... تجرّعت صديقتي آخر ما تبقّى من قهوتها في نَفَس واحد كمن يبتلع حيرة متلجلجة ونظرت إليَّ نظراتِ استنجاد ثاقبة وقالت: بل الأغرب يا صديقتي أنّه يرى بهذا الصّنيع إنّما هو يردّني إلى ذاتي ويدعوني إلى إحياء ناري قبل أن تُضحي رمادا !!!
صمتت صديقتي برهة وقد امتقع وجهها ولاحت غيمات ممطرة بعينيها وقالت بصوت كأنّه الحشرجة: أرأيتِ كيف يُعتَدى علينا عقلا وحسّا؟! وممّن؟!!!
أجبتُها بأسى: إنّه منطق شهريار في مملكة الحريم!!! وعودة أساف ونائلة بشراسة عهر يتزيّ ببُرْدِ الفضيلة!!!
قاطعتني صديقتي وقد انفرجت أسارير وجهها: ها قد وضعتِ إصبعك على صميم الوجع: إنّ نائلة، اليوم صارت أعتى وما من كارثة إلّا ونائلة فيها شريكة فاعلة!!!
أومأتُ برأسي أن نعم وقلتُ بحماس: ما تجرّأ الرّجال على حرائر النّساء إلّا لاعتقادهم الضرير بأنّ كلّ النساء نائلة وكلّهنّ أَوْهَى من خيوط العنكبوت!!!
أضافت بمرارة في الحلق: بل لأنّ شهريار لا يزال متربّعا على عروش قلوبهم...فلا الثقافة أبلتهُ ولا شهرزاد غيّرت من أمره وأمرها شيئا...!!!
قلتُ وكأنّي أثأر من نفسي ومن كلّ بنات جنسي: ماذا لو قتلتْ كلّ واحدة منّا شهرزادها؟؟؟
ردّت صديقتي: بل الأجدى أن تقتل كلّ امرأة شهريارها المعشّش في أركان بيتها، فتستقيم الحياة!!!
ضحكنا معا ونحن نردّد في ذات الوقت: ألا تُمسي الحياة جنّة إلّا بارتكاب جناية؟؟؟
صمتتْ وصمتُّ لتفاجئني بسؤال مربكٍ: ما نصيب صديقنا أبي نضال من شهريار؟!
قلتُ: تخمينا وليس لي أن أجزم: هو ألف شهريار وإن جاهد النّفس واستدعى الرّوح!
ابتسمت وقالت: كم أنت قاسية، أمَّ سلمة!!! ألا ترين فيه صدقا؟؟؟
أجبتها دون تردّد: وما شأن الصدق؟! قد يكون صادقا... صدوقا ولكنّه لمّا يتخلّص من شوائب الجسد وأحكامه...!!!
قالت بهدوء المنكر عليّ أمرا: أممكن أن يستغني المرء عن جسده؟! إنّكِ لتبغين شططا مريبا !!!
أجبتها فورا: بل الشطط، يا صديقتي في ما يبغيه الرّجال من نساء هجرن مملكة الحريم وأعلنّ التمرّد على أن يكنّ مجرّد صورة جميلة تمتع النّظر أو وليمة فاخرة تشبع جوعا وتروي ظمأً!!!
قالت بحماس: صدقتِ!!! وبوركت...
أضفتُ: ألا ترينَ معي أنّ من كانت روحه الجوعَ لا يشبع أبدا؟؟؟ وكذا الرّجال، صديقتي... كلّ الرّجال بلا استثناء!
قالت: لا تُعمّمي!!! فمن النّساء كوارث أتعس من الرّجال... بل ما خُرّبت بيوتٌ إلّا بسببهنّ...!!! وانبرت تحدّثني بخبر جارها العجوز الذي أغوته صديقة ابنته الصغرى، وهي دونها سنّا، حتّى دمّرته وكلّ الأسرة وظلّت ترقص على أنقاضهم وقد "أنصفها المجتمع المدنيّ" ما دامت قاصرا !!! ثمّ صمتتْ لتستدركَ فتقول جازمة: إنّ جوع الرّجال للحبّ كافر، وشوقهم للجسد جامح، لذلك تراهم يغامرون بحثا عن بِكْر السبيل حتّى وإن ساروا والهاوية!!!
قلتُ: ألا تروق لهم المغامرة إلّا خارج البيوت؟! أما من امرأة قادرة على طرد هذا الجوع وترويض هذا الجموح الجسور... فينعمون بالامتلاء ويزورّون عن ذلك الخلاء؟!
ضحكت صديقتي ضحكا كالبكاء وقالت: لا ينفع الجهد في من أغوته تفّاحة، وسيظلّ مولعا بقضم جميع المذاقات، قبل أن يصيبه الخواء والفناء!!!
همّت صديقتي بأن تُبينَ عمّا اعترى محيّاها من ظلال وارفة التيه وإذا بالباب يُطرَق طَرَقاتٍ متتابعة لاهثة وإذا بصوتِ أبي نضال يخترق المدى مسلّما وداعيا كلتينا إلى رفقته وقد تأهّب للسّفر وما حمل معه غير عصاه يهشّ بها على بنات أفكاره ودواة وبعض قراطيس هي أشبه بطروس باهتة ظلّ يرتّلها على مسامعنا تراتيل وجدٍ آتية من السماوات العلا، فيرتجّ البيت من حولنا ويضجّ النبض حريقَ شوقٍ كما لم يضجَّ أبدا... وكان أبو نضال يستعجل إسراءنا إلى ما لا يدرَك، إلى حيث تعزف الروح تمائمها وتعرج إلى أقصى لواعج العشق وأقساها وأسناها... بيد أنّنا ــ وقد طال بحثنا عن أجنحتنا ــ ما أُسْعِفْنا إلّا بزغب الحواصل وهطلٍ من الأمنيات...
مساكن، في 12 ماي2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق