هديتي في عيد المعلم لكل من افنى عمره ليرتقي بالاجيال
قصة قصيرة / الدرس الأخير /جعفر صادق المكصوصي/ العراق
الشمس عاموديه وظلي يكاد يختفي ودرجات الحرارة في أخر يوم من شهر تموز من الارتفاع الشديد بحيث تجعل الناس تحت حر شمسها كأسماك بين فكي شواية ، الشارع يبدو من بعيد وكأنه يتبخر ، ما أن شربت قدح الماء حتى شعرت بالعطش مجددا .
انا اعلم أن روحي أصدرت أوامرها لجسدي بان يخرج في هذه الظهيرة الساخنة لأمر هام كنت اجهله .
مسكين ذلك الشيخ الذي أحنى ظهره الزمان وأصبح من الضعف بحيث لا يستطيع حمل كيس الفواكه والخضر ، على وجهه خطت خريطة تشير إلى سنين عمره ، نظارتان طبيتان وتجاعيد ،
ويدان ترتجفان .
ـــ دعني احمل عنك الكيس .
ـــ أشكرك يا بني كثر الله من أمثالك 0
ـــ لكن أليس أنت أستاذ مكي معلم اللغة العربية ؟
ـــ نعم ! أكيد أنت احد طلابي .
ـــ نعم انأ احد طلابك الذين لو حدثتك عني قليلا ستتذكرني .
ـــ انأ الطالب الذي كان يكثر الأسئلة خارج الموضوع وكنت تشهد له بالتفوق في مادة الإنشاء 0
ـــ نعم ربما تذكرتك ألان 0
ـــ كنت تتحفنا بالكثير من المعلومات الواسعة يا أستاذ وكان درسك بمثابة رحلة للعلم
والسباحة في فضاءات واسعة .
ـــ نعم .... نعم .... أشكرك ها قد وصلنا وصار لزاما أن تتناول شيئا من الشراب البارد ليطفأ ظمأك.
كل شيء في المنزل الصغير قد وضع بعناية وكأن ريشة فنان قد رسمت فنائه .
نظرت إلى عينيه الغائرتين والوجنتين اللتين تجعدتا بفعل احتراق سنين العمر ، طلب مني الجلوس وكان وجوده أمامي فرصة لا تعوض لما يحمله من فكر ثاقب ، كيف لا يكون كذلك وهو أستاذ مكي الذي أفنى عمره كله في البحث في شتى العلوم وخصوصا الأدبية منها 0
ـــ كيف تتفجر طاقات الملكة الأدبية ؟
ـــ عندما يستيقظ الإنسان بداخلنا وينهض من سكونه كل شيء عظيم وجميل يخرج من داخله ، عندما يكون مستعدا للعطاء ولا يكون كذلك ألاعندما تسمو نفسه فوق أنانيته 0
ـــ كيف يؤثر الإنسان بسامعيه وقارئي حروفه ؟
ـــ عندما يشعرهم بأنه نهر من العطاء وأنهم ارض خصبة بحاجة إلى ماءه من اجل النماء ، ثم سكت برهة وبدأ كأنه ابتلع طعاما وردد 0
ـــ الناس تبحث عن الجمال بالفطرة ليكن كلامك جميلا كلوحة فنان ليؤثر
في نفوسهم 0
دخل الأستاذ وتركني بمفردي وانأ بين تأملي لحالي ولهفتي, لأ ستفيد من لحظات تواجدي بين يديه فانا اعلم أن الوقت معه كنز يجب استثماره 0
ـــ لقد درسناكم الدروس جميعا لتتحصنوا لتنشئوا أقوياء لا تؤثر فيكم ريح الزمان 0
ـــ هل انتم راضين عن جيلنا ؟
ـــ أنكم الجيل المحروق و الحارق ، أنكم النور والنار ، نوركم دليل ،
دخانكم يعمي العيون 0
ـــ ثم بدا وكأنه يعتلي منصة خطابه ، رفع رأسه بزهو وردد .
ـــ أن ما تعطيه السماء من خير تتلقاه الأرض بفرح ويثمر خيرات ومنفعة وجمال أن جوبه بشكر على النعمة وعدل وإحسان نمى ، وان جوبه بمعصية وطغيان وشرور احترق وصار وبالا على الناس 0
ـــ ما قيمة الحروف في زماننا 0
ـــ الحروف معنى وكنز ميزانها ثقيل بها تبنى الحضارات والأمم ويشيد العمران ، هي الإرث الموروث لكل زمان ومكان 0
ـــ من ماذا تخشى على الإنسان ؟
ـــ يا بني الإنسان عدو الإنسان منذ خلق ادم ، وكلما تجلى الإنسان بإنسانيته واستحكم عقله على باقي سجاياه انتصرت أرادته وعمر البنيان 0
أخذنا الحديث الشيق وكنت كلي آذان صاغية إلى ما يقوله أستاذي ، تلألأت عيناه وارتسمت على شفتيه ابتسامة المنتصرين وصار أكثر هدوءا وسكنت الرجفة التي كانت ماثلة على يديه 0
قلت لنفسي أن اللحظة مواتية لأسئله سؤال طالما شغل فكري 0
ـــ أستاذي لقد درست كثيرا وكما سمعت انك نلت شهادة الدكتوراه هلا أعلمتني مدى قناعة نفسك ورضاها من توفقك وامتلاء كأسك من العلم والمعرفة ؟
ـــ 0000000000000000000000000 0
ـــ كررت سؤالي السابق ؟
ـــ 000000000000000000000000
رمقني بنظرة المتفحص لملامح شيء يراه للمرة الأولى ، تنهد تلاعب بشفتيه تارة ثم عض على أسفلها 0
ـــ يا بني ما علاقتك بالماء والحر اللافح
ـــ يا أستاذي كلما ارتويت منه عدت أليه بعد لحظات وكأني لم اشرب ماء سابقا أبدا 0
ـــ يا ولدي شوقي للعلم والمعرفة اشد وطأة من اشتياق الظمآن للماء
سلمت على أستاذي وشكرته على الموعظة والدرس ، وفي اليوم التالي طمعت في درس أخر ، انتظرته في طريق عودته نظرت إلى القطعة السوداء المثبته على الجدار التي ابتدأت بأية قرآنية
(( كل من عليها فان )) علمت أن يوم أمس هو درسي الأخير من معلمي ، ذهبت إلى نهر المتنبي لأروي ظمأى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق