يتيح ظهور أو ولادة ( جماعة وثيقة في الهواء) ( وهي احدث تفرّعات الشعرية العراقية ) الفرصة لتمليّ مغزى توالي انبثاق الجماعات والتجّمعات الفنية والأدبية والفكرية بين آن وآن وبشكل تتابعي مضطرد يكشف عن ظاهرة متجذّرة في الثقافة العراقية وغيرها من الثقافات ، وثمة عوامل وحاجات يفترض توفرها لتكون الحاضنة والمؤّولة لظهور هذا التجمّع أو هذه الجماعة - على مختلف المسمّيات -فلا يمكن لأسباب المزاجية والمجانية والاعتباطية ان تصبح باعثة أو دافعة لولادة تجمعات جادة ورصينة في مقوماتها وأهدافها وأساليب طرحها وإلا ستصطدم بمعّوق أو رفض يحيلانها إلى نهاية مبكرة جدا وهناك عديد من البراهين في التاريخ الثقافي يثبت هذه التخريجة .
وقد أمكن لنا تأشير ثلاثة دوافع رئيسة لولادة او إعلان تلك التجمعات إن كانت قديمة أم حديثة زمنيا هي :
1-حراجة المفصل التاريخي
2-تنامي حالات الرفض الثقافي للراهن واستشراف البديل المغاير له
3-نضوج سمات فنية وفكرية ونفسية بين مجموعة من الأصوات الفاعلة في وسط ثقافي تعمل على إحداث تقارب وتواصل بينها .
ومن الواضح ان الدوافع أعلاه باتت أسسا راكزة لا لظهور أي مسمّى جديد بل لمقارنة جدية ونضج وكفاءة المسمّى وأهليته للبقاء والتنافس بين مختلف العناوين في وسط شديد الحراك والتجاذبات للمغايرة والتكسبات في مختلف نياتها ،ولو جئنا لما نحن بصدد الحديث والتقديم له ( أي جماعة وثيقة في الهواء) سنجد برهانا على ما ذكرناه في التمهيد النظري أعلاه ، وسنرى بدءا ان تاريخية الإعلان عن الجماعة( أيلول 2011 ) زامنت مفصلا تاريخيا يتسم بالحراجة والتقلبات في بلد منشأ الإعلان ( العراق ) وان أية مقاربة للمتن الزمني ستشي بالعصف والتبدلات وتحديات الهوية والوطنية وتطاول الضغوطات والمهيمنات الخارجية بأشكال وكيفيات ظاهرة ومستترة ، من هنا كان الإعلان عن هذه الجماعة انعكاسا وتحديا (ربما مشاكسة ) لمرحلة تاريخية معيّشة بلغت حدا واخزا من الضعة والاستكانة والتدخلات الفاضحة وضياع الحقوق والكرامات ما دفع مجموعة الشعراء والشواعر إلى الانضواء في جماعة ناطقة بهويتها الوطنية والشعرية ومضادة لمرحلتها التاريخية المتهافتة والنازفة بخسائر فردية وجمعية في آن .
ان ما يحدث في الوسط الثقافي العراقي ( والشعري منه بصورة اخص ) من تدافعات على الواجهة وأمامها وتقديم سوءات شعرية منشورة ضالة عن حقيقة الشعر وقدسية الكلمة واندغام شعراء في موجات وتقليعات الشكلية والتغريبة والطلسمية المهجنة مع استمرار إقصاء المتون عن الساحات الضاجة بين ثنائيات القبح / الجمال ، الضلالة / الحقيقة ، الهوان / الثبات .. ألخ كل هذا ( وسواه الكثير ) كان له فعله في تسريع فكرة إنضاج مشروع جماعة (( وثيقة في الهواء )) وطرح حركة مناهضة بل رافضة للسائد الشعري والاتجاه لطرح البديل القائم على المشروع الجماعي عوضا عن المنجز الفردي وهذا يمثل تغييرا واضحا في مفهوم المنجز الشخصي وتقنين طرحه وتلقّيه ، وقد استوضحت عن فحوى هذا المفهوم من الشاعر مناضل التميمي ( وهو منسق مشروع الجماعة ) فأجابني بقوله : هو يعني الخروج من المألوف لكسر رتابة المنجز الشخصي وهي ظاهرة جديدة وأنا أطلقت عليها تسمية ظاهرة (اقتصاد الشاعر) ولكن بشروط قد تكون مكلفة أكثر من المنجز الشخصي من حيث المضمون أكثر من الشكل، فهنا الشاعر يقف أمام معضلة المنتقيات،وأمزجة المتلقي في زحمة المنجز الجماعي..)).
يبقى الدافع الثالث والأخير لإعلان الجماعة واعني به نضوج سمات فنية وفكرية ونفسية بين مجموعة من الأصوات الفاعلة في وسط ثقافي تعمل على إحداث تقارب وتواصل بينها، وقد لاحظت بعد قراءات معمقة لقصائد الجماعة وسير أفرادها الحياتية والأدبية ( المنشورة في هذا الكتاب ) ان هناك تقاربات واضحة بين الشعراء الثمانية تجعلهم مؤهلين للتجميع في هذا المشروع الشعري ودفعه باضطراد الى منطقة الضوء العام ، ومن أسماء المشاركين سيكون من اليسير على القارئ ( بله الباحث المتابع) ان يخلص إلى أن هؤلاء الشعراء والشاعرات بريئون من لوثة الفئوية والحزبية والجنوح للممالأة والتكسّب وقد ابعدوا ذواتهم عن السعي في إسقاط ودفع الشعر في مهاوي التزلف وتجهيل مآسي الإنسان العراقي وفتح الوطن لاستباحات داخلية وخارجية ، إنهم في حكم الرافضين لما يراد بالإنسان والوطن من مصائر مهولة راهنة وقادمة ، والملاحظ أيضا ان التركيبة الجغرافية للشعراء بعيدة عن المركز أو العاصمة وهم في جميعهم منتسبين او قادمين من المحيط ( وهو توصيف مخفّف للهوامش الجغرافية ) ولنتعرف عليهم جغرافيا :
مناضل التميمي - حسين الهاشمي - عباس باني المالكي ( ميسان)
رياض الغريب - إبراهيم الجنابي ( بابل )
رشا فاضل ( صلاح الدين )
فليحة حسن ( النجف )
شينوار إبراهيم ( مغترب في ألمانيا )
إن هذه الترسيمة الجغرافية لم تأت جزافا او لانتماءات مناطقية ( فما أكثر المنتمين لتلك الجغرافيات وسواها ولكن من العسير جدا تنسيبهم لهذه الجماعة لافتقادهم لمستمسكاتها ) لكن الفيصل هنا وجود تقاربات فنية ونفسية غالبة ولك ان تقول مميزة ودالة على نضجها كجماعة جديدة ، ولا بد لي أن اذكر أمرا آخر : إن أسماء الشعراء والشاعرات المذكورين والمذكورات أعلاه تفضي الى حقيقة شعرية باتت لصيقة بهم وبهن مفادها ان هذه الجماعة تجهر بأسماء حققت حضورها داخل العراق وخارجه بل ان بعضها تجاوز صيته المحيط العربي الى القاري وان منهم من حظي بشهرة واسعة عالميا بمعنى أننا لسنا إزاء تجارب غضة وأسماء وليدة تحتاج الى مظلة ( الجماعية ) ليشتّد عودها وتبرز بل ان عكس هذا هو الحاصل تماما : الأسماء الثمانية لها من النضج والحضور والشهرة ما سيعطي مشروع الجماعة مجالا للبروز وتحقيق الذيوع ، كما ان ظهورها الأول هنا ك ( مشروع كتاب ومختارات ) يعني ان هذا الاستهلال الواعد يفتح أفقا لكثير من الوعود والآمال في القادم الزمني وآن لنا ولغيرنا ان يطمح بشلال من الثمار الورقية والرقمية تتدلى من شجرة الجماعة (جماعة وثيقة في الهواء ) على شكل روايات ومسرحيات وطروحات نقدية ومباحث نظرية و ليس من الغريب ان يفتح رواد الجماعة مساحة ضافية لدخول أسماء وتجارب جديدة طالما كانت مؤمنة بأهداف الجماعة ولها القدرة على إضافة الجديد المعافى إليها.
* من متن النصوص
يتّسع هذا الكتاب لأربعين قصيدة بين قصيرة وطويلة نسبيا وقد توزعت بين الشعراء والشاعرات ألثمان ( ستة شعراء وشاعرتان ) كما يلي :
فليحة حسن :ثلاث قصائد
رياض الغريب : أربع قصائد
شينوار إبراهيم : أربع قصائد
عباس باني المالكي : خمس قصائد
إبراهيم الجنابي : ست قصائد
حسين الهاشمي : ست قصائد
مناضل التميمي : سبع قصائد
رشا فاضل : خمس قصائد
فتكون المحصلة العددية للقصائد الواردة في الكتاب أربعون قصيدة تكاد تجتمع _على فروقاتها البنائية والتعبيرية _ في مضامين عليا وتوصلات رؤيوية تنتظم جميعا بخطاب جامع وان تعددت منافذ التماسه وتغايرت صوره ومقارباته قربا وبعدا الا انه في المحصلة العامة قادر على توكيد مسعى وهدفية الشعر حين يتحول من البوح الذاتي ليصب في مجرى الهدير العام ، وان أية مقاربة لهذه القصائد ( على ان تكون مقاربة متزنة لا تسبقها النيات والأحكام ) تسمح لقارئها بالوصول إلى نتيجة أولى مؤداها ان هذه الجماعة الوليدة قادرة على إحداث الظن الايجابي بقدرة أفرادها على إفراز مواقف تتعدى منطقة الشعر وان كانت منطلقة منه وارى ان هذه القصائد تنعم بتوصيفات مميزة لها قابلية سحب القارئ للتفاعل والتواصل معها ومن أبرزها:
- القصيدة السيرية
تنتمي قصيدة ( رؤؤس معلبة ) للشاعر إبراهيم داود الجنابي الى نمط فني معروف ب ( قصيدة السيرة ) لأنها تشغف بإحالة يوميات الشاعر ومحنه إلى شكل حكّاء من السيرة ولكنها في قالب شعري وليس سردا قصصيا ، ويمكن تمييز الوحدات او اللوحات المستقاة من سيرة الشاعر وقد شحنها بصور شعرية متراكمة ولكنها تعطي إيحاء بان الجنابي إنما يكتب سيرة له مهولة وفجائعية قريبة من مشاعره الجوانية ولكنها في العموم معبرة عن سيرة شعرية لها قدرة التعميم :
رؤوس معلبّة
مذ كان دمي تلعقه فئران الصباحات
مذ كانت الخفافيش
تعشعش على أكداس الرؤوس المعلبة
على قارعة الهواء
مذ كان رأسي يهوي على نجمة وطني
ثمة عيون تشق انهار لعثمتي
وتدون أوراق الخداع
على أرصفة من طين أنوثتها
فخفافيش الصباحات والمساء
يلعقون دمي على أرصفة موبوءة
يرسمون خارطة الوطن بأصابع حمراء
وشوارع من رصاص
يدونون على طبول عقيمة
انتصارات أشرعة الدم
فانا لن أغير بوصلتي نحو السواد
دعني الوي عنق زجاجتي واصفق لخدوجة الصباحات
والمساءآت الهرمة
المساءات التي توضأت بدموع دجلة وقارورة شهرزاد
- هجائية القمر
تبرز في قصيدة ( عد لكره القمر مثلما كنّا معاً ) للشاعرة فليحة حسن نبرة الهجاء المغلفة بحروف عاشقة ولكنها مستلبة رغم توجّدها الظاهر ،ومن الواضح ان الشاعرة تتخذ من القمر قناعا تجهر من وراءه بموقف وجودي صارخ (( لم تشأ الإفصاح عنه ان كان مبدأ مضاعا أم قضية طوطمية ام رمزا للمقدّس )) يمخر ثنائية الحب والحرب فيكشف الأفول في عالم متداع ضاعت فيه الأنوثة والروح الطرية وجمّلت الأغاني الحروب، وما يلفت الانتباه في القصيدة أنها تطلق رؤية انقلابية تشي بسلبية القمر وعدميته وعبثية وجوده فهو ( طفيلي وبليد ) وسماؤنا سوداء رغم وجوده ( ! )
•- عد لكره القمر مثلما كنّا معاً
بين حربين أتيتَ
توسطتهم
وأشعلتَ ناراً لحبِّ جديد
وصرنا نوزعنا بين شمسين
واحدة لي
وأخرى لعينيكَ حين تغيب الدروب
ولسنا اختلفنا
إلا على الراء
حين تريد التوسط
بين حاء وباء
نقول لبعض (احبكَ)
والحروب تجمّلها الأغنياتُ
تمسح عن شفتيها الدماء
ولسنا بعيدين عن أظفارها كيما نبادلها بالبقاء
وكنتُ كما كنتُ دوماً
أحبُ حروفكَ وأسعى إليها
...................
الستَ تقول :
ستنزعُ عني شجوني
وُترجع روحي طرية ؟؛
وقلتَ:
سأصنع منكِ زهوراً
وكنتُ نسيتُ اخضرارَ المساءِ
بعد جفاف الأنوثة فيّ
فعدْ لي إذن
لنكرهَ هذا الطفيليُ
هذا البليد
الصوّره كغادة شقراء ينساها المشيب
ناسين إن سماءنا
سوداء رغم وجوده !
- الحرب تقوّض الوهم
تستجيب قصيدة ( حياة ) للشاعر رياض الغريب لمقولة أطلقها مرة الشاعر الأذربيجاني رسول حمزاتوف ونصها ((جمال القصيدة في بساطة كلماتها)) وتكاد قصيدة الغريب تمثل تجسيدا بارعا لتلك المقولة ومصداقا لبنيتها الدلالية ، وفي مجمل أبيات القصيدة تسري نغمة هادئة وتتراكم صورها من غلالة شفيفة لا يقطعها جفاف تعبيري او صورة خامشة بل هي مثل لوحة مشخصة لطبيعة صامتة لكن المتمعن في الراكد المستديم يكاد يقبض على الصوت المستفز والمتراكض في القعر السحيق ويصبح الهدوء الظاهر كمائن لاستجلاب ألموار المتحفز ،لقد أحسن الغريب اذ اظهر حياة مزدوجة ابتدأت بوهم ثم عالجتها الحروب حتى كشطت أقنعة البساطة والهدوء فاوقضت الحياة دكا وفتكا فإذا بصاحب الحياة ينتبه من أوهامه ليجد نفسه غافية في بلاد أدمنت الحروب !.
حياة
لم تكن فكرته
ولم يلوح لغروب العمر
ببساطة متناهية سارت به الحياة
هو الوحيد الذي لم يكترث للحروب
بل كان يسمع الموسيقى
ويكتب القصائد
بينما
القذائف تتساقط قربه
لم يفكر بالموت
ولا بالشيخوخة في المرآة
كل ماكان يعنيه
امرأة توهم أنها تحبه
وهي بالانتظار
لعل احدهم يعود
يحمل قصاصة صغيرة
كتب عليها
من أقصى الجنون
إلى ......
توهم حتى أصبح شاعرا
وحين تخثرت حياته
ولوحت له مساءات الغروب
أيقن
بأن الذي يحدث حوله
لم يكن من اختياره
ولم تكن تلك الحياة التي صادفها
حياته
لذلك
حاول أن يتخلص من لحيته الزرقاء
وبكاءه المرير
قرب اقرب حرب
لبلاده
التي أدمنت الحروب
........
- شخصنة الفجيعة
تبدو الشاعرة رشا فاضل في قصيدتها ( في عنق الرصاصة ) اقرب الى مثّال اغريقي يمعن ازميله في كهف مترام ليجّسد على الصخر فاجعته الكليمة وليودع منحوتته في ذاكرة الأجيال القادمة ، ولئن كان الإهداء من موجّهات القراءة الخارجية للنص فقد نجحت الشاعرة في توجيه إهدائها ((الى أطوار وهي تسرق بهجتنا) لان - أطوار بهجت - أصبحت قرينة البراءة الموؤدة والموهبة التي طالها رصاص الوحوش ، وتمعن الشاعرة في تجسيم واقعة الاغتيال فتحيلها الى اسطرة بليغة تحاكي ما رواه التاريخ من قصص نظيرة كان من اخص خصائصها إنها ( تشخصن ) الفاجعة فتحيلها رمزا مرويا على السنة السير والرواة ، إن شدة اندغام الشاعرة بهول الاغتيال ودهشتها من فرار القتلة ليذهب دم ( أطوار ) غيلة وليدّون فاجعة في ( عنق رصاصة ) كل هذا أمكنها من تسريب قصيدة لافتة تعد من جياد القصائد الراهنة .
في عنق الرصاصة
(إلى أطوار وهي تسرق بهجتنا)
قبل اغتيال الشمس
ثمة حلم يراقص الغزالة
فوق عنق الرصاصة
حلم. . . أخير
يعمد الروح بجحيم الانتظار
ويفسد عليها سكينة الانطفاء
ويؤجج الملح
في ذاكرة النسيان
حلم
أخير
أيها الراكض فوق جحيم العباره
والمسافر
بين الحضور والغياب
أعلقك فيه
شمسا
تباغت بنعاسها
الأيام الكفيفة
- ذاكرة مبتلاة بالأمل
هناك اختلاف بين ما يكتبه شاعر مغترب مثل شينوار إبراهيم ( مقيم في ألمانيا ) وبين شعراء آخرين متزامنين يؤرقهم مصير أوطان تعّمدت بالحروب وتثلمت بالفساد وقاربهم الموات مثل شهيق وزفير ، لهذا نجد إن قصيدة ( بغداد ) لشينوار اقرب لان تكون رؤية عابرة الأسوار والحدود والحتوف المتفاصلة بين جغرافيتين ومصيرين فهي تنهيدة شاخصة تطل من مدار الحياة لم يعطل تغريدتها الا وسيط منهمر من الذكريات او فصول متقلبة بين جروح والحان ، ولعل الشاعر اثر ان يناغم بغداده بشجن المناداة مازجا بين حنين مزمن وراهن مزقته الغربة والمسافات اللامتواصلة ، لكن من يمعن في قصيدة شينوار سيتوقف أمام ((ذاكرة مبتلاة بالأمل )) وهو توصيف شخصي استخرجته من القصيدة ليصبح عنوانا لها .
بَغْدَاد
الرَّبِيْعُ..
يُضِّمدُ بَيْن أَحْضَانِهِ
جِرَاحَاً
تَنْبَعُ مَن صَدْرِي
وَالْرِّيحُ
تَعْزِفُ لَحْنَاً
بَيْن شَمْعَةِ أَمَلٍ
وَآَهَاتِّي..
وَأَخَادِيِدُ الزَمَنٍ
عَيْنَاهُ تُمْطِرَانِ :
هَمْسَةً
نَاعِمَةً
دَمْعَةً
تُوَاسِي
زَهْرَةً
تُصَلِّي لِلْسَّمَاءِ...
رَاكِعَةً
تَضَعُ رَأْسَهَا
بَيْنَ أَضْلُعِي
تُبَلِّلَ
جُرْحَ وجهي
عبقا...
فَمِي
قَد أَلْزَمَهُ الخرس
لماذا
تَحْتَ أَعْبَائِي شَرْخٌ
وتَجَاعِيدُ مَسَافَاتٍ..
أَلَمِي
أَنْتِ
تَصْرُخِيْنَ
تَنْزِفِينَ دَمَاً
فِي أَزِقَّةِ إدماني بك
أَنْتِ
تَبْحَثِيْنَ عَنِّي
عَن الْلَّيْلِ
لِيَضُمَّ غربتي
وِيَنَام معي
مثل قنديل معتّق بالهبوب
- شعرية المحنة
يوما ما كتب الشاعر حسين الهاشمي مقالة عن شعر باسم فرات عنونها هكذا ( من شعرية المحنة الى صدمة المكاشفة ) طرح فيها سؤالا صادما : هل ثمة تعويض يمنحه الاشتباك الخفي بين الذات المقهورة والوقائع التي تمثل سجلا عاريا في الوجدان الشعري ؟!) ، وارى ان قصيدته ( وثيقة في الهواء ) التي أخذت عنوانا للكتاب تبوح بنفسها تطبيقا لشعرية المحنة كما ان صدمة المكاشفة من ابرز علامتها التعبيرية ولا سيما أنها تكشف (أم تراها تفضح ؟!) جانبا لم يعد مخفيا عن الذات المقهورة ، وفي غالب الظن ان شعرية المحنة تؤّصل لجنوح الذات المقهورة الى صدمة المكاشفة فتكون الأولى (المحنة) دافعة لتوصيف الثانية ( الذات المقهورة ) ليتحصّل المعطى ( صدمة المكاشفة ).. ان الهاشمي ينشر في قصيدته كما واخزا من المكاشفات ثم يطلقها كوثيقة في الهواء !.
وثيقة في الهواء
الأرجوحةُ التي أهدتني
إلى غيمةٍ
لم تزلْ تلوّح
لملامحٍ لا تعرف الاختباء ...
كم ندرأ عن بيوت ِأيامنا
وكم
نستضيفُ من ثقوبِ الأعاصير
ونعلنُ
نحن جنودَ المجاهيل
لا شراسةَ تحرثُ السماء
سوى الهديلِ
لا ذخيرةَ للعشب سوى العزلة ................
منذ متى
وغنائمُ الذاكرة
كلما جفّت حقائبُها
خطفتها الممراتُ إلى ............؟
ونحن نصغي لأرجوحةٍ
أهدتنا لفكرة ِالأمل
...
- التوقيعات كمهاد للاعترافات
يتخذ الشاعر عباس باني المالكي من تقنية ( التوقيعات ) مهادا لقصيدته (اعتراف في مدن العزلة ) وهذه التقنية الشعرية تتيح للشاعر ان يمارس الاختزال الى حده الأقصى بحيث تتحول القصيدة الى ومضة تقع في ثلاثة اسطر او أربعة لكنها تجهر بالمعنى او القصد كاملا ، وقد نهج المالكي في توقيعاته ( التي سلكت أسلوب المقطعية الرقمية ) ان يجزّئ خطابه الشعري الى مجموعة اعترافات لم تكن فردية او شخصية بل هي ناطقة باحتراقات لها صفة العموم ولو أننا راكمنا مجموعة الاعترافات الممهورة بوسم الشاعر في جل المقاطع ( وهي قصائد مضغوطة ) سنجد أننا إزاء عزلة جمعية وان ألبست خلاف ذلك فاللغة ( المقشرة ) تكشف عن ازدواج تعبيري في الرصد والتكوين ولابد ان تقابله قراءة ذكية محايثة للقصد الشعري .
(اعتراف في مدن العزلة)
(1)
أنتزع ظل الشجر ..،
غفت الألوان...
خارج ذاكرته ...!!!
( 2)
لا يعرف اتجاه الدروب
رحل في التيه
يبحث عن طفولته...!!!
(3)
لم يعرف إلا التنجيم ....!!!!
ينتظر عمره
في كل قصاصة ورق
تسقط من فأس الوقت ...؟؟؟
( 4)
ظلﱠ يسرق ...
مشى في الشوارع
عاريا من النهار ..!!!
(5)
تعود أن ينام مبكرا
لم يرَ القمر
ينير نصف غرفته ...؟؟؟
(6)
دائما يقول ..أنا ...
وجد ذاته ...
في مدن تحترق بالعزلة ....؟؟؟
- هجّاء الضمائر الثلاثة
تنفرد قصيدة الشاعر مناضل التميمي ( لك بعد الآن ما يكفي ) بميزتين متواشجتين : أولاهما أنها تستجمع الضمائر الثلاثة ( أنا المتكلم / أنت المخاطب / ضمير الغائب هو ) في متن شعري متداخل الروي والأدوار ،
وثانيهما ان القصيدة تتلفع من أولها الى آخرها بصوت هجائي قارص ان كان في التقاطاته ام في تدوير وقائعه او حتى إبدال الضحكة والسخرية بفواصل الحزن والإقصاء شديدة الوقع والندب ، التميمي يفتح سجل الحساب الوطني والأخلاقي والتاريخي الى كامل اتساعه فيمسك وينتهل ويقلب المسميات ويزجر الوقائع كأنه يردد مع الباحث الانكليزي توني بير مقولته الذائعة (( في أوقات الصراعات فان الشاعر هو الذي يقول الحقيقة اكثر من سواه )) والذي يقرا قصيدة التميمي لا تمسّه الدهشة بل يعجب كيف ان الهجائية تتحول الى قوة شعرية تتزّين بقول الحقيقة .
لك بعد الآن ما يكفي
هو باق ٍ يمشي بأقدام الحضارة ،
كالسلحفاة البطيئة ... نحو القبر !!؟
فالصحارى ، والبراري ، والحضارات
أساطير ميتة ... !! ؟؟
لا تستأسد تأريخك الذي عبث فيه الملوثون !!
أنا وأنت والآخر ومن هناك
شياة مؤجلة للقتل !! ؟
وهم خنازير مؤجلة للذبح !! ؟
تبغ الحروب موضة العدم الفذة ...
أغنية الساسة الجدد مطلعها يقول :
جاء الغزاة ، ومضى الطغاة
فأين المفر من الحياة !! ؟
هكذا علمتنا الجنرالات صيغ الأسئلة
وإتقان الانحناءات
فلماذا تناكدنا الإدانات ؟ !!
ونحن وسط قارة خرائب الروح ...
ليتكَ ابتكرت لنا سماءاً ثانية
دون مداخن !! ؟
* خلاصة
رأينا من خلال وقفاتنا الموجزة مع قصائد منتقاة لـ ( جماعة وثيقة في الهواء ) ان هناك اتصالا وثيقا بين أهداف الجماعة النظرية والقصائد التي جاءت بها كمستندات تطبيقية حتى لا تكون هناك فجوة بين الباعث النظري والنص التطبيقي ، وقد بدا واضحا من الفحص النقدي ( وان ظهر عجولا مختزلا في مقولاته وتوصلاته ) ان الشعر في اهاب رؤية جماعية يتحول الى وثيقة كونية مكتظة بالجهر والإدانة والاحتجاجات الصادمة ضد عالم لا إنساني بالمرة وان قدم إنسانيا في مسمياته وأشكاله ، ولأننا في حضرة ( وثيقة في الهواء ) فإننا بحاجة لشجاعة كافية لتقبلها كرسالة استغاثة واتهام من أصحابها المشووين في افران النكسات وعسف الضرورات لكنه - اعني الشعراء الستة والشاعرتان أصحاب المشروع- يوقنون ان وثيقتهم التي ستحلق في الهواء ستتمخض يوما عن أحلام قريبة ستنمو بين حراب وحروب وأنهم سيطأون يوما منطقة الرشد الإنساني ، وقبل هذا وذاك نراهم حققوا أولى أفراحهم حين اشهدوا العالم بأنهم دمغوا الراهن والتاريخ معا بدمغة الشعر وقبضة الوثيقة !!.
ناظم السعود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق