إذا كان اختراع الكتابة هو النقطة الفاصلة بين مرحلة البربرية ومرحلة المدنية...على حد تعبير كوردن جايلد ، إلا يعتبر الشاعر لذلك هو أكثر الفنانين قدرة على رسم وتحديد تلك النقاط الفاصلة بين كل ما هو بربري / ظلامي من جهة وبين ما هو مدني / تنويري من جهة أخرى . وذلك لما لهذا الكائن –الشاعر- من مهمة كبيرة لا يمكن انجازها إلا بالكتابة وهو أكثر المعنيين بالكلمات …ثم هل استطاع الإنسان إن يطوي مرحلة البربرية والى الأبد ؟
ثم هل انقرض البرابرة على سطح الأرض؟ وإذا كانت مرحلة البربرية قد انطوت بانقراض البرابرة فمن لنا عدم ولادة برابرة آخرين من كهوف الأيام اللاحقة ؟
أن مثل هذه التساؤلات المقبولة تحتم على الشاعر أن يظل مخلصا مع نفسه وهو يواصل رسم الفواصل والنقاط التي ستظل قائمة وضرورية طالما هناك مراحل بربرية وأخرى مدنية.
سأتحدث هنا عن قدرة بعض الشعراء على استخدام الكلمات التي تشكل نقاطاً فاصلة أو حدوداً عازلة بين عالمين متناقضين أو بين مرحلتين مختلفتين في ذات القصيدة الواحدة. والشاعر عباس باني المالكي نموذجا لنا في مجموعته الشعرية السادسة ( التسول في حضرة الملك)والتي تقع في 167 صفحة من القطع المتوسط. بعد أن طالعناه في مجموعته السابقة ( اعترافات رجل مات مبكرا ) الصادرة من نفس الدار دار الفارابي – بيروت / لبنان لسنة 2006 وهو صوت شعري يعشق فضاء القصيدة وهي هاجسه الأول.
يطرح علينا قصيدته الأولى (ذاكرة الأرض) عدة تساؤلات مريرة حيث يتخذ من الطبيعة أمثلة لطرحه خطاب الشعري ، حيث تبدأ عميلة الشعرية بأداة الشرط (إذا)
تاركا للمتلقي حرية الاختيار وفاسحا له فرصته البحث والتأمل ...فيقول (إذا شاخت الذاكرة/ صار الصمت عويل الكلمات المفقودة / إذا شاخت الأشجار/ صارت شوارع العمر صفير ريح/ وضجيج عصافير نامت بأعشاشها القطط) ثم يصل بنا في نهاية القصيدة إلى الوطن وهو الوعاء الكبير الذي يفيض بدموع أبنائه فيقول ( إذا شاخ الوطن / لملم وجهه من المرايا المكسورة / ماضيا دون سعادات / على حصان الموج/ حيث الشواطئ تشيع جنازة الماء). يصل بنا الشاعر في النهاية إلى جنازة الماء، علما أن الماء ذاته هو سر الحياة.أن مثل هذا الموت القسري مشروط بحدوث تلك الافتراضات ، فالموت هنا مشروط بشيخوخة الذاكرة وهرم الأشجار
وبذلك لا يمكن إن ننظر إلى هذه القصيدة ألا باعتبارها كنقطة فاصلة بين ما يحدث عند هرم الأشجار وشيخوخة الوطن بالتالي وبين ما الذي سيحدث إذا لم تتحقق الشيخوخة . أي أن القصيدة بكاملها تشكل نقطة فاصلة بين حدين أو طرفين متقابلين . على أن ما طرحه الشاعر هنا لم يكن مجرد مفارقات شعرية بسيطة، ونستدل على ذلك من حرارة ومرارة الخطاب الذي تفوح به القصيدة ، فمثل هذه الافتراضات هي وقائع قد كلفت الشاعر لوعة الخطاب ومرارته بكل يقين.
ثم يعود بنا الشاعر عباس باني المالكي عبر قصائده إلى الوراء البعيد إلى زمن الطفولة فيقول في قصيدته ( أحاجي الرماد) ..(منذ الطفولة/أبحث عن امرأة /أرسم احتراقي عند صدرها / دون التحول إلى رماد/ كبرتُ/كثر الرماد حولي /ولم أحترق/ رميت رماد الأرض إلى السماء/ليتعرى القمر من جسدي / وتسكن روحي أول المواقد)
يرسم هنا الشاعر لنا عالمين متناقضين ، الأول هو عالم الطفولة والبحث البريء عن أمرآة تشهد احتراق الشاعر / الطفل ، والعالم الثاني هو عالم البلوغ والنقطة الفاصلة بين هذين العالمين هي كلمة (كبرت) يخرج بنا الشاعر من عالم الطفولة ليدخل بنا عالم الرماد الأخر ، الطفولة والرماد هما الوجهان المتناقضان للحياة . أننا لا يمكن أن نستسيغ القصيدة ألا عند المرور بعالميها المتقابلين وبكل ما يتركانه هذان العالمان من تأثير مرير على شعورنا ونحن نشهد كثرة الرماد حول الشاعر وكثرة الحرائق. أن الشاعر هنا يستعير من الطبيعة دورة الحياة فيها فجاءت جملة رشيقة خالية من الزوائد والقصيدة جاءت محافظة على وحدتها العضوية هكذا يحلق الشاعر من زمن طفولته إلى زمن الرماد ولكنه بنهاية المطاف يصر على الانبعاث مجددا والسكن في ذات المواقد وكأنه طائر الفينيق المنبعث من الرماد ذاته وأن كثرت الحرائق وضاق الأفق .
ولو أخذنا نماذجا أكثر لوجدنا أن الشاعر المالكي كثيرا ما يميل إلى رسم عوالم أوفضاءات مختلفة في ذات القصيدة الواحدة . وقد أستعمل أكثر من وسيلة إلى ذلك( نبني من أحزاننا غابة/ نحنط أفراحنا بظلها / في زمن لم يأتِ بعد / ألا بعصافير ماتت في شباك الصيادين ) أن استعمال الشاعر أفعالاً مضارعة في بداية الجملة الشعرية تدعونا معه إلى ترقب الغد الآتي ، ولكن الغد الآتي لن يجيء ألا محملا بخيبتنا المريرة، خيبة العصافير في شباك الصيادين ، هكذا تفوح مرارة الانتظار بين زمنيين أو لحظتين ،لحظة البناء والترقب ولحظة الغد وخيبتها المتوقعة .
أننا لا يمكن أن نعتبر مثل هذه المفارقات مفارقات فنية بسيطة ، بل أن مرارة الحياة وحدة تناقضها وفجائعها المتلاحقة قد ألقت بظلالها التعيسة على جيل كامل في الشعر العراقي الحديث أقصد ذلك الجيل الذي ولد بين مطرقة الحرب وسندان الجوع والقهر ، وكأن قدر الشاعر قد فرض عليه أن يظل جسده في متناول مطرقة البرابرة وليس بوسعه ألا أن يترك رأسه في فضاء القصيدة ويبوح بأوجاع ذلك النصف المطروق والمحترق ، والمتروك في أرض الخراب التي هجرها حتى النخيل مرغما ويقول الشاعر المالكي(يبيض الحمام في ذاكرة الطرقات / فالنخيل رحل إلى الحرائق المدن /دون جذوع)
هكذا يتدفق صوت الشاعر عباس المالكي عبر جميع قصائد المجموعة وهو يحاول أن يتخذ من الكلمات حدودا فاصلة بين عالم وأخر بين أمنية وانتظار ذبولها بين احتراق ورماد ،يحمل كل ذلك في رأس أتعبه دورة الحروب في الطبيعة وهطول الشظايا في كل الموسم وضياع أطراف الجسد الواحد وانقلاب الوظائف الجسدية ، وانتزاع العقول التي تحلم بالنوم على الأشجار مع العصافير وهو يختم مجموعته بجملة يائسة ( فليرسلونا إلى المقصلة/ نحن بلا رؤوس).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق