أبحث عن موضوع

الجمعة، 29 مايو 2015

قصة قصيرة: (هذيان امرأة تحت زخّات الرصاص).......................... بقلم : سوسان جرجس /// لبنان




كان غروباً خريفياً.... الطريق فارغٌ إلا من بعض الجماجم المخبّأة تحت الورق الأصفر.... أشجارٌ جرداء يابسة على الطرفين.... إنّها تحمل بعض الغربان المنفية من بلادها...... هناك، عند آخر مرأى العين، كنيسةٌ عتيقة.... تهدّمت بعض زواياها.... ربما كان ذلك من آثار التحرّر البشري.... تحرّر الإنسان من الإنسانية!!
الآن! الآن! إنّي أسمع صوت جرسها.... يبدو الصوت خافتاً حزيناً.... ربما هو يستقبل جثماناً نَطقَ بالحقِ فقنّصته يدُ الباطل.
ما لي أتمَهَل، كأنّي لا أريد الوصول؟!..... إلى أين؟ مَن هناك؟ ماذا دَهاني؟ ماذا جرى؟
أطلَقتُ رجليّ للريح أريدُ أن ألاقي المكان.... ربما سأجدُ أحداً!......وصلت....لا أحد... لا أحد.... وحدها مواءُ الهررة استقبلتني .... هررة سوداء تنظر إليّ بعينٍ حولاء.... إنّي أرى أنيابها.... شعرت أن تلك الأنياب أكبر حجماً من المعتاد وأكثر حدّة ولمعاناً .... أتكونُ هذه الهررة جنيّات عاهرات؟!!
صرخت... صرخت بجنون.... بجنونٍ هستيري..... ربما أردت إخافتها وإبعادها من طريقي..... نظرت.... لا أحد.... لا شيء.... ربما كنت أتخيّل!!!
دفعتُ الباب بيدٍ ملؤها الإعياء والهذيان..... كانت قدميّ مثقلتين.... جررتهما وارتميت هناك على السرير.... هناك كان يُفترض أن نكون اثنين كما في السابق.... لكن! أين هو؟ لماذا رحل الى البعيد وتركني هنا وحيدة؟؟!!
خارَت قواي.... ربما رحت في غيبوبة... لا أدري كم من الوقت.... لكني استيقظت وليلة ظلماء قد أسدلت ستارها.... تقوقعت في زاوية السرير... خفضت رأسي كي يستريح فوق ركبتيّ.... بكيت... بكيت حتى تبللت شفاهي بماءٍ مالح....
رفعت رأسي على مهلٍ ورأيتهما.... كانتا تتحدّثان همساً.... ربما كي لا تنتزعاني من عالم آلامي السرمدي.... لقد كانتا تشبهاني إلى حدّ التماهي.... أحدهما عجوزٌ تقاذفتها السنين، فأهمل الدم شرايين وجهها، ولم تهمل الذكرى أثراً إلا وخبّأته في عينيها.... الأخرى كانت طفلةً صغيرة..... ربما حملت من العمرِ ثمانية.... لكن ستستغرب إذا قلتُ لكَ أن العينين الصغيرتين العسليتين قد حمَلتا من الأوجاع البكماء ثمانين.....
نظرَتِ الصغيرة ناحيتي بشيء من الأسى.... ثمّ أمسكت بيدِ العجوز وقالت:
- يا أماه! ما بالُ ليلى حزينةً باكية؟
- حزنُها من حزني يا بُنيتي!
- الحاضرُ مخيف؟؟
- المستقبلُ مظلم!!
- فلتكشفه بمشاعلِ النور!!
- لقد اغتالوا النور.... وما أبقوا سوى خفافيش الليل!
- أليس في الماضي من ذكرى تنير القلب وتنفي الهمّ الملتهب بالدمامل والقروح؟؟
- الماضي ذكرى مليئة بالحب.... ولكن الذكرى تؤلم!!
- وما الحبُ يا أماه؟
- الحب هو الماء المقدسة التي تعمّدنا، فيبرأ ما فينا من جراح نازفة!! لكن..... لكنّ الحب بات اليوم منفياً من بلادنا... لقد حملَ قيثارته المقطوعة وهام في الصحراء!!
- وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ (إرتجف صوت الصغيرة... ربما من البرد... وربما من الخوف). أستموت ليلى بعد أن مات الحب؟
- وما الغرابة في ذلك ما دامت بغداد قد دُمّرت، وسُجِنَ الوطن خلف قضبان المؤامرات الخارجية والطائفية والفردية المستفحلة في داخل البلاد!!!

خفضتُ رأسي وبكيت... بكيت دمعاً شفافاً شعاعياً.... الدمع بلّل شفتاي.... فتذوقت به طعم دجلة والفرات.... وشممت منه رائحة طالما تنشقتها يوم زرتُ بيروت المنكوبة!!
في تلك اللحظة، تمنيتُ لو كنت أهذي.... لو كان ما مرّ كابوساً..... رفعتُ رأسي هذه المرة لأرى اللاشيء.... اللاشيء كان النهاية..... وأنا كنت بداية النهاية....
كلّ ما مرّ لم يكن هذياناً.... لكن!!.... لا أحد في الغرفة غيري..... العجوز وابنتها كانتا وهماً؟؟!! لا!! ربما رحلتا خوفاً !!..... خوفا مما وممن؟؟؟
خيّم السكون على الغرفة الشاحبة .... كل شيء كان أصفراً.... كاصفرار أوراق الخريف.... إنّه ينذر بهبوب ريح عاتية و.............
فجأةً.... صوت بنادق ومدافع تُسمع من بعيد.... إنّها تقترب.... تقترب أكثر... أكثر.... لم يعُد يفصلني عن مصدرِ الصوتِ سوى الجدار الذي حارب بقوة ليحميني ....بدأت أركض .... يميناً.... يساراً.... صوب الغرفة المجاورة.... ناحية الباب الخارجي....
سدىً ضاعت كل محاولاتي..... فقد بدأ المنزل ينهار.... إنّه ينهار كما انهار يوماً حبيبي مدمّى في وسطِ بغداد....
وبعد شهر.... ربما أكثر.... فتحتُ عينيّ لأجدني فوق أحد الأسرّة في إحدى المستشفيات.....
وبعد أن تعافيت.... نُقلت إلى إحدى المصحّات، حيث قبعتً أنتظرُ اللاانتظار وأحلم باللاحلم.
(سوسان جرجس)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق