لعل المتتبع لنصوص الشاعرة المبدعة ميادة المبارك يجدها اكثر التصاقا وتوحّداً مع الوطن فالوطن بالنسبة لها هو الهاجس الكبير والحلم المقدس الذي تعبر من خلاله حدود التمني فهو الملاذ الذي يستريح على ضفافه القلق وتهدأ على نسائمه غمامة القلوب فينمو الزهو ويورق الأمل ,الوطن هو الحضن الكبير لكل اشراقات الروح واماني التوهج ونشوة الفرح ,هي تريده وطناً يزدهي بالسلام ويشرئب بتاريخه المشرق بالعلا ,وطناً لاوجود فيه للدخلاء والطارئين وذابحي الفجر,تريده وطناً حرّاً موحّدا تندحر على حدوده كل مؤامرات الاعداء ,وطناً يسبح بالسلام وألأمن طارداً للفتن والطائفية وألأغراب.....والكتابة الأدبية بمختلف اجناسها وتنوعها الابداعي هي فن المتعة لذا يعرّف رولان بارت الكتابة-في محاولة لتشخيص جوهرها اللغوي الابداعي- بأنها(علم مُتَع الكلام) وهي في نصها هذا تحقق لنا المتعة بكثافة اكبر وحساسية اعمق بخلق مستوى عالي من الشعرية من خلال اللغة التعبيرية المميّزة التي حلقت بنا في فضاءات الابداع حيث (الصورة والتخيّل والرمز والرؤية المكثفة وتوهّج اللقطة وعمق الرؤيا وشفافيتها) ..وانا اذ أسلط الضوء على نصها المميّز(سطري المبارك) فانني أبدأ من العنوان وقد قيل سلفاً أن الموضوع يدرك من عنوانه..... السطر لغة:هو الصف الأول من الشيء,والمبارك ,مبارك:اسم مفعول من باركَ يباركُ, وبارك الشيء :جعله مباركاً أي ميموناً أو سعيداً وبهذا هي ارادت ان توجز كل ماتكنه لبلدها من مشاعر واحاسيس في هذا السطر المبارك الذي هو الأول في اولوياتها والمبارك والميمون في قداسة الاعتزاز والحب والتضحية هي اختزلت كل مشاعرها فيه....وقد ابدعت في لغتها التعبيرية التي صورت لنا فيها مدى الالتصاق والذوبان في الوطن وتألقت في تجليات التعبيرحد الابهار والدهشة ,هي تأخذنا بعيدا حدّ الانتشاء بهذاالعبق المقدس:
يباركني اليمام حينما تتوضأ من جبينكَ أشعة الشمس..
فأنتشي حباً لمنتهى مجدكَ المعطرِ بأهازيجِ الملاحم..
تكدسني رفوف ذكرياتكَ أطباقاً ملهمة ناضجة..
أعبرُ بكَ حدودَ التمنّي..
حيثُ الأنا!!
أتلألأ ,
أتوارى خلف ظلكَ غزالاً شارداً..
فتنسجني مساءاتك الموجعة ..
وعندَ الشفق!! تلوحكَ أذرعي الدافقة بالحنان..
في هذا المقطع تبدأ بفعل المضارع الذي يفيد الحال والمستقبل (يباركني) اليمام عندما تشرق في افقك شمس الحرية والعزة والكرامة وهنا هي تألقت في اختيار من يباركها بذكاء حيث حلقت مع اليمام .واليمام: هو حمام بري عصي على التدجين, اذن هي عصية كما اليمام وكما العراق لايمكن ان تُدجّن اوتروّض ,لانها تنتشي بعبق المجد الخالد وملاحم الاجداد وحمحمات خيول النصر , ثم من فعل(التكدّس) تتوحّد مع سنا الذكريات والتاريخ الخالد وهنا يظهر البعد التفسي بابهى تجلياته عندما تعبر بالوطن حدود التمني الأنوي الى العوالم الرحبة من الضوء والاشراق لكنها ترتد بحالة نفسية اخرى عندما تصطدم بالواقع المرير فتتوارى خلف ظله غزالاً وهنا ايضا استخدمت مفردة(غزالا) بذكاء لأن الغزال هو حيوان بري معروف بشدة جريانه وكم يكون عصيا عند الصيد,وتبلغ ذروة التوحد بالوطن عندما تنسجها مساءاته الموجعة فتحتضنه عندما تشتد عليه المحن والكوارث في غرّة االشفق باذرع لاتعرف غير الحنان والحب والسلام...
أجوبَ صحاريك..
شفيفة أنا مثل رملةٍ عندما تدحرجها الرياح..
يبددني أثيركَ المضرّج بضجيجِ صدىً صاخب..
ونور أبجديتي!!
سورة تجتاز بسطرها مخاوفي القادمة بك..
وعلى زهرة البيلسان النابضةِ وجداً..
يرقدني السلام..
لأقضم أعماق غربتي بوطن..
يسكنني غصن توتكَ البرّي الذي يأبى الإنحناء..
وبرئة قنديل بحركَ السابح في موجِ بحرٍ عتيد.
في ظل هذا الواقع المؤلم والقلق النفسي والانهيار المريع.والتداعيات الخطيرة التي يمر بها الوطن هي تهرول فزعة في صحارى الوطن شفيفة مثل ذرات الرمل التي تدحرجها الريح ويبددها الاثير الصاخب وهي رغم انها شفيفة كالرمل لكنها عصية على الريح فلا تغادر تراب الوطن تنثر عليه نور حروفها التي تتوهج القا وحبّاً وغناءاً كي تجتاز كل مخاوفها عليه, تغني للسلام كفراشة تحطّ على زهرة البيلسان وهنا تتألق في اختيار زهرة البيلسان ,فالبيلسان:هي شجرة من فصيلة البخوريات,اوراقه متقابلة,ثمارها عنبية,ولها زهر ابيض كهيئة العناقيد,يستخرج العطر من بعضها,تكثر في الجزيرة العربية وخاصة في السعودية, ويقال ان اغصانه تستخدم في تنظيف الاسنان- مسواك- بالدرجة الثانية بعد شجرة ألأراك),اذن هي تنثر البخور والعطر على الوطن رغم غربتها فيه وتتجذر في ترابه مثل شجرة التوت البري والتوت:شجر يؤكل ثمره وتعتاش على ورقه دودة القز التي تنسج الحرير. وبهذا ابدعت في اختيار المفردة لتعلن انها متجذرة لاتنحي للريح ولايمكن اقتلاعها من ارض الوطن...
أشم عبير نوارسكَ المحلقة بالغيم..
فتطوقني رموز أحبارك..
أدوزنكَ وتراً,لحناً تعزفكَ يداي..
وعند بتول مروجكَ الخضراء..
أنصبّ جدولاً تتوقه الجبال, ويهيمه الفَراش..
تسوقني سحبكَ المترعة بالحروفِ والكلمات..
تغفوكَ زهرة البيلسانِ بأوراقها الخضراء..
بظلك الوارف!!
تبّشر طالع حرفي بأحبار تستشفها الجروح..
و تسرجكَ قناديلي ضياءاً تخافه العتمة
في هذا المقطع الأخير يتوهج البوح لترسم لنا صورة شعرية بلوحة فنانة محترفة, ,تحلق في سماء الوطن نوارساً من ضوء ترقص في افق الشوطيء مغردة لبهاء التاريخ الخالد وعطر الحضارة ,فتنهمر جداولا من كبرياء ومروجا من عنفوان ,تستحضر كل ألق الأمة وسموّها تبشر بالمستقبل عبر بوابات الامل وتسرج قناديل المحبة والسلام كي يتبدد الظلام الى الابد ....
الخلاصة : نص شعري ساحر يرقص فيه الابهار وتسكنه الدهشة ,تميّز بصوره الشعرية الرائعة وتألقت فيه اللغة التعبيرية , حيث ان اللغة هي سر عظمة القصيدة و تعتبر القصيدة الثانية على قول ادونيس(داخل كل قصيدة عظيمة قصيدة ثانية هي اللغة) . استطاعت فيها الشاعرة من ايصال مشاعرها واحاسيها الينا باقتدار وابحرت بنا في فضاءات الزهو والعنفوان والكبرياء عبر توحدها بالوطن , ثم استطاعت ان تسمعنا صوتها الذي يغني لوحدة العراق ارضاً وشعباً وينبذ الفرقة والطائفية والفساد وحالات التشظي في المجتمع واعطتنا جرعة من الامل بمستقبل آمن بهي للعراق وانارت العقول بضرورة محاربة الحالات الشاذة والفتن والطايفية وطرد الفاسدين والطارئين والاغراب من جسد الامة ..تحيتي للشاعرة المبدعة ميادة المبارك على هذا النص الراقي...
النص:
_ سطري المبارك _
يباركني اليمام حينما تتوضأ من جبينكَ أشعة الشمس..
فأنتشي حباً لمنتهى مجدكَ المعطرِ بأهازيجِ الملاحم..
تكدسني رفوف ذكرياتكَ أطباقاً ملهمة ناضجة..
أعبرُ بكَ حدودَ التمنّي..
حيثُ الأنا!!
أتلألأ ,
أتوارى خلف ظلكَ غزالاً شارداً..
فتنسجني مساءاتك الموجعة ..
وعندَ الشفق!! تلوحكَ أذرعي الدافقة بالحنان..
أجوبَ صحاريك..
شفيفة أنا مثل رملةٍ عندما تدحرجها الرياح..
يبددني أثيركَ المضرّج بضجيجِ صدىً صاخب..
ونور أبجديتي!!
سورة تجتاز بسطرها مخاوفي القادمة بك..
وعلى زهرة البيلسان النابضةِ وجداً..
يرقدني السلام..
لأقضم أعماق غربتي بوطن..
يسكنني غصن توتكَ البرّي الذي يأبى الإنحناء..
وبرئة قنديل بحركَ السابح في موجِ بحرٍ عتيد..
أشم عبير نوارسكَ المحلقة بالغيم..
فتطوقني رموز أحبارك..
أدوزنكَ وتراً,لحناً تعزفكَ يداي..
وعند بتول مروجكَ الخضراء..
أنصبّ جدولاً تتوقه الجبال, ويهيمه الفَراش..
تسوقني سحبكَ المترعة بالحروفِ والكلمات..
تغفوكَ زهرة البيلسانِ بأوراقها الخضراء..
بظلك الوارف!!
تبّشر طالع حرفي بأحبار تستشفها الجروح..
و تسرجكَ قناديلي ضياءاً تخافه العتمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق