أبحث عن موضوع

الجمعة، 10 أبريل 2015

الليلة الحادية والعشرون ............................. بقلم : جعفر صادق المكصوصي /// العراق




للربيع روح وإحساس يشعر من يمر بهم بأنه يحاورهم ويمدهم بطاقة كامنة تتفجر سعادة وهناء ويرسم ابتسامة على الأرض والورود والوجوه معا ، وله في العراق طعم خاص لقصر فترته وحب الناس أليه وجماله الأخاذ .
الوادي أمامي مليْ بجمال الربيع من نباتات حمراء وصفراء وبيضاء جعلت منه على امتداد النظر كثوب عروس مزكرش صنعت تفاصيله بعناية .
هنا في آخر خط من خطوط الدفاع الموضعي المخطط لنا أن ندافع فيه وسقوطه يعني دخول القوات المعادية إلى المدينة استحال الربيع الزاهي في بلادي إلى مشهد قاتم بسبب الحرب وويلاتها .
ليلة 9ـــ 10/4/2003 هي الليلة الحادية والعشرون من بدء المعركة المصيرية غير المتكافئة ، اللواء (847) لواء مشاة تنتشر وحداته لحماية البنى التحتية في الشمال ، و فوجنا الثاني من ارتب الأفواج وأفضلها تدريبا لكننا ألان بين المرتفعات والمنخفضات حفر وسقوف ورجال تواجه مصير مجهول ، المعنويات بدأت تنحدر رويدا رويدا والعزيمة تثبط والقوات المعادية تقترب والطائرات في جانب قوات التحالف كما نعبر عنها تمتلك السيادة الجوية ، الدقائق تمر كساعات ، الأخبار تتدفق بسرعة عبر مذياع العجلة نوع ( نيسان ) كل الأخبار لا تسر ماعدا خبر من هنا وهناك يشير إلى سقوط طائرة أو تدمير آلية معادية أو مقتل بعض جنود العدو من القوات المهاجمة .
خيم الظلام على الربايا ليبدأ فصل جديد من فصول الليالي المتعاقبة التي تحمل أخبار ابتلاع الأراضي العراقية من قبل مارد كبير قادم من وراء البحار ، لم يكن موضع فوجنا محصنا جيدا بسبب كثرة التنقلات نتيجة التمويه الذي نقوم به وتغيير المواضع المستمر لعدم إتاحة الفرصة للعدو من تسجيل المواضع وقصفها وكذلك ناتج عن التخبط في رسم الخطط العسكرية من قبل القيادات التي أقحمت نفسها في شؤون لا تملك مؤهلات اختصاصها في هرم القيادة الأعلى 0
جاء مقدم ركن حسين أمر الفوج يطمأن على الأوضاع وكان كعادته يعطى الأمور اكبر من حجمها رغم أن الأمر هذه المرة أساسا هو كبير جدا 0
ـــ كيف أنت يا رائد ركن جعفر .
ـــ الحمد لله بخير و كما ترى الموضع حفرة رطبة والجو مازال باردا في الليل رغم دخولنا في فصل الربيع .
ـــ كانت الليلة السابقة من أكثر الأيام زخما في شدة قصف الطائرات .
وقطع حديثنا الانضباط وسام مهرولا من الوادي وينادي .
ـــ سيدي ... سيدي أصيب عقيد ادهم وهو ضابط ركن ميرة اللواء 0
نظر لي عقيد ادهم ثم رفع عينيه نحو السماء وردد وصلوا رسالة إلى أهلي بأن يهتموا بأطفالي من بعدي ويقولوا لهم ا ن اباكم ثبت وقاتل قال كلمته الاخيرة هي قراءة الشهادة ، قبض بكفه الأيمن على حفنة من التراب وسلم الروح إلى خاقها .
جلس بجواري مقدم محمد مساعد أمر الفوج ما هي سوى ساعات وجاء جنود الوحدات التي أمامنا وهم ينسحبون بشكل عشوائي بعد أن تكبدوا خسائر بالأرواح والمعدات بسبب القصف الشديد والضربات المتتالية .
ـــ لا شيْ أكثر هدما للمعنويات من أن ترى القطعات التي أمامك تعود منكسرة .
توالت الضربات على موضعنا الدفاعي
المقدم محمد ينظر لي بخجل وعيناه تتكلم أكثر من ما يريد قوله لسانه
ـــ أن الموضع الدفاعي بعد أن دمر بنسبة 75% أصبح من وجهة النظر العسكرية غير قائم والأولى تركه والانسحاب منه
ـــ أن تركنا الموضع معناه تركنا العراق ، أتعلم أن الموضع ليس مجرد موضع أنما بلد بأكمله ، ما هي ألا لحظات وصاروخ يسقط على بعد (50) متر عنا ويدمر أخر ما تبقى من آليات الفوج
ـــ لنجمع ما تبقى وننسحب بالتسرب إلى داخل القرى المجاورة .
ـــ في الشدة يكبر الرجال وتتعالى هاماتهم .
ـــ أبنائي ها هو الموضع الدفاعي الرابع يسقط ولم يبقى لنا موضع أخر سوى بيوتنا.
ـــ رغم قسوة العدو وصواريخه لكن الضباط والمراتب لم يتخلوا عن ضبطهم حتى أخر لحظة .
ـــ نعم اعلم وهذا ناتج عن أصالتهم وتدريبهم الراقي وحبهم لوحدتهم وأمريهم ووطنهم
ـــ سيدي أن بقينا هنا أما أن نقتل أو نأسر
ـــ نعم
ـــ وعلينا ألان أن نضع أسلحتنا بعيدا عنا لان وجودها معنا يجعلنا عرضة لقنصهم وقصف طائراتهم.
ـــ أن مرورنا بدون سلاح أكثر ايجابية وفائدة لنا لان الاحتلال أصبح واقع حال لا يمكن تغييره
ـــ سوف نسلم أسلحتنا إلى البيوت في القرية المجاورة
ـــ الرجال صناع التاريخ و أحيانا تملى عليهم تصرفات بفعل واقع ما
ـــ انظر سيدي إلى الجسر قد دمر ولم يبقى منه سوى الجزء الذي يحتوي على سكة القطار
كان الجسر وكأنه سجادة جميلة تمثل تراث بلادنا نسجت بأيدي حائك ماهر ومزقت بأيدي رجل مجنون متعته تكتمل بالدمار والحرق .
عبرنا الجسر المؤدي إلى المدينة مهرولين والطائرات في السماء كأنها غربان تبحث عن الخراب ، مددت يدي في جيبي باحثا عن هويتي فلم أجدها وشعرت أني رجل فاقد هويته ووطنه وتيقنت أني أصبحت مواطن في بلد أسير أصوات الطائرات وأزيز الرصاص في كل الاتجاهات أجنحة الموت ترفرف في كل مكان أصبح من الطبيعي أن تشاهد جثة هنا وهناك .
ـــ هل نحن قلقون على أهلنا ؟ أم أهلنا قلقون علينا ، أم الجميع يعيش دوامة القلق ؟
ـــ هل سنجد أهلنا سالمون أم نجد بيوتنا مجرد أطلال وخرائب ؟
نظرت إلى المعسكر المجاور والقوات الأمريكية قد احتلته ووضعت الحواجز على الشوارع
ـــ انظر سيدي أنهم جنود أمريكان ، نظرت إلى الجنود الأمريكان وهم يمتطون آلية ضخمة من آليات المارينز وهم مدججين بالسلاح والخوذ تعتلي رؤوسهم ولا يكاد يرى من أجسامهم شيْ ويبدون كأنهم يرتدون بدلات رواد فضاء حينها سقطت دمعة من عيني إيذانا بالاعتراف بأن بلدي أصبح أسيـــر
بغداد مدينة محيطها أعمدة دخان نتيجة للحفر الكبيرة المليئة بالنفط الأسود الذي تم حرقة ليكون اكبر دخان يستخدم للتمويه في معركة لكنه دون جدوى سوى انه أضاف واقعية لحزن بغداد الكبير ليلة أسرها تذكرت حينها المدينة التي ولدت وأكملت دراستي فيها وتذكرت هتافاتنا ونحن فتية مطالبين بتحرير ارض فلسطين وها نحن اليوم نصبح بلدا محتلا ايضاً المعابر نحو بغداد مقطوعة سوى من أماكن خصصها الأمريكان الليل أسدل ظلامه والدخان قضى على أخر شعاع من نور السماء أو من الأرض يمكن أن ينير لنا الطريق ، عبرت معبر عبارة عن أنبوب ماء فوق قنطرة مشيت مسرعا وزلت قدمي بسبب الطين الذي فوق الأنبوب الكبير وسقطت متدحرجا إلى خارج المعبر على يميني ، ألمتني يدي اليمنى وساقي الأيمن وصار لزاما علي أن أتوقف لأنظر إلى بغداد من محيطها الخارجي وهي تحترق .
ـــ القضية اكبر من أن تفهم في أيام .
ـــ الوطن أغلى من الروح والابن والمال .
فقدت حواسي قوة الإدراك بالجهات الأربع لا اعرف الشمال من الجنوب ولا الشرق عن الغرب ربما هي بداية ضياع الأفكار وغموض التصورات ومحنة كبرى .
نظرت إلى الجندي المنحدر من سلالات الجنس الإفريقي وهو يمتطي دبابة برمائية من دبابات المارينز الأمريكي وهو يشعر انه إنسان درجة أولى ونحن مجرد بقايا حضارة تم سلب وطنها .
قلت للرجل العجوز الذي يهم بالدخول إلى المدينة مسرعا حاملا عقاله بيده.
_لماذا لاترتدي العقال ؟
ـــ يا بني أن العقال فوق رؤوسنا رمز للعزة والكرامة ولا اعتقد أن أي مواطن في الدنيا يشعر بهما مع وجود المحتل .
أول ما فكرت به المرور بالمدرسة التي أنهيت بها الابتدائية ، شعرت بالحاجة إلى البكاء عندما رأيت جدرانها وتذكرت العلم الذي طالما رفعته في أيام الخميس ونشيد عش في علو هكذا أيها العلم أننا بك بعد الله نعتصم ، الطريق إلى البيت له عدة محاور ، اخترت المحور الذي يؤدي إلى بيت حبيبة عمري وقمري الذي لم يكتمل .
عيونها دامعة أمسكت بيدها غصن شجرة زيتون وتقف في باب منزلهم ولوحت به نحوي ربما أرادت أن ترفع من معنوياتي التي تبدو في غاية الانكسار واستمريت في المسير وشعرت بخطواتها خلفي 0
ـــ انتظرتك والدموع لا تفارق عيني كدت أخشى أن تكون النهاية 0
ـــ أستشهد احمد ابن منطقتنا وهدم بيت سيد عبد الكريم بسقوط صاروخ من إحدى المروحيات الأمريكية و الحمد لله لم يكونوا بالمنزل لكونهم رحلوا خلال المعارك إلى مدينة ديالى 0
وأم مروان استشهدت اثر سقوط صاروخ على منزلهم مباشرة ولم يستطيع الناس أخلائها إلى المقبرة نتيجة اشتداد المعارك وتم دفنها في حديقة المنزل ثم بعد يومين أخرجت ونقلت إلى المقبرة وبدأ الناس كالوقود الذي ينتظر النار ، القوة عمياء تدمر كل شيْ تقتل الإنسان والحيوان والنبات وتهدم المباني الغبار يغطي الشوارع والمنازل والمحلات والدخان يرسم لوحة المأساة ويكتب دراما حزينة0
بغداد كئيبة باكية لبست السواد وأعلنت الحداد .
ـــ أن نظرنا الذي نرى فيه من نور بغداد والهواء الذي نتنفسه من رئة العراق والماء الذي نشربه ويطهرنا من دجلة والفرات .
ـــ نعم لقد لوثوا كل شيْ الأرض والماء والهواء وقالت ذلك بصوت يشوبه اليأس .
ـــ أنها محنة وطن وبداية كابوس مظلم مرعب طويل .
ـــ وصلت إلى البيت واحتفل الأهل بسلامتي ونصبت عزاء محنة الوطن .
ـــ هذه الليلة من أطول ليالي السرار وهذا اليوم من اشد الأيام حزنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق