أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2015

هوية وملامح. ( قصة قصيرة ) ..................... بقلم : سوسان جرجس // لبنان



في قديم الزمان عاشت امرأة شابة في مدينة الضباب...... وعلى الرغم من صغر سنّها فقد اتّسمت بالحكمة والهيبة والرزانة، وبمقدرة كبيرة على الصبر وتحمّل الشدائد والمصائب، سيما وأنّها كانت تعيش وحيدة حزينة بعد إحراق أهلها بأمر من الملك، بتهمة الكلام والسمع والنظر السليم للأمور.
صباح كل يوم، كانت الشابة تجلس على شرفة منزلها، ترقب وجوه الناس في سكون. لا رفيق لها سوى الصمت والتأمّل. ها هي تلتقط أطراف الأحاديث والنقاشات!! لا شيء سوى كلمات غوغائية مبهمة من المعنى، وقهقهات تعلو من فرط السذاحة. في نظرات الناس يرتسم البله والغباء. مشيتهم أشبه بمشية الغراب المحجّل. لا يكادون يرون الملك وأتباعه يمرون في الشوارع حتى تلتوي أعناقهم طاعة وخضوعاً.
وحتى لا تصطدم تلك المرأة بظلم الملك وتعرّض نفسها للموت أو الإذلال، فقد قررت أن تعتكف في منزلها وحيدة مع أحزانها المبعثرة في طيات كتب الفلسفة الممنوعة والشرائع المعدمة في الليل البهيم. وقد وصل بها الأمر أن تخاذلت عن تقديم التهاني للملك المبجّل بمناسبة حركة الإصلاح التي أجراها في المملكة منذ عشرين عاماً والتي أعدم فيها كل المحرّضين ضد الجهل والإستحمار.
في تلك الليلة التي نعق فيها البوم على الموتى الأحياء، نامت الفتاة حزينة من جرّاء غربتها ووحدتها وسط زحام الوجوه المعاد إنتاجها، لكن السهاد تربع عرش ليالي الملك الذي استشاط غيظاً من فتاة "حقيرة" ضربت بكلامه عرض الحائط ولم تقدّم له فروض الطاعة والولاء. إنّ أكثر ما يخشاه هو الإبقاء على أيّ نواة للتمرّد والإعتراض الذي سيقوّض حتماً دعائم مملكته التي أرادها أزلية الوجود.
على عجل، إستدعى الملك وزراءه وقادة جيشه وكهنته وسحرته كي يفتوه في أمر هذه المرأة الزنديقة. بعد أن تكلّم الجميع قال كبير السحرة.
"- أتأذن لي مولانا الملك؟!!
- تفضل بالكلام يا صوت الإلهة على الأرض ويا من بيده أعظم الحلول!!
- سيدي الملك نحن لا نمتلك حلّاً إزاء هذا الصمت الأنثوي الواعي المتمرّد سوى الموت!! لا بل أخشى أنّ الموت نفسه سيندحر خائفاً أمام هيبة هذه الفتاة التي امتلكت حماسة الشباب وحكمة الشيوخ وصبر الأنبياء ومعرفة العلماء!!!
- وهل تعني أن نتركها وشأنها!! إنّي أخشى يوماً ينازعني فيه أبناءها المكانة والسلطة!!!
- حاشا أن نترك هذه الزنديقة تعيش بيننا يا سيدي!! وإنّما أقصد أنّ لكلّ داء دواء، ولكل قوم لغتهم التي بها يسمعون ويفقهون..... لقد علمت منذ فترة أنّك استطعت تجنيد أحد الفلاسفة العباقرة لصالح المملكة!! فما عليك إلا أن تبعث به في هذه المهمة العظيمة، وهو من سيأتيك بما يقي المملكة شرّ المفسدين في استقرار البلاد!!"
تفاءل الملك بهذا الإقتراح العظيم وأرسل في طلب الفيلسوف المقترح. راح يعرض عليه حيثيات المسألة المعقّدة التي تتهدد أمن المملكة، مؤكّداً أنّ ما يزيده ألماً وحسرة وغضب هو أنّ امرأةً ابتلتها الآلهة والطبيعة بالنقص والضعف هي من تتهدّد مملكة يرأسها ويشرف عليها وينظّر لها الرجال.
عند مغيب ذلك اليوم زار الفيلسوف المرأة الشابة. بدت فائقة الجمال، ضفيرتها السوداء تضفي على وجهها الأبيض نوراً ساطعاً. في عينيها نظرة ثاقبة تحمل وعياً مكللاً بالحزن والبراءة. ظلّ الفيلسوف يتكلّم ساعات طويلة.... حدّثها عن أهمية المراوغة في مواجهة الظالم، عن الآلهة وطبيعة قوانينها وعدلها بين الناس، عن الذكاء وأبرز أنواعه التجاهل، عن طبيعة الإنسان عموماً والأنثى خصوصاً، عن الجنس والتكاثر، عن الحب والكره، عن الحياة والموت.
عند منتصف الليل، خرج الفيلسوف عائداً الى المملكة كي يعيّن مستشاراً للملك، في حين أخذت الفتاة الشابة تبكي وهي ترتشف بمرارة أول كأس خمر في حياتها.
تتالت الكؤوس.....فقدت المرأة عقلها.... أخذت تدور في الغرفة... تترنح يميناً ويساراً..... ترقص كما الطائر المذبوح..... أمسكت كتبها وراحت تلقي بها نحو المدفأة.... وقفت أمام المرأة..... قصّت ضفيرتها وألقت بها في كيس النفايات.... نظرت في ملامحها، شفتيها الصامتتين، نظراتها المحمّلة بالحزن، جبينها العريض، أنفها الأقنى..... بكل جنون وشراسة أمسكت مسلّة حديدية.... راحت تعدم ملامحها واحداً تلو الآخر بحثاً عن هوية جماعية مشتركة، ثم سقطت على الأرض مغشياً عليها.
عند مطلع الفجر فتحت جفنيها.... شعرت بألم شديد يتآكلها.... تحاملت على نفسها ووقفت أمام المرآة لترى ما حلّ بها.... لا شيء سوى صورة لإمرأة مشوّهة بلا ملامح!!
فجأة يد خفية تطرق باب دارها..... تفتح.... تجد نفسها أمام ولد صغير يرتجف من الخوف.... تحدق في عينيه بذهول..... ترى نفسها.... يردّد الصبي بصوت مخنوق "لقد أحرقوا جدي!! لقد أحرقوا جدي!!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق