى الخارج لأتأكد لتناظر الداخل مع كل ما يحيطها من المسميات التي توحي بالفقد فهي بدأت بالانتظار الخفي الذي يتحول الى سؤال (متى تعود) لأن العودة يمثل لها انفراج كامل لأزمتها الوجدانية ( وحصان فجرك لم يعد /مازال يومئ من بعيد /ولا جديد /وأظل انتظر الصباح إلى الصّباح / ولا تعود لديها .... )ففي العودة تتحرك كل الأشياء وتتخذ مسار الحياة الحقيقة التي تريد أن تراها أمامها ويمثل هذه الحركة هو حصان الفجر أي أن يومها يتغير بكاملة ومن الفجر , لأنها تجد نفسها بهذا التغير فكل شيء حولها لا يتغير بالمسار الذي تريده و من خلال العودة , فقد تحول انتظارها امتداد الى كامل يومها من الصباح الى الصباح فيومها خاوي دون العودة لسيد الغياب ...
نص هواجس الشتاء ص21
- وصية الرّيح ِ للصّوت الأخضر ص 25
كن هاربا بأشجارك ،
وأعشاش عصافيرك ،
وكرات ثلجك ،
وهسهسات موقدك
إلى قنديل صلاتك
و لا تأو لضفاف انكسارك
نجد هنا الدعوة الى الحياة وطهارتها المرمزة من التحكم بالامتداد بالأنزياح لكي تحقق تكوين التصور الذهني الذي يعطي الى اللغة أشارة الإيحاء بالرمز الموحي ضمن استبطان الحركة على الحفاظ على الحياة داخلنا بدل من التفريط بها , فالهروب هنا هو المقاومة بالحفاظ على الروح من التلوث والهزيمة بها والابتعاد عن هذا التلوث فتمثل الأشجار رمز الحياة المورق بالهدف النبيل والعصافير هي إلا أشارة الى البراءة لكن هنا يخرج السؤال ما فحوي أن تكون الشجرة محملة بأعشاش العصافير و والشاعرة هنا أرادت أن توحي بأن الحياة لا يكمن أن تكون إلا بالبراءة والطيبة , فأمتد هذا التصور الرؤيوي لاستمرار التصور الفعل الذهني التصوري بخلق الصورة المتركبة المكثفة بالمعنى المزدوج لإعطاء الطيبة والبراءة رمز تعمق مع اللغة ومن أجل تثبت الفعل الممتد بالإشارة الى هذه البراءة والطيبة الموحية بالطهارة جاءت ( كرات الثلج ) من أجل تكتمل الإيحاء الممتد لا المنعكس على قيمة كل هذه الرموز الموحية بخلق الصورة الأفقية المتعمقة ببيان اللغة وبلاغتها الموحية بالكثير من المعنى وأصبح لدينا (الشجر , العصافير , الثلج ) هو تثبيت أفق الصورة في مكنون النص ويأتي( الموقد ,الصلاة ) من أجل أن يكتمل الأيمان والدفء في اختيار الطيبة كرمز حقيقي للحياة , ولكن قد يسبب هذا الاختيار الانكسار , والشاعرة أعطت هذا من بداية المقطع و قد نستطيع أن نقرا المقطع بشكل معكوس لكي نرى كم أرادت الشاعرة أن تحيلنا الى المعنى الثابت بقناعتها الجوهرية اتجاه الحياة وتمسكها بالطيبة والبراءة كرمز مطهر الى الحياة من كل الانكسارات التي تجعل نخسر الكثير حين (تأو لضفاف انكسارك ) لأن الخسارة هو انكسار كل هذا داخلنا وما يجعلنا أن ننهزم من الداخل بدل أن نحافظ على قنديل الصلاة داخل روحنا ....
تقاسيم على هديل الحمام ص 45
(1)
قديما
مثل ألوان الأساطير
أو فلنقل مثل سميراميس ...
ماكان لي غير سنبلة
أكملت دورة جرحها تحت ظل النّخيل
ماكان لي غير نجمة تحجرت أهدابها
على قارعة الحريق
فتمردتُ على الغيم
على العشب
على شظية زرعها في قلبي أسماها :
( أنثى بثوب من مطر)
ورحت في كل مساء
أجالس الحمام وأهمس : ( ليت)
حتى سكن في عيوني قمر
اسميته يا أنا ،
يا سيد الغياب
يا أول الفرح
وآخر الضجر
ومن أجل أن ترتقي بمكنونها ذاتي وفق التناظر حاضرها التي تعيشه من فقد مع التاريخ لكي توسع القناعة بأن ما تعيشه من فقد برمزها الموحي بكل حالاتها الوجدانية ما هي حالة إنسانية عامه الكثير أعاشه لكن كل واحد له طريقته في هذا( قديما /مثل ألوان الأساطير/ أو فلنقل مثل سميراميس ...) ولكي تحدد طريقتها بهذا الفقد أخذت من الطبيعة ورموزها الأطر التي من خلالها تثبت منهجية تحديد ما تريد أن تطرحه من رموزها الموحية بكل إرهاصات الوجدان (ماكان لي غير سنبلة /أكملت دورة جرحها تحت ظل النّخيل / ماكان لي غير نجمة تحجرت أهدابها /على قارعة الحريق /فتمردتُ على الغيم/ على العشب /على شظية زرعها في قلبي أسماها ) ونجد هنا الرموز ترتقي الى تعميق الصورة الشعرية بشكل موحي وبأتساع الرؤيا التي أعطت الرمز القيمة المعنوية العالية في أفق التصور الذهني ووفق التأمل الشاسع لعمق معاناتها الجوهرية حيث نجد الصورة المذهلة والشاسعة التأويل الدلالي , لو قارنا ما بين السنبلة وظل النخله نجد أن الأفق الدلالي يتسع بشكل يعطي البعد التأويلي الواسع , فلو نظرنا الى الصورة الشعرية ما بين السنبلة وظل النخيل لوجدنا بعد تأويلي واسع الإيحاء والذي هو يبين حجم من هو كبير الدلالة في حياتها وما يمثله من قدرة الاحتواء بالنسبة لها , وهذا الرمز هو رمز الحياة فالسنبلة والنخيل رمز حي على وجود الحياة حين يكون رمزها حاضر حولها , ترجع الشاعرة لتؤكد عمق انتمائها إليه من خلال تمردها ضد كل شيء من أجل أن تحتفظ به لأنه يمثل لها كامل الحياة , لأنها تفقد الحياة وتتحجر داخلها في بعده عنها
((أنثى بثوب من مطر) /ورحت في كل مساء /أجالس الحمام وأهمس : ( ليت) /حتى سكن في عيوني قمر /اسميته يا أنا ، / يا سيد الغياب /
يا أول الفرح /وآخر الضجر) وهنا الشاعرة تبني الرؤيا البصرية الاستبدالية وفق نسق مشاعرها الداخلية وأتساع هذه مشاعرها الى رمز في الطبيعة والحياة , فهي لا تريد أن يدمنها الفراغ لهذا أخذت تتخذ من المسميات حولها أصوات لسانية تعبيرية قادرة على أبعدها عن الهم الداخلي بسبب الغياب , ومن كثر نظرها الى السماء لتدعوها أن يعود من هو في الغياب تحولت الى قمر , والقمر هنا بقدر ما يشير الى الضوء في ليل انتظارها يشير في نفس اللحظة الى اليأس من انتظارها بعودة سيد الغياب إليها وكذلك يشير الى طول انتظارها , لأن التحول هذا قد تحول الى اليأس في نفس الوقت هو تأكيدا على طول انتظارها , وهذا الانتظار الطويل جعلها تشعر أن سيد الغياب هو ملتصق داخلها الى حد أنه ذاتها التي تعيشها في الحياة . فهو أول الفرح وأخر الضجر لأنه يمثل كامل ذاتها ...
من حكايات الشّـتاء ص71
وأنا
مازلتُ أحسبُ أنفاس الشّتاء
وأرسمُ تنهيدة المطر
مازلتُ
أفتحُ للسماء نافذة صدري على اتساع حلمها المتهالك
ومازلتُ
أكتبُ ملامحَ وجهكَ على زجاج الغياب
تقرأها الأرصفة ، يحتويها العشب
فتدقُّ الشّقائق وجه الأرض
وتستمر الشاعرة بتأكيد أن الغائب يمثل لها كل حضورها الوجودي الحي والضاج بحركة الحياة وعناوينها الحية لهذا هي مستمرة بانتظاره أن يعود من الغياب , والشاعرة هنا استخدمت الجمل الحضورية في تركيب جملها الشعرية من خلال حضور الغياب ومدى تأثير حضوره بالحياة حولها أي أنها استخدمت مشهدية الغياب في حوارية ذاتها التي تفقد كل عناصر الحياة بسبب هذا الغياب (وأنا /مازلتُ أحسبُ أنفاس الشّتاء / وأرسمُ تنهيدة المطر /مازلتُ /أفتحُ للسماء نافذة صدري على اتساع حلمها المتهالك /ومازلتُ /أكتبُ ملامحَ وجهكَ على زجاج الغياب /تقرأها الأرصفة ، يحتويها العشب /فتدقُّ الشّقائق وجه الأرض ) فهي مازالت مستمرة بانتظاره برغم طول غيابه , وهنا استخدمت الشتاء كرمز لزمن العزلة والوحدة بسبب غيابه ,فهو لم يفارقها في وجدانها برغم غيابة فكل أحلامها إليه وكما أنها ترسم شفافية ملامحه على زجاج الغياب أي أنه يمثل كل الحياة وتشظيها في روحها التي انتظره لأنه يمثل كل جوهر روحها مع أن غيابه يعصف في زمنها التي تعيشه بغياب فكل الأشياء حولها ما هي إلا تذكار من حضوره حولها من أجل تعيش الحياة معه....
نص ( تنساني ) ص 80
لطالما تمنيتُ لو أخطُّ على صفحة قلبك :
كم أهواك ..!
لطالما وددتُ لو أخبئ نجمةً عشقتها
ساعة انتظاري لك عند شرفتي ؛ التي
حفظت كل ّتواريخ لقاءاتنا ،
وأنصتت لكل همساتنا
سيدي
لطالما تمنيتُ أن أمرغ َ دمعي بكلماتك
أكتوي بوجعها
أبللها بعطر البنفسجِ الحزين
..حين تغيب
نشعر ترابط نصوص المجموعة بالدعوة الى الحضور من الغياب أي أن البؤرة المكونة لهذه المجموعة بؤرة مترابطة متماسكة من حيث الإيقاع الداخلي لروح النص وهذا الإيقاع الذي تكون من خلال تصاعد الهرمون النسقى في الدعوة للحضور من الغياب , فالنصوص ليس تراكم لغوي في المعنى بل هو أتساع للمعنى المكون لنصوص لأن المعنى والأستدلال عليه يأتي من خلال الاستمرار الغياب والدعوة له بالحضور من هذا الغياب , هو التأكيد على انتمائها وعشقاها إليه برغم كل هذا الغياب المتأتي من البعد , والذي يمز نصوص هذه المجموعة هو المعنى المتسع في كثرت الدلالات وتركيب الجمل الشعرية المتغيرة مع احتفاظها بالبؤرة المتنقلة الى أبعاد الذات والظروف المحيطة حولها , والشاعرة استطاعت أن تنجح باستخدام التجاور اللغوي المكون للصور ومن خلال توظيف المعنى الترابطي الفهمي الذي أحتوى الدلالة وأتسع فيها الى تكون الدلالات بمعاني كثيرة والتي استطاعت الشاعرة أن تكون منطق الإيحاء بالرمز من خلال تكثيف الجملة الشعرية (لطالما تمنيتُ لو أخطُّ على صفحة قلبك : /كم أهواك ..! /لطالما وددتُ لو أخبئ نجمةً عشقتها /ساعة انتظاري لك عند شرفتي ؛ التي / حفظت كل ّتواريخ لقاءاتنا ، / وأنصتت لكل همساتنا /سيدي /لطالما تمنيتُ /ن أمرغ َ دمعي بكلماتك /أكتوي بوجعها / أبللها بعطر البنفسجِ الحزين /..حين تغيب )وتستمر الشاعرة في تكوين الصورة الشعرية معتمدة على هاجسها التصوري والمقارب الى وعيها الباطني في ترميز ما هو موحي بأحاسيسها النفسية المركبة من المعاناة الصورية لذهنية الجملة الشعرية لأنها تسعى من خلال هذا الى بث ما تشعر به من خلال مسالك النسيج الصوري التعبيري والمتقارب مع وجدانية الحضور والغياب في زمنها الوجودي الذاتي , فتتحول الجملة الشعرية لديها الى مناشدة فكرية تخيلية تحمل كل هموم الذات في زمن الغياب , والذي يميز الشاعرة كواكب البدري قدرتها على أعطاء الرموز الدفق الحي من مشاعرها التخيلية العالية الدفق الشعوري الذي يعطي للمسميات حولها رموز ذاتيه التصور, فهي تريد أن تبين الى سيد الغياب كم هو حاضر في وجدانها فكل شيء حولها يوحي بروح التأمل لغيابه وكل الأشياء حولها ما هي إلا صورة لغيابه في ذاتها وأشيائها التي تعيشها فهي تجده حاضر في هذه الأشياء برغم الغياب لأنها تجد المعنى في انتظارها إليه والذي يرتقي الى حد في نجمة الانتظار وهذه دلالة كبيرة بعمق سيد الغياب في روحيها فهي تصرح كم تهواه , وتتمنى حتى الاكتواء بعمق كلماته في وجدانها وتبللها بعطر البنفسج الحزين , وهنا الشاعر توحي بحزنها الكبير ولا تشير الى أسباب هذا الغياب والى والذي سببه لكنها تشير فقط الى الغياب , لأنها هنا تريد أن يستمر وجوده في حياتها من خلال الإشارة الموحية الى غيابه وما كانت تعيشه سابقا ممتد الى حاضرها مع أن الغائب لم يعد .. وهذا دلالة أشارية على أنها متمسكة به ولا يمكن أن تعيش دون هذا الغائب عن حاضرها ...نجد أن الشاعرة كونت الجملة الشعرية ثابتة المعنى ومتماسكة الدلالة ببؤرة متنقلة ضمن النصوص من أجل زيادة الأتساع في الإشارة الى أهمية من توصف حالتها بغيابه واستطاعت أن توحي لهذا من الترميز لكل الأشياء حولها وتقاربها مع همها الوجداني أي أنها جعلت من الخارج هو الرموز الحية لمشاعرها الباطنية وضمن منطقة التخيل الصوري في ثبات التأويل والدلالة في الغياب ما سببه من انتكاس حاضرها بسببه ومن خلال نسق الاستعارة الأشارية في تركيب الجملة الشعرية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق