أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 2 فبراير 2016

الرمزية في الشعر بين الحداثة والغموض.................. بقلم : د فالح الكيلاني // العراق



تجلَّت الحداثة الشعرية في الوطن العربي في سبعينات القرن الماضي وبعد انتشار قصيدة النثر اذ اعتمد اغلب الشعراء- شعراء قصيدة النثر- الرمزية الغامضة في قصائدهم بشكل مفرط على نحوٍ تجسَّدت فيه جملةٌ من تحولات مفردات القصيدة الشعرية ، وفي تحولاتها الموضوعية والجمالية وأساليب التعبير في التجربة الشعرية-ان صح التعبير - بحيث تباينت مواقف الشعراء وتفاعلهم إزاء موضوعات جديدة في الشعر هي اقرب للفلسفة منها للشعر مثل الموت والحياة و الوجود و الحقيقة. وادخل هذه التشكيلات في بنية نصوصه الشعرية على مستويات متماثلة هي اصلا من اساسيات الشعرية منها اللغة والدلالة والايقاع والصورة.
أولع شعراء قصيدة النثر بالرمزية الى حد الغموض حيث يرون فيه جمالا لا يتحقق الا في المعاني الخفية و يشبهون الرمزية في نتاجاتهم الشعرية بانها ( كالعينين الجميلتين تلمعان من وراء النقاب ) وكان للرموز والأساطير التي أولعوا بها منذ سبعينات القرن الماضي ولحد الان اثر كبير في غموض القصائد الشعرية، الامرالذي طرح نوعية التوصيل الى المتلقي وصعوبته أحيانا، نتيجة ما وراء هذا الغموض من فلسفة فنية وحياتية يشوبها نوع من الغرابة في استعمال اللغة والعبارات الغامضة البعيدة عن الواقع الفعلي وقد كتبنا كلنا في قصيدة النثر وولجنا هذا الخضم الى جانب قصيدة العمود الشعري واستعملنا الرمز في قصائدنا لكننا لم نوغل في الغموض مثل الشعراء الشباب .
واذا رجعنا الى تاريخ الشعر وجدنا الرمزية لها وجودها في الشعرالقديم ايضا اذ كان الشعراء لا يصرحون ببعض الامور التي لايرغبون ان يعرفها الاخرون في قصائدهم ومن هنا قيل ( المعنى في قلب الشاعر ) فالغموض في الشعر ليس معضلة تأويلية جديدة إذ أن طبيعة أي عمل فني يفترض على من يتعامل معه أن يجد سبلا لمعان متعددة ومتضاربة ويقاس هذا بامكانية الشاعر وقدرته وقابليته الفنية .
يقول القاضي الجرجاني مشيرا الى رمزيته في التعبير الشعري:
( وليس في الأرض بيت من أبيات المعاني قديم أو محدث إلا ومعناه غامض ومستتر، ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تفرد فيها الكتب المصنفة وتشغل باستخراجهما الأفكار الفارغة).
وعليه فمن حق الشاعر ان يستخدم المعاني الخفية تلافيا للوقوع في أسر الابتذال والتقريرية فالشعر يتطلب الرؤيا على ان لا يجبر المتلقي – في رأيي الخاص – على استخدام قاموس اللغة واللهاث وراء معرفة ما قصده الشاعر في قصيدته بحيث يجعل مسارها مظلما حالكا عليه وعليه ان يترك فجوة تعبيرية او منفرجا للولوج منه الى جو القصيدة وان للشعر لنافذة تطل على المطلق، وحالة لا يمكن إخضاعها للنظر البارد كما يقولون.
فالرمز– إذن– يلازم اللغة الشعرية الخيالية القائمة على المجاز والمفارقة للغة العقل والمنطق والسهولة، فهو من افضل و أنسب المسالك للتعبير عن الذاتية النفسية وسبر اغوارها لأن جوهر الشعر الذي يعبر عن عمق التجربة قد لا يبدو واضحا او محدد المعالم . فالغموض بصورة عامة صفة مشروعة من صفات الحداثة حين يصدر من أعماق تجربة ذاتية تحافظ على عمق الرؤية الفنية والخيالية الشعرية عندها تكون بعيدة عن النثرية او الحالة التي تحول بالفعل الخطاب الشعري إلى كلام عادي اقرب الى النثر منه الى الشعر على ان يكون قوامه العقل والمنطق والوضوح.
يقول الشاعر نجيب حماش في احد قصائده :
يتعفر بالورد والفلسفات
الحصى وقته انزياح المعاني
غامضا أبدا في فيوضات أنساقه
لايحد ولا ينتهي،
لاتفاجئه الأزمنة
لا يقال له أنت أو هو
ياملك المفردات
ويقال له ما يشاء
الندى وقته والنساء
ا نها تمثل الغازا وغموضا كثيفا وستارا ثقيلا لا ينخرق بسهولة ليدخل المتلقي الى ما يريده او ما يقصده الشاعر او يرمي اليه فهل نقول للمتلقي ( ولما ذا انت لا تفهم ما يقال ؟ ) وكأننا نريد من الناس ان يفهموا ما نقول مهما كان غامضا فالشاعر في هذا المقطع يعبر عن حالة معينة قد يصعب فهمها من قبل المتلقي وحتى المتمرس في قراءة الشعر مهما كان مستوعبا لأمور الحداثة الشعرية
و جديد ها ،
نعم قد يكون هناك ربط بين ظاهرة الغموض بطبيعة الرؤية الجديدة التي طبعت ولازمت القصيدة المعاصرة وبين النص الشعري المعاصر بحيث يبقى منفتحا على كل الاحتمالات المعرفية والحد سية والخيالية - ان صح التعبير- التي تجمع بين تناقضات الرؤية ومحاسن اللغة وتعدد الرمزية باشكالها المختلفة وفقا لمقدرة الشاعر وتوجهه .فالشاعر المعاصر يعبّر عن حساسية حضارية واسعة اساسها القلق النفسي هذا الذي هو ظاهرة العصر الحديث والبحث عن اللامحدود وعليه اصطبغت الرؤية الشعرية لديه بلهجة شديدة الغموض والتعقيد بحيث اصبح الشاعر المعاصر شاعر المفاجأة والرفض اذ تمر القصيدة بمتاهات طويلة ضيقة فلا يـبقـى عنده غير الإبداع فيفجره في جميع الاتجاهات كيفما شاء وهذه قد تختلف مساراتها بين شاعر واخر في انتقاء الرمز او انتقاء الكلمة المعبرة ذات المغزى المبهم على اني اميل الى الرمزية الواضحة او القريبة المأخذ بحيث يحسبها المتلقي نوعا من التمثيل البلاغي أي الرمز القريب الى نفسية الشاعر في حدود معرفة المتلقي وان كان الرمز مبهما ايجاد اكثر من ضوء ليكشف الابهام والغموض كي لا يبقي مجالا للعتمة .
وقد سلك الرمزيون طرقاً مختلفة لبناء الصورة الرمزية وابتكروا أساليب عديدة لاستخدام الرمز، ونجحوا بذلك في تصوير مشاعرهم المعقدة بعد أن أدركوا أن اللغة - بتراكيبها المألوفة- لا تقوى على مثل هذا العطاء الثر، وخطوا بالصورة الرمزية؛ لتصبح ذات كيان مستقل عن الواقع المحسوس وبذلك اختلفت الصورة الرمزية عن الصورة المجازية -سواء كانت استعارية أو تشبيهية- كما اختلفت عن التعبير بالكناية والتي ترتاد -أحياناً- تخوم الرمزية التي تُعد تطويراً لها فالتعبير بالكناية ترافق مع الأدب القديم، وسلك في شعاب التقليد ومدرسته التي اعتمد على القوانين العقلية المحضة وعالمها الواقعي المحسوس. وقد أشار «إيليا حاوي» إلى أن الكناية تباين الرمز في أنها مستفادة من الواقع فيما يبدع الرمز مَشا هد ه الحسية، أو يتفطن في المشاهد الواقعية إلى دلالات غير واقعية وغير مبذولة -وإن كانت صادقة-.
وخلاصة القول ان من المفيد في حالة استخدام الرمز ية المفرطة الى حد الابهام والغموض ولكي لا يكون المتلقي امام ليل حالك لذا توجب ان يوجد الشاعر فجوة او فجوات ليمر النور من خلا ل بناء القصيدة في اللغة والأسلوب والمقصد الشعري فيضفي اليه مجالا يمكنه من الإبحار فيها ويتحرى مقاصدها وما تروم اليه وشد القارئ اليها وثيقا بدلا من تركه لاهثا متعبا في إيجاد ملمس ليحل رموز المعاني او المقاصد المبتغاة وهذه الفسحة هي التي يحسن الشاعر هند ستها بما أوتي من قدرة لغوية وشاعرية فذة وينفذ من خلالها الى نفسية القارئ او المتلقي وحتى الناقد والتأثير فيه وسحبه اليها سحبا جميلا ليحقق طموحا ت نفسه التواقة الى الرفعة والسمو .
امير البيان العربي
د فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق