عندما تزدحم فوق اكتافنا السنون ، والحياة أمامنا مكشوفة كالكف ، نمارس متعة جديدة فيها لذة وأسى في آن .
متعة التفرج على الأشياء ومراجعة النفس .
فتدهمنا احاسيس لم نكن نعرفها ونحن شبان ، احاسيس من الرقة والشفافية والحزن الى حد يهزنا مقتل ذبابة ، انها مشهد من الحياة ، يتكرر كل يوم وكل ساعة وكل لحظة ايضا ، ونحن شبان كنا نشعر آزاء مثل هكذا مشهد ، بالقرف .
لكن هذا الاحساس يتبدل جذرياً عندما نجتاز عتبة الخمسين .
ذبابة قزحية ، اذا هددتها بتلويحة يد ، ابتعدت ثم عادت تقترب منك ، وتتساءل في هذه المرحلة من العمر : اتريد الوقاية من عدو ما .
من عنكبوت يريد أن يحوك حولها خيوط ثم يفترسها على مهل ، ام من قطة تريد أن تهشم جمجمتها ، او تلوذ بك من برد صقيعي يلف الجو الخارجي ، وهي تتحرك حولك تبعدها تارة بيدك ، واخرى بهزة من كتفك او وجهك وهي مصرة على أن تلوذ بك من هذا العدو الخفي الذي يطاردها ثم لابد ان تتأفف فتترك المكان ، او تسعى لطردها من المكان .
مشهد قد لا تنتبه له او قد لا يعنيك .
على زجاج مقهى ، كانت ذبابة من هذا النوع تتمشى ، ذبابة وحيدة نجت من المبيدات الكيمائية ، فمن النادر ان تعثر في المانيا على ذبابة . بل تبدو هنا مختلفة كليا ، عن اسراب الذباب التي تملأ جدار المقاهي الزجاجية في الوطن ..
بل تملأ كل مكان .
ألم نتساءل مرة : لماذا يعشق الذباب الزجاج .
فيكاد يلتصق به مهما حاولت ابعاده عنه .
اذ تمارس متعة التفرج الحيادي امام هذا المخلوق القميء القذر الذي تطلب نشرات وزارات الصحة في العالم القضاء عليه لأنه ينقل مختلف الجراثيم والأمراض ..
هل تتذكر هذه التحذيرات والتنبيهات والسيدة الذبابة امام عينيك في المرأة ؟!
أنك تتأمل
ربما نسيت في هاتيك اللحظات أنك إنسان له همومه ، أي هموم ..
وما بقى أقل بكثير مما نقضى ومضى .
السيد غاني جاري ، مسكنه لصق مسكني في بوكينغ ( ألمانيا ) وبين حديقتي منزلينا حاجز خشبي .. رأيته ذات يوم يضع في صحن على منصة قطعة كبيرة من اللحم المقدد ، خلت أنها يفعل من أجل العصافير و الطيور .
سألته .
فقال : لا ، بل من أجل الذباب
قلت مستغرباً :
من أجل الذباب ؟
قال :
بلى .. الا يحق للذباب أن يأكل لحماً ؟!
وبالفعل ، ما أن دخل السيد غاني بيته من باب المطبخ واغلقه خلفه ، حتى هبط على قطعة اللحم سرب من الذباب ذي الحجم الكبير أخذ يلتهم قطعة اللحم بشراهة .
أسرني المشهد دون أن أنتبه ، دون أن أشعر بأي قرف أو أشمئزاز .
تأملت : ذباب من نوع ملون أجنحته زرقاء وخضراء وأحياناً ألوان عديدة .. حشرات تتحرك بسرعة عجيبة ، كل واحدة تحاول أن تمنع رفيقتها عن قطعة اللحم ، كي تنل حصة أكبر .. أليس هذا التكالب بين البشر أيضا ؟
نحن البشر ألسنا أكثر شراسة في الدفاع عن لقمة خبزنا أو في الحصول عليها ؟
يحدث هذا كل يوم شئنا ام أبينا : أنه الازدحام على الحياة والتشبث بها .
نتراكض وراء لقمة الخبز بسرعة الصوت ، إذا سبقتني إليها ، صرعتك بحد الشفرة قبل أن تمتد يدك إليها .
هكذا نحن البشر نتصارع على كل شيء .
وكل منا يحاول أن يمتلك أكثر ، ويأكل أكثر ، ويشرب أكثر الدنيا ( قرص من اللحم )
وثمة يد قوية وضعته فتكالبنا عليه كلذباب .
نحن ذباب اذن .
مثل هذا الذباب الذي أراه الأن يزدحم بعضه بعضاً الى حد الاقتتال من أجل أن يفوز بالحصة الأكبر .
ذلك مشهد صغير من ملايين المشاهد التي تزخر بها حياتنا اليومية ، نحن الذين نتقدم بالعمر بخطى سريعة ، مشاهد نألفها ، وتتمسح بها عيوننا بحيادية ليس لها أسم محدد ، ليست ايجابية ، وليست سلبية لا تثير فينا أي شيء .
من ذلك المشهد ، ذبابة ربما شبعت الى حد التخمة ، فطارت وحطت على غصن متلّون بوروده ، أخذت تقترب من وردة معينة حتى لامست ورقة متدلية الى أسفل ، عالقة على شعرة كما يقولون ، وتكاد تسقط عن غصنها .
ما أن وقفت الذبابة عليها حتى سقطت فعلاً .
ويا للمشهد العجيب .
لم تغادرها .
لم ( توزوز ) وتطير .
ظلت في قلب الورقة تهبط معها برقة متناهية كمظلي يهبط من أعالي السماء .
ما أن لامست الورقة الأرض الندية .
حتى تلفتت الذبابة حولها .
ثم طارت الى غصن تتأمل وردة بشغف أين منه شغف حسناء تتأمل وردة في يد حبيبها .
وظلت الذبابة على اطراف الوردة كأن ما يسحرها : لون الوردة ..
ام رقتها .. ام شفافيتها .
والذبابة داخل هذه الأوراق كأنها تحمل في طيات أجنحتها ألف لون ولون ، تزاوج كامل بين الوردة والذبابة .
عينان تلمعان ببريق حاد وجميل .
وفي لحظة خاطفة خيل لي أنني أشهد معجزة .
معجزة ما لم تخطر على بال .
الوردة تضم اوراقها على الذبابة ببطء شديد ، هل اتخيل ذلك ؟!
لا أدري .
غير أنني في لحظة تالية احسست كأنهما تتبادلان القبل .
ثم خرجت الذبابة من حضن الوردة . وراحت توزوز بصوت لامس طبلة أذني الداخلية . كأنها كانت تغني من الفرح . غناء لم نألف سماعه قط .
وفيما اتأمل المشهد ، أذ بيد شرسة خبطت الذبابة بضربة واحدة على الفور ، كانت لقط الجار غاني ، ضربة شرسة همشتها وسقطت نثرا على الأرض ..
فراح القط يدعكها بقائمتيه ثم سدل عليها التراب .
أكتئاب تلك اللحظات .. هل خطر ببال غاني الألباني أنه أقام من قرص اللحم المقد مصيدة لأرواح الذباب ؟
او كان فعلاً خاطراً يخلو ؟!
ام اننا جميعا سنواجه هذا المصير شئنا ام ابينا ؟!
وان هذا القط الشرس ينتظر الفرصة في هذه الزاوية او تلك ، على ناصية هذا الشارع
أو ذلك السوق ليبطش بنا ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق