أبحث عن موضوع

الخميس، 17 ديسمبر 2015

هلوسات نقدية في رحاب قصيدة (دجلة) للشاعر عبد الجبار الفياض / العراق * بقلم الأستاذ : صالح هشام /المغرب





مستلق على السرير ! رأسي مغطى تماما، وضوء( الطابليت) الخافت ينير عتمتي ، ومفاتيحها تتراقص تحت أصابعي ، يثيرني عنوان قصيدة (دجلة ) وأنا على رصيف أفكاري أرتبها لأستقبل يوما جديدا ، بجرأة قفزت عيناي إلى القصيدة تقيسان مساحات البياض والسواد فيها ، كانت سطورها أشبه بالبحر سواد مده إلى حد الهيجان وبياض جزره إلى حد التقتير ،قلت في نفسي هذه دفقة شعورية غير عادية لشاعر غير عاد ،وجدلية البياض والسواد في القصيدة الشعرية مفتاح نفس الشاعر ودليل على ما يستقر في عالمه الداخلي ! هذه إذن قصيدة تصلح للقراءة على الأقل :إنها ستختلف عن تلك الشذرات التي عوض أن أقرأها وأتلذذ بما فيها من جمال اللغة أجد نفسي أفرق بين ياء المخاطبة وكافها (كتابكي ) مجتمعين في الكلمة الواحدة . أردت لملمة جوانب هذه القصيدة و أنثر باقات ورودها القرمزية على فراشي هذا الصباح . علي أشبع جوع ذائقتي من هذا الحرف العربي البراق السامق الشامخ الذي يظهر كالثعلب ويختفي بين تلافيف سطورها . أقرأ القصيدة على السرير منبطحا .أجد عيني تدوران دورة لولبية وتستقران في محجريهما . فأتوقف عن القراءة ، هذه قصيدة مميزة ربما فيها ما يحلم بقراءته كل مولع بالشعر .أعيد الكرة ترى هل أصابني العمى الأزرق؟ربما لم أعد أبصر ؟ما بال هذه الحروف تمارس أمام عيني طقوس الرقص الجماعي ولا تكاد تستقر في الجملة على حال ؟ يصيبني التلف . فعلا أتلف .أضيع في متاهات سطور قصيدة( دجلة ) .وأنا كالأعمى أتلمس طريقي بين الجمل .فلا أجده . ليست هذه أول مرة أقرأ فيها الشعر وأنا مستلق على الظهر . وأفهم وأكتب وأنتقد . لكن (قصيدة دجلة )تستعصي على فهمي المتواضع، فلا أفهم سطورها تتمنع علي تخفي عني خفيها وتستر عني مستورها :تمنع (بغداد /العراق )عن دنس التاريخ المعاصر .التاريخ الأبيض: بياض الكفن أو بياض العمامة العربية الخالي من الخربشات . جاءني همس قوي دغدغ مني طبلة الأدن كاد يثقبها و يصيبني بالصمم :يا هذا (دجلة/ القصيدة) تمارس العصيان ! دجلة تتمنع عليك حروفها ما دمت على الظهر مستلق. دجلة حبلى بالتاريخ ! انك في حضرة التاريخ العربي الصحيح. انك في حضرة عشق الحلاج الصوفي .وتحدي شهرزاد للملك شهريار الذي يغلبه النوم فيغلب كل شهريارات العرب في هذا العصر ! إنك في حضرة عظماء التاريخ . فاحزم حزامك لا مفر من التحليق في عالم الرمز بالأسطورة أو بغير الأسطورة ، عالم الانزياح وبلاغة الغموض ، إلا أن هذا لا يهم ! ما يهم هو أن تطاوعك القصيدة وتجود عليك ببنية تليق بمستوى معرفتك المتواضعة ، وما أكثر بناها فلتترك لأصحاب الاختصاص، فالشاعر يترك مساحة من الخفاء و الستر في قصيدته ليحرضك على التخمين والحدس والتأويل والتفسير، فلك الحق في ذلك ما دامت (دجلة ) منفتحة على جميع التأويلات والتفسيرات والقراءات . فكك من رموزها ما استطعت وشرح (بكسر الراء مع التضعيف )بناها علك تحصل على الفائدة وربما لا يسعفك جناحاك في التحليق فتكرر مأساة عباس ابن فرناس . نجاحك في التحليق سيشعرك برعشة الانتشاء وتأجج (شهوة الغرابة والاندهاش) فتكاد تقرفص و تبوس أقدام(شهرزاد /التاريخ). وتلبس عباءة الحلاج وتدخل في غيبوبة شطحاته الصوفية وبأسلوبه الصوفي المتفرد يجمع لك أعناق المختلف من الكلام يقرب لك المسافة بين الكلمات. يرتبها لك ويذيب ذات البين بينها ويؤلف بين المتباعد منها ، ،فيومض بريق ينير لك عتمة السطور ويشعل في نفسك نار حب كشف الخفي والمستور . ثم يخبو ذلك البريق فجأة ،تشك في أن ابن النظام يأخذ منك باقة حروفك القرمزية الزاهية الألوان و يقول لك : لست مؤهلا بعد لدخول مغامرة كشف خبايا الحروف في ( دجلة / القصيدة) . قلت في نفسي علموني في المدارس أن ( الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود ) وعلموني كذلك أن المال يشق لي طريقا في البحر . لماذا إذن لا أمارس لعبة الارتشاء أرشي ابن النظام ليعيد لي باقة حروفي القرمزية فالحلاج رتبها لي ودعاني لشطحة صوفية . ربما هو حاتمي الكرم عكس ابن النظام . رشوة ابن النظام تحتاج إلى خزائن الدنيا .آه ! تذكرت أن كنوز لقمان مفتوحة أمامي لأمارس المحظور . أو أساعد محتاجا جوعانا مريضا وأتخلى عن معركتي مع حروف ( دجلة /القصيدة ) .وأعلن انسحابي النهائي . لكن بريق الحرف يستهويني من جديد ويجلبني إليه كالضوء يجلب الحشرات الضالة لتنتحر على خيوط النار معتقدة أنه نور ساطع .
زرياب يسند ظهره إلى حائط متهالك .يوشك أن يتداعى فيدمر تاريخ الموسيقى ، ويغتال النوتة في النفوس العربية فتغوص في اللوم والعتاب الذي لن يزيد التاريخ إلا نفورا من الحقيقة نفورا من تأريخ التاريخ العربي . قال لي زرياب ها أنا أفتل أوتاري وعلى شرفك سأزيد وترا آخر اخترله أنت ومكانه في جغرافية الأوتار ، كما يحلو لك ،واترك حروف( دجلة ) فالموسيقى واللغة شقيقتان لكن عفن الذوق هو الذي خلق بينهما الفرقة والجفاء فما الفرق بين الجملة الشعرية والنوتة الموسيقية ؟ ألم تساهم موسيقاي في تطوير موسيقى القصائد الشعرية أم أن الشعراء ناكرو جميل ،تأملت زرياب كثيرا وقلت في نفسي :
- زرياب هذا سيغرقني في بحور الخليل وأكون سبب خصومة بينه. وبين شعراء عصري . فالبحر جزئت أطرافه على محراب التجديد ، وأصبح لقمة سائغة لكل من يريد أن يتشاعر لا أن يقول الشعر لأن الشعر له ضوابطه الصارمة . هي الهبة إذن فقدتها بحور الخليل كما فقدتها معلقة طرفة وعنترة وقصائد المتنبي وأبي العلاء المعري .فأنا إذن سأكون ضحية احتيال من الموسيقي زرياب .انه يريدني ان أشرب من عرق الميت فاتخلى عن رقصة القصيدة الشعرية في : (دجلة/القصيدة ) .طريق زرياب إذن غير سالك . إنه يغريني أن أتبع خطاه لأشاركه جريمة اغتيال ديك شهرزاد وأنبح مع بنات آوى وأقتسم معها جزءا كبيرا من تزييف التاريخ . فصياح هذا الديك العجيب كان يسكته شهريار كل صباح . أما بنات آوى فقد أسكتنه وإلى الأبد واحرقن جميع كتب ألف ليلة وليلة وتوضأن بدماء عذرية شهرزاد التي قهرت الملك شهريار لكنهن قهرنها فكن أذكى من شهريار ومن شهرزاد ولم يخترن من الإسمين إلا( الشين والراء) ومنهما سنن قانونهن . ومنهما شرعن وحكمن . معذرة ستفلت مني خيوط (دجلة) إني أرى حروفها بدأت تخبو في ذاكرتي المثقوبة .التي أتوقع أن تصبح فارغة تماما كفراغ تاريخ بنات آوى. من بعيد أشار علي الفقيه الجرجاني وهو يرفل في دمقس اللغة ، عظيم قراء القصيدة العربية . عدل عمامته الكبيرة فوق رأسه وضحك كتى كاد يستلقي على قفاه وقال لي: 
_ يا هذا إذا أردت أن تقرأ قصيدة (دجلة) فلن أبخل عليك بقاعدة صنها و ضعها حلقة في أدنك !
قلت له وقد استبشرت خيرا :
_ما هي هذه القاعدة يا شيخنا، إن حروف قصيدة (دجلة ) لا زالت تنتظر أن أجلي غموضها وأكشف سرها !
فطبطب على بطنه منتشيا بنظرية النظم والعامل وقال :
_ قاعدتك عصارة النقد قديمه وحديثه ،و لن تحتاج إلى غيرها لتفسير وتأويل خبايا (قصيدة دجلة ) فقط آمن بأن ( أجود الكلام : شدة ائتلاف في شدة اختلاف ) وهو جمع أعناق المختلفات والمتباينات ! 
ثم ناولني كتابا وقال :
-إقرأه وتفقه ففيه جميل الكلام فتنهار أمامك حروف (قصيدة دجلة ) وستشعر أنك تبتلع حروفها شهدا يسيل عسلا ، وأن أقدامك تنزلق في ركام الزبد ، لا إسفلت ووحل عصركم هذا !
تفحصت عنوان الكتاب (أسرار البلاغة ) غصت في أسراره ولا زلت إلى يومنا هذا أغوص فيها ، كلما شكل علي أمر ما وتعذرت علي قراءة قصيدة . وجدت نفسي الآن أقدر على قراءة (قصيدة دجلة ) واستجلاء أسرارها الخفية والوقوف على رائحة النصوص الكثيرة التي تمتصها هذه القصيدة الحبلى بالرموز والدلالات والمعاني ، ولن أشعر بعد اليوم بالقلق أو الخوف من عدم القدرة على الفهم والاستيعاب وبين يدي "أسرار البلاغة " !!
بقلم الاستاذ ..............................................صالح هشام 
الرباط /المغرب ..............................الاربعاء ١٦|١٢|٢٠١٥ .
دجلة /قصيدة شعرية للشاعر عبد الجبار الفياض 
بُحَّ صوتُ الفجرْ
المآذنُ 
تستيقظُ نائمةْ . . .
أكانَ ديكُ شهرزاد وليمةً لبناتِ آوى ؟
. . . . .
لو أنَّ دجلةَ ابتلعتْ يوماً من صمتْ
لو قذفتْ حملَها الكاذبَ في بطنِ البحرْ
غسلتْ هذا الثوبَ البغداديَّ من دنسِ العُتمةْ . . . 
دافتْ حناءَ السَّعدِ لبابِ الشيخْ
ربطتْ بريطتِها جُرحَ الأمسْ
لو أنَّها أمطرتْ عشقاً فوقَ رمادِ اليومْ . . . !
. . . . .
أطابَ لها ليلٌ غير الألفِ وليلةْ
صورٌ قاتمةُ الألوانْ 
محاقْ ؟
شرابٌ 
مِنْ عِرْقٍ مَيّتْ 
تناخبتْهُ من قبلُ طسمٌ وجديسْ ؟
أثرى وهي الثريا ؟
. . . . .
نقيقُ سمانْ
زادٌ مسمومْ
جوعٌ 
يمضغُ أسنانَهْ
بأيّامٌ سائيةْ
تهشُّها عصاً غليظةْ 
ما كانَ لخضراء دِمَنْ أنْ تُنْبـتَ شقائقْ. . .! 
. . . . .
أينَه ُ 
وقِدْرٌ بأعلى نخلةْ ؟
أفرغَ مُلَحَاً على رؤوسٍ 
سالتْ رُغاءً بحضنِ الوالي . . . 
خرجَ 
ثوباً بلا أزرارْ !
. . . . . 
أنْ يجولَ بينَ الرّصافةِ 
والجسرْ 
ولا تُفقأُ عينُ مهاةْ . . .
أيُستودعْ قمرٌ 
في بغدادْ ؟
وعندَ البابِ 
يفتلُ زريابُ اوتارَهُ حُزامَ سفرْ . . . 
. . . . .
أيعودُ صادحٌ 
يبكي سفحَها عن بُعدْ ؟ 
ينعى مقصورتَهُ بين موجٍ وجُرفْ . . . 
جرحٌ فمٌ
تلوّنَهُ تنويمةٍ منْ مُدنِ الفتحْ 
تصفعُ وجهَ الخوْفْ . . .
لا نومَ وركبٌ 
يزمُّهُ من الفجرِخيطْ !
. . . . .
ليلٌ أعمى 
يمسحُ الحلاّجُ دمَهْ 
بصمتٍ 
يشربُ صمتَهْ 
عشقاً 
يتنفّسُ برئةٍ مثقوبةْ
يا لزنبقةٍ تخرجُ في أرضٍ مواتْ . . . 
. . . . .
عُتْمٌ 
يبحثُ عن عينيْه 
فيداهُ 
تمرّدتا !
سبقهُما وقوفاً فوقَ قَدَرٍ قاتمْ
. . . . . 
إبنُ النّجارِ 
يصنعُ تابوتاً لهُ منْ حُبْ 
ليتَهُ صدَّقَ نبأً من هُدهُدْ
تحتَ وسادتِه
عطرُ وَطَنْ
حروفٌ من تمّوزْ
صفدٌ من مالِ قارونْ !!
. . . . .
شفاهٌ 
تكوّرتْ وَجَعاً لوداعْ ؟
مقابرُ جَذْلى 
إليها 
يُزفُّ عُرسْ 
عِشقٌ يُدفَنْ 
فبماذا يحلمُ حفّارُ بعدْ ؟
. . . . .
سوقُ رقيقْ 
وجوهٌ تفحَّمَ فيها الضوءْ 
تدفعُ من وراءِ حجابْ
لم تكنْ حرّاً أيُّها الموتْ 
لنْ تصحبَكَ بعدَ الآن دموعْ 
فقد استبدلوكَ بحفنةٍ منْ صُراخْ 
ولعقةٍ من إدامْ
ومن بعدُ
فبذارْ
. . . . .
إيهٍ 
ابنَ هانئْ
كيفَ أنتَ 
وهذا الزّمنَ الشّاحبَ بعلةِ غيرِهْ ؟
الرّاضعَ أثداءَ براقشْ 
أمازلت تتداوى بما كانتْ هي الدّاءُ ؟
وابنُ النّظامِ 
يَغمضُ عيناً ؟
فواحدةٌ
تكفي !
لقدْ بلغَ الدّاءُ الكيْ !!
أليسَ البترُ هو الأوْلى ؟ 
. . . . .
عبد الجبار الفياض
12/12/ 2015



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق