ذاكرة الحياة والموت في اللغة المقارَنَة
مازلت تكتسحُ الظلام
أنموذجا
للشاعر شلال عنوز
...(مازلت تكتسحُ الظلام)...
.........................شعر / شلال عنوز
مازلت تكتسحُ الظلامَ وتُلهِبُ
أنِفاً فيشربُكَ السّناءُويسكبُ
طاغٍ بهاكَ وكلُّ طاغٍ مُقفرٌ
الاّ بهاكَ على المَدى مُعشَوشِبُ
ان كان رأسُكَ أشهَروهُ على القَنا
فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا
ولقد أنَرتَ الكونَ من دَمكَ الذي
للآن يقراُهُ الزّمانُ ويكتبُ
يختالُ روضُك يزدهي مُتألّقاً
وسواكَ يأكُلُهُ المُحولُ فيُجدِبُ
ظمآنُ تُذبحُ صابراً مُتصابراً
حتّى كأنّكَ قد عطشتَ لِيشربوا
وأنينُ صدركَ والخيولُ تدُكُّهُ
للآن يُسمعُ في الطّفوف فيُرعبُ
ودماءُ طفلكَ ظامِئاً مُستَنزَفاً
للآن تمطرُهُ السماءُ وتندُبُ
وشَفيفُ بوحكَ حين أفردَكَ القَنا
مازالَ فينا ثائراً يترقّبُ
من قالَ أنَّكَ قد قُتلتَ وانَّما
قُتلَ الطُّغاةُ غَداةَ ثوبك يُسلبُ
كيف يكتب الشاعر النص المثالي ، وكيف يحافظ الناقد على قواعد اللغة ؟ ليس من حق الناقد ان يجد مخارج غير مألوفة في اللغة خدمة للنص كأن يُؤوِلَ ما لا يُؤوَلُ ، لان ذلك يسحبها ( اللغة ) الى مفاهيم التغريبية والابهام على ان النحو العربي ولد هكذا بشهادة القران ان العربية لغة الاعجاز والناقد لا يجوز له خرق مفاصل اللغة بدون مسوغ منطقي عكس الشاعر الذي يعيش النص بكل طقوسه ولغته التي تنبثق من ارهاصات تحرك القصيدة بجملة من الاسرار التفكرية والانتقال في زمنية المستحدث حيث جملة من التوصيلات الشعرية التي تمتطي من الخيال اشجعه ، ومن الفنية أرفعها ، فضلا عن تجردها لرؤية المثال ، بحبكة اللغة والشفافية في عطائها فيما وراء تلك المظاهر البوحية ، وهذا مايرتب مكانة النص في القلوب واستنفار مناطق الاستقبال لدى القاري .
ان استكشاف الدلالية المكثفة قد تختص بقاريء نخبوي يرى النص مدينة من الفكر ، ومن تلاقي اكثر من منطقة للتلقي مرهونة عند حدود مفردات النص ونوع اللغة وحقيقة الولادة كلها تنصهر في بوتقة القاريء الرصين ، لاننا دائما نؤكد ان النص الشعري يولد كأي كائن حي متباين الولادة من حيث له تاريخ او زمان او مكان وله وزنٌ يسعُ حجمه ، واذا جعلت له نظاما او حدودا او فلسفة تكون بذلك قد عرفته فقدرته فنظرْتَ له ، لكن كرؤيا نقول : انه شيء اشبه بعمق الحياة ينتهي بنهايتها يبدل ثوبه كلما بدلت ثوبها ، يسكن بسكون الشاعر ، ويتحرك بحركته .
فكما يراجع الانسان يومه قبل انصرامه ، يستحضر الشاعر مع ذاته كل ممكناته الشعرية ويلتجأ الى عالم النص وكأنه يدخل الى فضاء من المرايا المتباينة فتارة يتقعر واخرى يتحدب ويستوي و...وكل ذلك يتم بفعل اللغة التي هي لجام النص وسر تقبله .
يتحدث عمود الشاعر شلال عنوز عن شخصية عرفها العالم وكتب عنها اساطين الفكر وجهابذة العلم وفحول الشعراء وهو مكون اساسي من حياة الشعوب المضطهدة حيث يتشكل رمز مفتوح الدلالة ، والقصيدة بمناسبة الولادة ، لكن الشاعر جعل من تلك المناسبة استذكارا لما حل بسيده ، وحول الولادة الى زمكانية الالم من ذلك التاريخ اللامنقطع .
وفيما يلي بعض ما قاله العظماء حول تلك الشخصية .
1 ــ المستشرق الالماني ـ كارل بروكلمان قال : أن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل اساساً لآلاف المسرحيات الفاجعة.
2 ــ المستشرق الالماني ـ يوليوس فلهاوزن قال : بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فان لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليته، واثراً فعالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت.
3 ــ المستشرق الأمريكي غوستاف غرونييام قال : الكتب المؤلفة في مقتل الحسين تعبر عن عواطف وانفعالات طالما خبرتها بنفس العنف أجيال من الناس قبل ذلك بقرون عديدة . أن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين، الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصية مسلمة أخرى.
4 ــ الباحثة الإنكليزية ـ جر ترودبل قالت : لقد أصبحت كربلاء مسرحاً للمأساة الأليمة التي أسفرت عن مصرع الحسين.
وهنالك تسعة وثلاثون مقال أجنبي حول مقتل الامام الحسين.
إن الاقتراب من مساحة اللغة والتفكير في مساحة المنتج هو خلاصة الظهور في البيت الاول والذي أكثر فيه الشاعر من الفعل الحركي وهو الفعل المضارع لما له من حضور في حماسة الكتابة لمثل ذلك الاستحضار لان الشاعر يعي تماما ان قصيدته قد اختارت إما ان تكون او لا تكون لذا هو اختار الدلالة المستمرة في تجددها على دلالة الزمن والمكان حصرا ، لانه يجد في الدلالة الزمكانية تحصيل حاصل لما هو موجود منه في الدلالة الاستمرارية ، واذا كان الجرجاني قد وضع نظريته ليؤكد على أن ترتيب الكلام في أي إبداع إنما يكون بحسب الأهمية كما وجعل من مسألة الترتيب الذهني والتركيبي للكلام في الترتيب الاول . لقد وضع الجاحظ اللفظ أولا خلاف الجرجاني ، وهذه مسألة انتاج الكلام بين مستويات متباينة حسب دقة العلة عند صاحبها ، ثم ان الفعل المضارع متحول الدلالة في استقباله وحاضره ، والالتفاتة الاخرى ان الفعل المضارع لم ينقلب زمنه الى الماضي لان الشاعر جرده على ما يدل على ذلك وتلك لعبة اللغة عند شلال عنوز بين حذف ، وتقديم ، وتأخير وهو القائل :
مازلت تكتسحُ الظلامَ وتُلهِبُ
أنِفاً فيشربُكَ السّناءُويسكبُ
*****
طاغٍ بهاكَ وكلُّ طاغٍ مُقفرٌ
الاّ بهاكَ على المَدى مُعشَوشِبُ
يتمتع الشاعر بانتقالات بديعية عفوية غير مقصودة أو متكلفة ترهق النص ، فقد أختار من البديع جناسه اللفظي ، وهو وجود لفظين متشابهين في حروف الكلمة ومختلفين في المعنى ، هدفه إحداث حركة فكرية لدى السامع اشبه بالجرس لايقاظ او شحذ عمق مكنونه وتوجيهه صوب المراد ، والجناس التام في هذا الصدر يتمثل في تركيبة (طاغٍ) الاولى يعني الانتشار والكثرة في الايجاب (وطاغٍ ) الثانية تعني الظلم وهو الاقفار عادة والسلب ، والتكرار يفيد التركز في ذهن المتلقي من خلال توكيدية دلالة الانتباه وبيان الصورة الذهنية والاهتمام ببنية اللفظ .
*****
ان كان رأسُكَ أشهَروهُ على القَنا
فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا
ولقد أنَرتَ الكونَ من دَمكَ الذي
للآن يقراُهُ الزّمانُ ويكتبُ
يتقلب الشاعر بين مقتنيات اللغة ليسبر غور عموده وهو يمدح تارة ويهجوا اخرى في قافلة تسموا بركب ممدوحها . وتشمئز من مضمر مهجوها , لقد عاود الشاعر لعبة الجناس وتكثيف اللغة ، فهو ينوع في لفظ بديعه لمقتضى حال الحدث ( الشروق ــ الغروب ) ويفسر الحياة لا بحركة الانسان ككائن حي وإنما بفعله حتى قال أحد الشعراء : ( لقد اسمعت لو ناديت حياً لكن لا حياة لمن تنادي ) فاطلق صفة الموت على الاحياء الذين لا يستحقون الحياة اما لجبنِهم او لجهلِهم .
أراد الشاعر ان يطابق المؤكد مع مفهوم التراكيب بإيجاد معادلة تجمع بين اللغة ونوع الحدث وجسامة الموقف فهو محصلة لدلالة الصيغ والتراكيب داخل الجمل ، وتلاعب بسعة الزمنية الموجودة في النص ، وان تكمن أهميتها في أنّه لا يمكن قَصْر النظر عند دراستها على الصيغ والتراكيب مجردة من السياق الشعري ، بل يجب النظر إلى دلالتها وفقاً للسياقات الواردة . لقد جمع الشاعر الازمنة كلها في وحدة جديدة من الزمن عند اطلاق المبنى السياقي وفتحه على مصراعيه لاتساعية صادقة ، وان كان الفعل قد حصل في الماضي الا انه متجدد في زمنيته ، لاغ لماضويته ، مثبتا حاضرها // فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا // لقد اكد الشاعر بجواب القسم المحذوف ( والله ) وجاء الفعل ماضي في الارتداء ، والزمن مقترن في الشروق ، دلالة الفعل على المستقبل المطلق ، وهي مجال فتح الدلالة على تمام الحدث وصهر الزمن الماضي بتمام المستقبل ، وهذا ما تسمى بدلالة المستقبل الكلي . اما الطباق بالمقابلة فله حضور مميز في هذا النص بين مفردتي ( الشروق والغروب ) لان الشاعر أراد ان يبين للمتلقي ان الموت لا يعني نهاية الانسان العقدي الحق ، وان الحياة مع الظالم ما هي الا الموت الحقيقي ، لقد شبه الشاعر الدم الشريف بالثورة ــ الفكر ــ الرسالة ــ المقاومة ــ الحق ... وهذا الدم هو سبب خلود سيده .
*****
يختالُ روضُك يزدهي مُتألّقاً
وسواكَ يأكُلُهُ المُحولُ فيُجدِبُ
الحذف وفيه متعة خيال وروعة تأمل ولا حاجة لذكره لانه معلوم الشخصية والمكانة ( يختال روضك / حذف المفعول به / يزدهي متألقا / حذف الفاعل / يأكله المحول / تقديم المفعول به على الفاعل / ) ثم عدا فعولَ مرة اخرى على حركة الفعل والذي ذكره باربعة اقسام من الدلالة في زمن الحاضر والمستقبل واثبت ان المقام المحمود يرافقه نقيضه من الانس للدلالة على محموديته ، فاظهر وجهي الدلالة( الروض والتألق ) و ( المحول والجدب ) ، ويثبت الشاعر من حيث انه صادق ان لسيده مقام الرفعة والسمو وروح التاريخ ، ولغيره مكان الذل والعفونة وخزي التاريخ والجدب الذي لا يُرتجى منه الخير .
*****
ظمآنُ تُذبحُ صابراً مُتصابراً
حتّى كأنّكَ قد عطشتَ لِيشربوا
وأنينُ صدركَ والخيولُ تدُكُّهُ
للآن يُسمعُ في الطّفوف فيُرعبُ
وضع الشاعر صيغة الخبر وحذف المبتدأ للايجاز وللتأمل والاستفهام عن صاحب النص المقصود والذي لم يصرح الشاعر بإسمه علانية لمعرفته المسبقة
عندما يعتمد الشاعر البديع عليه الا يتكلف او يتصنع اللفظ لانه يُثقل القصيدة ويجعل المعنى اكثر اصطناعا وشلال عنوز منتبه لتلك المعضلة وهو يعاود فكرة الجناس غير التام بين( صابرا ــ متصابرا )، وليعلن تفاصيل مرعبة قد حلت بسيده منها الذبح مع الضمأ ليربط الواقع بماضٍ حاضر لا فرق بين الايدولوجية من حيث الصراع الفكري وتاريخ الدموية المستأرِثة والتي لا يجابه صاحبها غيره بالتي هي احسن ، ولكنه يجابهه بحد السيف وقطع الرؤوس وهذا متأت من قلة الحيلة وخسارة الفكر وافلاس الدليل ، والتضحية يلبسها الشاعر بريق قراءته لتاريخ سيده وكيف انه قد عطُش ليشرب غيره من فكره ، وان اعداءه الذين بكى عليهم خوفا من سوء العاقبة قد سجل للتاريخ انه سابق لعصره ، حتى تحول ( سيده ) الى قوة احتجاجية ترعب الظَلَمة وتُخيف الطغاة وترفد كل الثائرين بالصمود والانتصار .
*****
ودماءُ طفلكَ ظامِئاً مُستَنزَفاً
للآن تمطرُهُ السماءُ وتندُبُ
وشَفيفُ بوحكَ حين أفردَكَ القَنا
مازالَ فينا ثائراً يترقّبُ
يتعرض الشاعر لحادثة انسانية يجدها من المناسب في المقام ان يدلوا بها مُحَكِماَ المتلقي ، لان الامر عظيم ولا تلمه قصيدة شعر لكن هذا الجانب له دلالة التأثير المباشر على المتلقي حينما يُذبح طفل عطشان يسبح بدمه ويستشعر انه ماء فيتلذذ ببرودته وهو يتدفق من بين اوداجه شلال نزيف حتى الموت ، لكنه لم يفل وبقي ذكرى متجددة تحمل دلالتين ، أولهما بشاعة الطرف الاخر وثانيهما تضحية الاب بإبنه من اجل الحرية والحياة الكريمة حتى غدا مثلا لكل ثائر ضد الظلم ...ثم يقول الشاعر إن الثورة في ذلك البوح وهي تنتظر ، ناهيك عن تلك الواقعة التي تركت اثرا عميقا في النفس الانسانية حتى قيل في المعنى إن لصاحب الواقعة حرارة في النفوس لا تنطفىء.
*****
من قالَ أنَّكَ قد قُتلتَ وانَّما
قُتلَ الطُّغاةُ غَداةَ ثوبك يُسلبُ
يتحول الشاعر بعموده الى ذكر عظمة سيده وواقعته المخلدة رغم قساوة التاريخ الذي يكتبه الحاكم ، وهذا ليس من الموت وانما من الحياة ، لانه ( سيده ) ينطلق من قول يردده دائما (ان القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة ) فاختار الجناس الناقص مرة اخرى (قتلت ، قتل ) واستفهم بـ ( مَنْ ) منكرا على الاخر قوله ، مؤكدا ان القتل في إذهاب الجسد وليس إذهاب الفكر ، وحصر القتل بالطغاة لانهم يعبدون الحياة الدنيا فقط والشاعر يريد ان يُعرفَ المتلقي بهذا الرجل نزوعا وليس كلاما لينهل من معينه الذي لا ينضب بكتلة كبيرة من التراكيب القوية الجزلة وبطاقة شعرية عالية حولت القصيدة في عمقها البنيوي الى دلالات كبيرة متعددة في توهجها .
محمد شنيشل فرع الربيعـــــــي
مازلت تكتسحُ الظلام
أنموذجا
للشاعر شلال عنوز
...(مازلت تكتسحُ الظلام)...
.........................شعر / شلال عنوز
مازلت تكتسحُ الظلامَ وتُلهِبُ
أنِفاً فيشربُكَ السّناءُويسكبُ
طاغٍ بهاكَ وكلُّ طاغٍ مُقفرٌ
الاّ بهاكَ على المَدى مُعشَوشِبُ
ان كان رأسُكَ أشهَروهُ على القَنا
فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا
ولقد أنَرتَ الكونَ من دَمكَ الذي
للآن يقراُهُ الزّمانُ ويكتبُ
يختالُ روضُك يزدهي مُتألّقاً
وسواكَ يأكُلُهُ المُحولُ فيُجدِبُ
ظمآنُ تُذبحُ صابراً مُتصابراً
حتّى كأنّكَ قد عطشتَ لِيشربوا
وأنينُ صدركَ والخيولُ تدُكُّهُ
للآن يُسمعُ في الطّفوف فيُرعبُ
ودماءُ طفلكَ ظامِئاً مُستَنزَفاً
للآن تمطرُهُ السماءُ وتندُبُ
وشَفيفُ بوحكَ حين أفردَكَ القَنا
مازالَ فينا ثائراً يترقّبُ
من قالَ أنَّكَ قد قُتلتَ وانَّما
قُتلَ الطُّغاةُ غَداةَ ثوبك يُسلبُ
كيف يكتب الشاعر النص المثالي ، وكيف يحافظ الناقد على قواعد اللغة ؟ ليس من حق الناقد ان يجد مخارج غير مألوفة في اللغة خدمة للنص كأن يُؤوِلَ ما لا يُؤوَلُ ، لان ذلك يسحبها ( اللغة ) الى مفاهيم التغريبية والابهام على ان النحو العربي ولد هكذا بشهادة القران ان العربية لغة الاعجاز والناقد لا يجوز له خرق مفاصل اللغة بدون مسوغ منطقي عكس الشاعر الذي يعيش النص بكل طقوسه ولغته التي تنبثق من ارهاصات تحرك القصيدة بجملة من الاسرار التفكرية والانتقال في زمنية المستحدث حيث جملة من التوصيلات الشعرية التي تمتطي من الخيال اشجعه ، ومن الفنية أرفعها ، فضلا عن تجردها لرؤية المثال ، بحبكة اللغة والشفافية في عطائها فيما وراء تلك المظاهر البوحية ، وهذا مايرتب مكانة النص في القلوب واستنفار مناطق الاستقبال لدى القاري .
ان استكشاف الدلالية المكثفة قد تختص بقاريء نخبوي يرى النص مدينة من الفكر ، ومن تلاقي اكثر من منطقة للتلقي مرهونة عند حدود مفردات النص ونوع اللغة وحقيقة الولادة كلها تنصهر في بوتقة القاريء الرصين ، لاننا دائما نؤكد ان النص الشعري يولد كأي كائن حي متباين الولادة من حيث له تاريخ او زمان او مكان وله وزنٌ يسعُ حجمه ، واذا جعلت له نظاما او حدودا او فلسفة تكون بذلك قد عرفته فقدرته فنظرْتَ له ، لكن كرؤيا نقول : انه شيء اشبه بعمق الحياة ينتهي بنهايتها يبدل ثوبه كلما بدلت ثوبها ، يسكن بسكون الشاعر ، ويتحرك بحركته .
فكما يراجع الانسان يومه قبل انصرامه ، يستحضر الشاعر مع ذاته كل ممكناته الشعرية ويلتجأ الى عالم النص وكأنه يدخل الى فضاء من المرايا المتباينة فتارة يتقعر واخرى يتحدب ويستوي و...وكل ذلك يتم بفعل اللغة التي هي لجام النص وسر تقبله .
يتحدث عمود الشاعر شلال عنوز عن شخصية عرفها العالم وكتب عنها اساطين الفكر وجهابذة العلم وفحول الشعراء وهو مكون اساسي من حياة الشعوب المضطهدة حيث يتشكل رمز مفتوح الدلالة ، والقصيدة بمناسبة الولادة ، لكن الشاعر جعل من تلك المناسبة استذكارا لما حل بسيده ، وحول الولادة الى زمكانية الالم من ذلك التاريخ اللامنقطع .
وفيما يلي بعض ما قاله العظماء حول تلك الشخصية .
1 ــ المستشرق الالماني ـ كارل بروكلمان قال : أن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل اساساً لآلاف المسرحيات الفاجعة.
2 ــ المستشرق الالماني ـ يوليوس فلهاوزن قال : بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكرياً، فان لاستشهاده معنى كبيراً في مثاليته، واثراً فعالاً في استدرار عطف كثير من المسلمين على آل البيت.
3 ــ المستشرق الأمريكي غوستاف غرونييام قال : الكتب المؤلفة في مقتل الحسين تعبر عن عواطف وانفعالات طالما خبرتها بنفس العنف أجيال من الناس قبل ذلك بقرون عديدة . أن وقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثّرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين، الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أيّة شخصية مسلمة أخرى.
4 ــ الباحثة الإنكليزية ـ جر ترودبل قالت : لقد أصبحت كربلاء مسرحاً للمأساة الأليمة التي أسفرت عن مصرع الحسين.
وهنالك تسعة وثلاثون مقال أجنبي حول مقتل الامام الحسين.
إن الاقتراب من مساحة اللغة والتفكير في مساحة المنتج هو خلاصة الظهور في البيت الاول والذي أكثر فيه الشاعر من الفعل الحركي وهو الفعل المضارع لما له من حضور في حماسة الكتابة لمثل ذلك الاستحضار لان الشاعر يعي تماما ان قصيدته قد اختارت إما ان تكون او لا تكون لذا هو اختار الدلالة المستمرة في تجددها على دلالة الزمن والمكان حصرا ، لانه يجد في الدلالة الزمكانية تحصيل حاصل لما هو موجود منه في الدلالة الاستمرارية ، واذا كان الجرجاني قد وضع نظريته ليؤكد على أن ترتيب الكلام في أي إبداع إنما يكون بحسب الأهمية كما وجعل من مسألة الترتيب الذهني والتركيبي للكلام في الترتيب الاول . لقد وضع الجاحظ اللفظ أولا خلاف الجرجاني ، وهذه مسألة انتاج الكلام بين مستويات متباينة حسب دقة العلة عند صاحبها ، ثم ان الفعل المضارع متحول الدلالة في استقباله وحاضره ، والالتفاتة الاخرى ان الفعل المضارع لم ينقلب زمنه الى الماضي لان الشاعر جرده على ما يدل على ذلك وتلك لعبة اللغة عند شلال عنوز بين حذف ، وتقديم ، وتأخير وهو القائل :
مازلت تكتسحُ الظلامَ وتُلهِبُ
أنِفاً فيشربُكَ السّناءُويسكبُ
*****
طاغٍ بهاكَ وكلُّ طاغٍ مُقفرٌ
الاّ بهاكَ على المَدى مُعشَوشِبُ
يتمتع الشاعر بانتقالات بديعية عفوية غير مقصودة أو متكلفة ترهق النص ، فقد أختار من البديع جناسه اللفظي ، وهو وجود لفظين متشابهين في حروف الكلمة ومختلفين في المعنى ، هدفه إحداث حركة فكرية لدى السامع اشبه بالجرس لايقاظ او شحذ عمق مكنونه وتوجيهه صوب المراد ، والجناس التام في هذا الصدر يتمثل في تركيبة (طاغٍ) الاولى يعني الانتشار والكثرة في الايجاب (وطاغٍ ) الثانية تعني الظلم وهو الاقفار عادة والسلب ، والتكرار يفيد التركز في ذهن المتلقي من خلال توكيدية دلالة الانتباه وبيان الصورة الذهنية والاهتمام ببنية اللفظ .
*****
ان كان رأسُكَ أشهَروهُ على القَنا
فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا
ولقد أنَرتَ الكونَ من دَمكَ الذي
للآن يقراُهُ الزّمانُ ويكتبُ
يتقلب الشاعر بين مقتنيات اللغة ليسبر غور عموده وهو يمدح تارة ويهجوا اخرى في قافلة تسموا بركب ممدوحها . وتشمئز من مضمر مهجوها , لقد عاود الشاعر لعبة الجناس وتكثيف اللغة ، فهو ينوع في لفظ بديعه لمقتضى حال الحدث ( الشروق ــ الغروب ) ويفسر الحياة لا بحركة الانسان ككائن حي وإنما بفعله حتى قال أحد الشعراء : ( لقد اسمعت لو ناديت حياً لكن لا حياة لمن تنادي ) فاطلق صفة الموت على الاحياء الذين لا يستحقون الحياة اما لجبنِهم او لجهلِهم .
أراد الشاعر ان يطابق المؤكد مع مفهوم التراكيب بإيجاد معادلة تجمع بين اللغة ونوع الحدث وجسامة الموقف فهو محصلة لدلالة الصيغ والتراكيب داخل الجمل ، وتلاعب بسعة الزمنية الموجودة في النص ، وان تكمن أهميتها في أنّه لا يمكن قَصْر النظر عند دراستها على الصيغ والتراكيب مجردة من السياق الشعري ، بل يجب النظر إلى دلالتها وفقاً للسياقات الواردة . لقد جمع الشاعر الازمنة كلها في وحدة جديدة من الزمن عند اطلاق المبنى السياقي وفتحه على مصراعيه لاتساعية صادقة ، وان كان الفعل قد حصل في الماضي الا انه متجدد في زمنيته ، لاغ لماضويته ، مثبتا حاضرها // فلقد تجَلبَبَ بالشّروقِ وغَرَّبوا // لقد اكد الشاعر بجواب القسم المحذوف ( والله ) وجاء الفعل ماضي في الارتداء ، والزمن مقترن في الشروق ، دلالة الفعل على المستقبل المطلق ، وهي مجال فتح الدلالة على تمام الحدث وصهر الزمن الماضي بتمام المستقبل ، وهذا ما تسمى بدلالة المستقبل الكلي . اما الطباق بالمقابلة فله حضور مميز في هذا النص بين مفردتي ( الشروق والغروب ) لان الشاعر أراد ان يبين للمتلقي ان الموت لا يعني نهاية الانسان العقدي الحق ، وان الحياة مع الظالم ما هي الا الموت الحقيقي ، لقد شبه الشاعر الدم الشريف بالثورة ــ الفكر ــ الرسالة ــ المقاومة ــ الحق ... وهذا الدم هو سبب خلود سيده .
*****
يختالُ روضُك يزدهي مُتألّقاً
وسواكَ يأكُلُهُ المُحولُ فيُجدِبُ
الحذف وفيه متعة خيال وروعة تأمل ولا حاجة لذكره لانه معلوم الشخصية والمكانة ( يختال روضك / حذف المفعول به / يزدهي متألقا / حذف الفاعل / يأكله المحول / تقديم المفعول به على الفاعل / ) ثم عدا فعولَ مرة اخرى على حركة الفعل والذي ذكره باربعة اقسام من الدلالة في زمن الحاضر والمستقبل واثبت ان المقام المحمود يرافقه نقيضه من الانس للدلالة على محموديته ، فاظهر وجهي الدلالة( الروض والتألق ) و ( المحول والجدب ) ، ويثبت الشاعر من حيث انه صادق ان لسيده مقام الرفعة والسمو وروح التاريخ ، ولغيره مكان الذل والعفونة وخزي التاريخ والجدب الذي لا يُرتجى منه الخير .
*****
ظمآنُ تُذبحُ صابراً مُتصابراً
حتّى كأنّكَ قد عطشتَ لِيشربوا
وأنينُ صدركَ والخيولُ تدُكُّهُ
للآن يُسمعُ في الطّفوف فيُرعبُ
وضع الشاعر صيغة الخبر وحذف المبتدأ للايجاز وللتأمل والاستفهام عن صاحب النص المقصود والذي لم يصرح الشاعر بإسمه علانية لمعرفته المسبقة
عندما يعتمد الشاعر البديع عليه الا يتكلف او يتصنع اللفظ لانه يُثقل القصيدة ويجعل المعنى اكثر اصطناعا وشلال عنوز منتبه لتلك المعضلة وهو يعاود فكرة الجناس غير التام بين( صابرا ــ متصابرا )، وليعلن تفاصيل مرعبة قد حلت بسيده منها الذبح مع الضمأ ليربط الواقع بماضٍ حاضر لا فرق بين الايدولوجية من حيث الصراع الفكري وتاريخ الدموية المستأرِثة والتي لا يجابه صاحبها غيره بالتي هي احسن ، ولكنه يجابهه بحد السيف وقطع الرؤوس وهذا متأت من قلة الحيلة وخسارة الفكر وافلاس الدليل ، والتضحية يلبسها الشاعر بريق قراءته لتاريخ سيده وكيف انه قد عطُش ليشرب غيره من فكره ، وان اعداءه الذين بكى عليهم خوفا من سوء العاقبة قد سجل للتاريخ انه سابق لعصره ، حتى تحول ( سيده ) الى قوة احتجاجية ترعب الظَلَمة وتُخيف الطغاة وترفد كل الثائرين بالصمود والانتصار .
*****
ودماءُ طفلكَ ظامِئاً مُستَنزَفاً
للآن تمطرُهُ السماءُ وتندُبُ
وشَفيفُ بوحكَ حين أفردَكَ القَنا
مازالَ فينا ثائراً يترقّبُ
يتعرض الشاعر لحادثة انسانية يجدها من المناسب في المقام ان يدلوا بها مُحَكِماَ المتلقي ، لان الامر عظيم ولا تلمه قصيدة شعر لكن هذا الجانب له دلالة التأثير المباشر على المتلقي حينما يُذبح طفل عطشان يسبح بدمه ويستشعر انه ماء فيتلذذ ببرودته وهو يتدفق من بين اوداجه شلال نزيف حتى الموت ، لكنه لم يفل وبقي ذكرى متجددة تحمل دلالتين ، أولهما بشاعة الطرف الاخر وثانيهما تضحية الاب بإبنه من اجل الحرية والحياة الكريمة حتى غدا مثلا لكل ثائر ضد الظلم ...ثم يقول الشاعر إن الثورة في ذلك البوح وهي تنتظر ، ناهيك عن تلك الواقعة التي تركت اثرا عميقا في النفس الانسانية حتى قيل في المعنى إن لصاحب الواقعة حرارة في النفوس لا تنطفىء.
*****
من قالَ أنَّكَ قد قُتلتَ وانَّما
قُتلَ الطُّغاةُ غَداةَ ثوبك يُسلبُ
يتحول الشاعر بعموده الى ذكر عظمة سيده وواقعته المخلدة رغم قساوة التاريخ الذي يكتبه الحاكم ، وهذا ليس من الموت وانما من الحياة ، لانه ( سيده ) ينطلق من قول يردده دائما (ان القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة ) فاختار الجناس الناقص مرة اخرى (قتلت ، قتل ) واستفهم بـ ( مَنْ ) منكرا على الاخر قوله ، مؤكدا ان القتل في إذهاب الجسد وليس إذهاب الفكر ، وحصر القتل بالطغاة لانهم يعبدون الحياة الدنيا فقط والشاعر يريد ان يُعرفَ المتلقي بهذا الرجل نزوعا وليس كلاما لينهل من معينه الذي لا ينضب بكتلة كبيرة من التراكيب القوية الجزلة وبطاقة شعرية عالية حولت القصيدة في عمقها البنيوي الى دلالات كبيرة متعددة في توهجها .
محمد شنيشل فرع الربيعـــــــي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق