في حين عُرفت نظرية ( الإنتزاع ) التي اتى بها الفلاسفة الإسلاميون بأنها قسمت التصورات الذهنية إلى تصورات أولية مبنية على الحس المباشر بمحتوى التصور , كتصورنا للحرارة بعد احساسنا بلمسها , و تصورنا للون من خلال البصر وتصورنا للمسموعات والمشموات وهكذا , و من ثم يُنشيء الذهن بعد تلك التصورات الأولية تصوراتٍ ثانوية من خلال ( انتزاعه ) للتصورات الجديدة على ضوء التصورات الأولية .. لذلك نجد المفاهيم العقلية المجردة ( كالعلة و المعلول و الجوهر و العرض و الوجود و الوحدة ... ) هي عبارة عن مفاهيم انتزعها الذهن على ضوء التصورات الأولية ( أو المعاني المحسوسة ) .
هذا في مجال (
التصور ) أو ما يسمى ( الإدراك الساذج او العرفي ) , أما في مجال الإدراك
الذي ينطوي على الحكم اليقيني , و الذي يحصل به الإنسان على المعرفة
الموضوعية ( التصديق ) , فهناك مذهبان مهمان لهما آراؤهما و هما :
المذهب العقلي : الذي ارتكزت عليه الفلسفة الإسلامية عموما التي قسمت المعارف البشرية إلى معارف ضرورية أو بديهية لا مجال للشك بها ( لا تحتاج إلى المطالبة بدليل صحتها , كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما , و الحادث لا بد له من محدث , أو الكل أكبر من الجزء ... ) .. و معارف نظرية تعتمد على معلومات سابقة من خلال التفكير و الإستنباط من العلوم البديهية .
أما المذهب التجريبي : الذي بنى أساسه على التجربة الإنسانية , فالإنسان في نظر أصحاب هذا المذهب لا يتمكن من معرفة الحقائق مهما كانت واضحة ألا من خلال اخضاعها للتجارب الحسية المادية , لذلك تجدهم لا يعترفون بالمعرفة الفطرية و لا بالمعارف البديهية الضرورية .. كما انك تجد طاقات الإنسان عندهم محددة بحدود الميدان التجريبي فقط , و على ضوء تلك التجاذبات نورد بإيجاز فلسفة المعرفة الإنسانية و الإشكالات التي طرحها المفكر الإسلامي السيد الشهيد محمد باقر الصدر و التي كان لها الأثر البالغ في ترتيب الكثير من الأوراق المبعثرة في مسيرة الفكر الإنساني .
حيث أكد المفكر الصدر ان المعرفة الإنسانية الضرورية أو البديهية لا يمكن الإستغناء عنها , و إن الفطرة التي أودعها الله سبحانه و تعالى في بني الإنسان لا يمكن تجاهلها , لذلك فإن قيمة المعرفة لدى الإنسان تنبع و ترتكز على مقدار تلك الأسس الثابتة , و تعتمد على مدى استنباطها من جذورها (ثوابتها ) .. و في نظره ان تحصيل العلوم العقلية و الحسية مثل العلوم ( الميتافيزيقية ) أو ( الماورائية ) , و علوم الرياضيات و حتى الطبيعيات من الممكن ان يستنبط الإنسان منها معارفه الصحيحة التي لا تقبل الشك من خلال الثوابت التي ترتكز في ذهنه ( المعارف الضرورية ) حتى و إن اختلفت العلوم الطبيعية كونها تتوقف على التجربة التي تهيء للانسان شروط التطبيق , لأن نتائج العلوم الأخرى نتائج قطعية في الغالب , و لا تحتاج إلى تجربة خارجية .
حيث يورد الفيلسوف الصدر في كتاباتـــــــــه :
قائلا ( لو أردنا أن نستكشف السبب الطبيعي للحرارة , و قمنا بدراسة عدة تجارب علمية , و وضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان : الحركة سبب الحرارة .. فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مباديء و معارف ضرورية على التجارب التي جمعناها و درسناها , و لذا فهي صحيحة و مضمونة الصحة بقدر ما ترتكز على تلك المباديء الضرورية .. فالعالم الطبيعي يجمع اول الأمر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث , كدم بعض الحيوانات و الحديد المحمى و الاجسام المحترقة و غير ذلك من آلاف الأشياء الحارة , و يبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها و هو مبدأ العلية القائل ( ان لكل حادثة سبباً ) فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سببا معينا , و لكن هذا السبب حتى الآن مجهول , و مرده بين طائفة من الأشياء , فكيف يتاح تعيينه من بينها ؟ و يستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المباديء الضرورية العقلية , و هو المبدأ القائل باستحالة انفصال الشيء عن سببه , و يدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة , فيستبعد عدة أشياء و يسقطها من الحساب كدم الحيوان مثلا , فهو لا يمكن ان يكون سببا للحرارة , لأن هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة , فلو كان هو سبب الحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه فيكون باردا في بعض الحيوانات , و هكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من أسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري , فان أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يُحتمل أن يكون سببا للحرارة , و يدلل على عدم كونه سببا كما فعل في دم الحيوان , فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي الى السبب الحقيقي حتما , بعد اسقاط الأشياء الأخرى من الحساب , و تصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقية قاطعة لارتكازها بصورة كاملة على المباديء العقلية الضرورية . و أما إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر و لم يستطع أن يعين السبب على ضوء المباديء الضرورية فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية .............)1
وهنا نجد أن الأساس المهم الذي ارتكز على ضوئه المذهب العقلي الذي تبنته الفلسفة الإسلامية نابع من الفطرة الإنسانية و الخزين المعلوماتي الثابت لدى العقل الإنساني , لذلك قالوا بالمعارف الضرورية أو البديهية , فتصبح فعالة و مؤثرة في مجال العلوم النظرية الأخرى التي تعتمد على تلك المعلومات السابقة من خلال العقل البشري العامل الذي يستنبط و يفكر و يقرر على وفقها ... كما أن قيمة النظريات و النتائج العلمية في مجال الحقل التجريبي تتوقف على مدى دقتها و علاقتها في تطبيق تلك الثوابت ( العلوم الضرورية ) لأن أية تجربة إذا لم تستوعب كل الإمكانات المتاحة لا يمكن لها أن تصمد أمام الحقيقة المراد كشف النقاب عنها .
و ما يجدر التنويه عنه هنا , أن السيد ( محمد باقر الصدر ) أشار إلى مطلب ذي أهمية أضيف إلى سطور الفلسفة الإسلامية , و رأي قاطع امتاز بطرحه في مجال المعرفة , حيث أكد : ( ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور , و وجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في أذهاننا .. و عرفنا أن هذه المعرفة ( التصديقية ) مضمونة بمقدار ارتكازها على المباديء الضرورية .. و المسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية فيما إذا كانت دقيقة و صحيحة مع الواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها .... و ان الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان : فهي من ناحية , صورة الشيء و وجوده الخاص في ذهننا , و لابد لأجل ذلك ان يكون فيها الشيء متمثلا فيها , و ان لم تكن صورة أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافا اساسيا , لأنها لا تملك الخصائص التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء , و لا يؤثر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية و النشاط .. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة , مهما كانت دقيقة و مفصلة لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصورة الذهنية في الخارج ,, و بذلك نستطيع أن نحدد الناحية الموضوعية للفكرة , و الناحية الذاتية , أي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي , و الناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص .. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن , و لكن الشيء الذي يمثل لدى الذهن عن تلك الصورة يفقد كل فعالية و نشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي بسبب التصرف الذاتي .. و هذا الفارق بين الفكرة و الواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية و الوجود .........)2 .
----------------------------------------------------------------------------
(1) فلسفتنا .
(2) نفس المصدر اعلاه
المذهب العقلي : الذي ارتكزت عليه الفلسفة الإسلامية عموما التي قسمت المعارف البشرية إلى معارف ضرورية أو بديهية لا مجال للشك بها ( لا تحتاج إلى المطالبة بدليل صحتها , كاجتماع النقيضين أو ارتفاعهما , و الحادث لا بد له من محدث , أو الكل أكبر من الجزء ... ) .. و معارف نظرية تعتمد على معلومات سابقة من خلال التفكير و الإستنباط من العلوم البديهية .
أما المذهب التجريبي : الذي بنى أساسه على التجربة الإنسانية , فالإنسان في نظر أصحاب هذا المذهب لا يتمكن من معرفة الحقائق مهما كانت واضحة ألا من خلال اخضاعها للتجارب الحسية المادية , لذلك تجدهم لا يعترفون بالمعرفة الفطرية و لا بالمعارف البديهية الضرورية .. كما انك تجد طاقات الإنسان عندهم محددة بحدود الميدان التجريبي فقط , و على ضوء تلك التجاذبات نورد بإيجاز فلسفة المعرفة الإنسانية و الإشكالات التي طرحها المفكر الإسلامي السيد الشهيد محمد باقر الصدر و التي كان لها الأثر البالغ في ترتيب الكثير من الأوراق المبعثرة في مسيرة الفكر الإنساني .
حيث أكد المفكر الصدر ان المعرفة الإنسانية الضرورية أو البديهية لا يمكن الإستغناء عنها , و إن الفطرة التي أودعها الله سبحانه و تعالى في بني الإنسان لا يمكن تجاهلها , لذلك فإن قيمة المعرفة لدى الإنسان تنبع و ترتكز على مقدار تلك الأسس الثابتة , و تعتمد على مدى استنباطها من جذورها (ثوابتها ) .. و في نظره ان تحصيل العلوم العقلية و الحسية مثل العلوم ( الميتافيزيقية ) أو ( الماورائية ) , و علوم الرياضيات و حتى الطبيعيات من الممكن ان يستنبط الإنسان منها معارفه الصحيحة التي لا تقبل الشك من خلال الثوابت التي ترتكز في ذهنه ( المعارف الضرورية ) حتى و إن اختلفت العلوم الطبيعية كونها تتوقف على التجربة التي تهيء للانسان شروط التطبيق , لأن نتائج العلوم الأخرى نتائج قطعية في الغالب , و لا تحتاج إلى تجربة خارجية .
حيث يورد الفيلسوف الصدر في كتاباتـــــــــه :
قائلا ( لو أردنا أن نستكشف السبب الطبيعي للحرارة , و قمنا بدراسة عدة تجارب علمية , و وضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة ان : الحركة سبب الحرارة .. فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدة مباديء و معارف ضرورية على التجارب التي جمعناها و درسناها , و لذا فهي صحيحة و مضمونة الصحة بقدر ما ترتكز على تلك المباديء الضرورية .. فالعالم الطبيعي يجمع اول الأمر كل مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث , كدم بعض الحيوانات و الحديد المحمى و الاجسام المحترقة و غير ذلك من آلاف الأشياء الحارة , و يبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها و هو مبدأ العلية القائل ( ان لكل حادثة سبباً ) فيعرف بذلك ان لهذه المظاهر من الحرارة سببا معينا , و لكن هذا السبب حتى الآن مجهول , و مرده بين طائفة من الأشياء , فكيف يتاح تعيينه من بينها ؟ و يستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المباديء الضرورية العقلية , و هو المبدأ القائل باستحالة انفصال الشيء عن سببه , و يدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة , فيستبعد عدة أشياء و يسقطها من الحساب كدم الحيوان مثلا , فهو لا يمكن ان يكون سببا للحرارة , لأن هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة , فلو كان هو سبب الحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه فيكون باردا في بعض الحيوانات , و هكذا يدرس كل شيء مما كان يظنه من أسباب الحرارة فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري , فان أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يُحتمل أن يكون سببا للحرارة , و يدلل على عدم كونه سببا كما فعل في دم الحيوان , فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي الى السبب الحقيقي حتما , بعد اسقاط الأشياء الأخرى من الحساب , و تصبح النتيجة العلمية حينئذ حقيقية قاطعة لارتكازها بصورة كاملة على المباديء العقلية الضرورية . و أما إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر و لم يستطع أن يعين السبب على ضوء المباديء الضرورية فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنية .............)1
وهنا نجد أن الأساس المهم الذي ارتكز على ضوئه المذهب العقلي الذي تبنته الفلسفة الإسلامية نابع من الفطرة الإنسانية و الخزين المعلوماتي الثابت لدى العقل الإنساني , لذلك قالوا بالمعارف الضرورية أو البديهية , فتصبح فعالة و مؤثرة في مجال العلوم النظرية الأخرى التي تعتمد على تلك المعلومات السابقة من خلال العقل البشري العامل الذي يستنبط و يفكر و يقرر على وفقها ... كما أن قيمة النظريات و النتائج العلمية في مجال الحقل التجريبي تتوقف على مدى دقتها و علاقتها في تطبيق تلك الثوابت ( العلوم الضرورية ) لأن أية تجربة إذا لم تستوعب كل الإمكانات المتاحة لا يمكن لها أن تصمد أمام الحقيقة المراد كشف النقاب عنها .
و ما يجدر التنويه عنه هنا , أن السيد ( محمد باقر الصدر ) أشار إلى مطلب ذي أهمية أضيف إلى سطور الفلسفة الإسلامية , و رأي قاطع امتاز بطرحه في مجال المعرفة , حيث أكد : ( ان المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصور , و وجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في أذهاننا .. و عرفنا أن هذه المعرفة ( التصديقية ) مضمونة بمقدار ارتكازها على المباديء الضرورية .. و المسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية فيما إذا كانت دقيقة و صحيحة مع الواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها .... و ان الصورة الذهنية التي نكونها عن واقع موضوعي معين فيها ناحيتان : فهي من ناحية , صورة الشيء و وجوده الخاص في ذهننا , و لابد لأجل ذلك ان يكون فيها الشيء متمثلا فيها , و ان لم تكن صورة أخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافا اساسيا , لأنها لا تملك الخصائص التي يتمتع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء , و لا يؤثر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعالية و النشاط .. فالصورة الذهنية التي نكونها عن المادة أو الشمس أو الحرارة , مهما كانت دقيقة و مفصلة لا يمكن أن تقوم بنفس الأدوار الفعالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصورة الذهنية في الخارج ,, و بذلك نستطيع أن نحدد الناحية الموضوعية للفكرة , و الناحية الذاتية , أي الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي , و الناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاص .. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثل الشيء فيها لدى الذهن , و لكن الشيء الذي يمثل لدى الذهن عن تلك الصورة يفقد كل فعالية و نشاط مما كان يتمتع به في المجال الخارجي بسبب التصرف الذاتي .. و هذا الفارق بين الفكرة و الواقع هو في اللغة الفلسفية الفارق بين الماهية و الوجود .........)2 .
----------------------------------------------------------------------------
(1) فلسفتنا .
(2) نفس المصدر اعلاه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق