الرسالية من اركان الابداع ، و بجنب الرسالية الفنية بنشد التجديد و التأصيل ، تبرز الرسالية الجماهيرية ، التي يتبنّى فيها الشاعر الامّة و الشعب ، فيتجلى صوتهم و معاناتهم و احلامهم و املهم في شعر الشاعر و كلماته .
ومع ان هذا التجلي بذاته من ملامح الجماهيرية التي تجعل من الادب قضية ، الا انّ لهذا التجلي درجات ، تختلف فيها درجات التعبير ، فهناك ثلاث درجات للتعبير الجماهيري و ادب القضية في الشعر . الدرجة الاولى باشتمال الادب على الاعتراض بصوت معهود وهو لغة البوح ، و الثانية اشتماله على صوت عال من الاعتراض فيكون حينها الشعر صرخة ، و الثالث اشتماله على اعتراض كبير واضح يأسر المكان وهو لغة النداء و طلب الخلاص . هذه درجات البوح الجاهيري و تمثيل الامة ، و لكل اسلوب منها وظيفته و محله و زمانه ، فلغة البوح لها زمانها و مكانها و تأثيرها ، و لغة الصرخة لها مكانها و زمانها و تأثيرها ، و لغة النداء لها زمانها و مكانها و تأثيرها .
في قصيدة ( عفوا عراق المجد) للشاعر العراقي الفذ شلال عنوز تتجلى الرسالية الجماهرية بمظاهر واضح و معالم بينة . العنوان بحد ذاته بوح و نداء رقيق ( عفوا عراق المجد) ، يختصر القصيدة وهذا من التوظيف العنواني للشعرية الفنية العالية .
في بوح رقيق يقول الشاعر في مطلع القصيدة :
( أنا شهقةٌ وتوجسٌ وذهولُ ونثيثُ بوح صامتٌ ويقولُ )
و اذا ما لاحظنا التطور الحاصل في صوت و سرعة كلمات الابيات السابقة ستتكون لدينا صورة حركة تطورية كأننا امام كيان زماني يتحرك بسرعة متصاعدة ، و في هذا محاكاة لحركة الطبيعة . و القاموس في هذا البيت الشفيف و الرقيق ، و الخافت ، مع التصدير بالانا ، يعطي جوا عاما من الارسال و القصد ،الا انه معبأ بالبوح ، انه البوح الرقيق الخافت .
بعد بيت البوح هذا ينتقل الشاعر الى لغة الصرخة بتصريح واضح ، ففي البيت الاول كان بوحا ، و في الثان صار صرخة . حيث يقول :
( أنا صرخةٌ مصلوبةٌ لماّ تزل حيرى يلاعبها الجوى ويدولُ )
و في البيت الثالث بعد البوح و الصرخة ، يدخل عنصر الزمن المستمر ، ليعن تحقق وجود راسخ و ثابت من الالم و الصوت فتتحقق لغة النداء في الادب ، انه صرخة مستمرة ، و حكاية الألم وطلب الخلاص ، حيث يقول :
(أنا آهةُ الزمن البعيد تفزُّ بي حمماً فتصرخ في دمي وتصولُ )
في ثلاثة ابيات لشلال عنوز تجلى تأريخ اللغة و تاريخ الامّة و اشكال البوح الجماهيري . و اصبحنا الان امام قصيدة كاملة بمعنى الكلمة ، فتكون الابيات التالية شرح و بيان و مزيد نور و ضياء ، حيث اللغة قالت قولها في هذه الابيات الثلاثة و اوصلت ما تريد ، بصوت حديث ، وهذا يرجع الى شعرية عالية عند شلال عنوز تتجاوز الطريقة الكلاسيكية ، و تعلمنا درسا ان ليس كل ما يكتب عموديا هو شعر كلاسيكي .
ان لغة النداء هي لغة طلب الخلاص ، تتجاوز البوح و الاعتراض ، و الصرحة ، و الندب ، انها تعلن مرارة الواقع و الحاجة الى الخلاص ، و لقد تكررت هذه الملامح في ابيات متعددة في القصيدة وهذه الاستمرارية ترسخ هذا البوح بصوت عال .
في تصوير حزين لواقع مر يقول الشاعر :
( مدنٌ من الآه المريرة لوعتي وزفافُ يومي غصَّةٌ وعويلُ )
و اقسى من هذا القاموس و المفردات بيته الاخر الذي يقول فيه :
( أمشي ونابُ الموت يأكلُ قامتي أنذا المُدمّى قاتلٌ مقتولُ )
ان درجة الاعتراض ليس فقط تتجلى بالتراكيب بل بقاموس المفردات نفسها ، فلا ريب ان ( موت ، يأكل ، قاتل ، مقتول ) هي اكثر فناء و دمارا من ( آه ، لوعة ، غصة و عويل ) كما ان هذا التوزيع للمفردات يعكس حسّا عاليا بالموسيقى الفكرية و التناغم بين المفردات ، و هو تجاوز لموسيقى الشكل بالاتجاه نحو المعنى .
و في تصويري مؤلم للخسارات الفادحة يقول :
( أرنو الى حلمي الذبيح وأمتطي وجعي وليلي نازفٌ ويطولُ )
و في تصاعد طوفاني يصل حد الطوفان و يفرض مفرداته على النص يقول :
( هذا هوالطوفان هـدَّ معاقلي غرقاً وطرفيَ مطرقٌ وخجولُ
هذا هو الطوفانُ يزحفُ هائجاً وأنا ذراعي مُحبط مشلولُ )
ان هذا التصاعد النصي و التجلي الواضح للغة يشير الى عمق التجربة و ترسخ الشعرية عند الشاعر .
الى ان يصل الى ذروة الماساة فيقول
( أنا جثةٌ وخرائبٌ ومقابرٌ وتطاحنٌ وتصحُّرٌ وطلولُ )
النص
عــــــــــــــــــــــــــفوا عراق المجد
أنا شهقةٌ وتوجسٌ وذهولُ ونثيث بوح صامت ويقولُ
أنا صرخة مصلوبة لما تزل حيرى يلاعبها الجوى ويدولُ
أنا آهة الزمن البعيد تفز بي حمما فتصرخ في دمي وتصولُ
أنا ذلك الافق البهي لتالد شاد العلا أناطارف مخذولُ
مدن من الآه المريرة لوعتي وزفاف يومي غصة وعويلُ
أمشي وناب الموت يأكل قامتي أنذا المدمى قاتل مقتولُ
أرنو الى حلمي الذبيح وأمتطي وجعي وليلي نازف وطويلُ
هذا هوالطوفان هـد معاقلي غرقا وطرفي مطرق وخجولُ
هذا هو الطوفان يزحف هائجا وأنا ذراعي محبط مشلولُ
أنا جثة وخرائب ومقابر وتطاحن وتصحر وطلولُ
ودمي مباح حللته شريعة للمارقين وساعد مغلولُ
أنذا عراق القحط يشربني الآسى ضمأ فألعق خيبتي وأطيلُ
قلق وهذا التيه قاد سفينتي أنى أتجهت يلفني المجهولُ
لاشيء عندي من يلم تشتتي ؟ وصفاء أهلي بددته ذحولُ
عفوا عراق المجد جرحي مزمن وتصبري في راحتيك جميلُ
أنا مذ نشأت وأنت ترضعني الوفا والمكرمات فيزهر التقبيلُ
من قال انك محض أرض أو سما؟؟ فلآنت في نسغي منى وهديلُ
في كل شبر من ترابك جذوة للخالدين ونهضة وهطولُ
أنت الذي أمطرت غيرك علمه وسواك جدب جاهل وجهولُ
وغرست في رحم الدهور سلافة غنى لها عند الشروق نخيلُ
وحملت للآتين أشرعة الهدى أنى تقارب أو نأى التأويلُ
من هاهنا مرت ركائب هاجر وتعانق القرآن والأنجيلُ
وهنا توهجت الصروح تمخضت ألفا وأوغل سيفها المسلولُ
ماكنت الا فوق سارية العلا أبدا ومدك صولة وصهيلُ
يامن تعفر في ترابك حيدر وبطوره موسى سعى وخليلُ
وبك ابن بنت المصطفى زرع الفدا يوم الطفوف فأورق الأكليلُ
ها انت يابلد الأباة تضج بي أفقا يغني بالسنا ويميلُ
ها أنت ياهذا العراق قصيدتي فأنا المتيم فيك والمتبولُ
خذني لجرحك مرهما ودريئة اني بحبك ياعراق قتيلُ —
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق