أبحث عن موضوع

الأربعاء، 9 أغسطس 2017

عروس شنكَال / قصة قصيرة .................. بقلم : فلاح العيساوي // العراق





تحت الأشجار المثمرة، نمت وردةٌ حمراءُ مشرقةٌ يفوح منها أريج بساتين سنجار، يشعُّ سناها كأنَّها نور الضحى، غصن بانٍ سقاه ذلك الأب الذي حنى الزمن قوامه، حيث أخذت منه الأرض قوَّةَ الشباب وروح الحبيبة التي فارقها بعد سنواتٍ عشرٍ من الحبّ، رفض التخلي عن ذكراها، يرى في (شيلان)* صورة أمِّها، على الرغم من إلحاح بعض الأقارب عليه بالزواج مرَّةً أخرى، ظلَّ يرعى وردته الوحيدة ويسقيها من روحه وحنانه، ابنة العاشرة أصبحت ابنة العشرين.
الفرحة غمرتها مثل عطرٍ فاح أريجُه، تمشي مثل طاووسٍ بفستانها الفلكلوري ذي الألوان اللامعة، يملأها الفرح في حفل عرس صديقتها وابنة خالها، البهجة غمرت جميع الحضور، على عادة أهل (كوجو)، دقَّت الطبول وزمَّرت المزامير، وقفت مع الحضور ترقص (الدبكة)، تشابكت أيديهم حلقةً نصف دائريةٍ كأنما هم في مسرحٍ إغريقيٍّ من هذا الجمع الراقص، أحسَّت بحرارةٍ تتسرَّب إلى قلبها الصغير بقوَّة؛ من يد ذلك الشابِّ الذي أحسَّ بضربات قلبها الخافق، ينظر إليها، يحاول شمّ رحيقها العبق، كلما حاول التقرُّب منها؛ تفرُّ منه كما الغزال خجلاً، سأل عنها، لم يكن يتوقَّع أنَّ لها صلة قربى به من بعيد.
على عادتها تتجوَّل متبخترةً في ذلك البستان، عندما التفتت، وجدته يقف أمامها، كاد قلبها يتوقَّف من شدَّة فرح المفاجأة، كتمت فرحتها بقوَّة، مثل مسمارٍ ثُبِّتَ في لوحٍ خشبي، لم تتحرَّك من مكانها...
- آسف جداً لم أقصد إخافتَك.
تمالكت نفسها، حاولت أن تردَّ عليه فصمتت حياءً.
- إسمي (شيرو)*، تذكرينني؟... كنت في عرس قريبتك الخميس الماضي.
- نعم تذكَّرتُك.
- أنا سألت عنك وعرفت الكثير وأحببت أن ازوركم في بيتكم مع أهلي، فهل لديك مانع؟.
كلماته زادت من حرارة الموقف، احمرَّت وجنتاها، ثمَّ لاذت بالفرار، ابتسم وهو ينظر إلى ريمه الهاربة.
دخلت غرفتها، تضاربت الأفكار في رأسها، هل كان صادقاً في كلامه؟... ربما هو من الشباب الذين يصطادون في الماء العكر بحلاوة عباراتهم؟... حاولت جاهدةً نسيان ذلك الموقف دون جدوى. قضت نهارها في أعمال البيت حتى عاد أبوها.
بعد تناول وجبة العشاء، جلس يحدِّثها بنبرةٍ غريبة، بين الحقيقة والوهم لحظاتٌ تكشف النقاب عن وجه المستور.
- هل تعرفين شيرو بن خديدة؟.
- بابا سؤالك غريب!!.
- ابنتي... شيرو شابٌّ طيِّبٌ وذو أخلاقٍ عالية، واليوم عرفت أنه من أقاربي، ثمَّ إنه تقدَّم لخطبتك، فما رأيك؟.
الخجل والفرحة بانا في عينيها النرجسيَّتين، أسيلاها تورَّدا كالجلّنار، لا تعرف ما تقول، المفاجأة جعلتها تركض إلى غرفتها، شعورٌ لا يوصف، أحاسيس لا يعرفها غير قلوب العاشقين، تنظر إلى النجوم من خلال نافذتها، تناجي الليل الغافي بين خصلات شعرها الأليل، صورته لا تفارق خيالها الواله، تحاول النوم؛ لكنَّ صور العرس تطرد الوسن، حفلٌ بهيجٌ تجد نفسها فيه سيدة الفراشات، شيرو يقف مبتهجاً ممسكاً بيدها...
لحظاتٌ سعيدةٌ تجمعها مع الحبيب، يحضنها، يضمُّها بين ذراعيه بحنان، يضع رأسها على صدره، تغفو في رياض عشقه...
فراشةً تطوف بين رياحين الزهور.
لا تعلم كم غفت في حضن الأحلام.
صوت الرصاص أفزعها؛ قفزت من سريرها، أخذت جوّالها، نظرت إلى الساعة، الوقت قارب شروق الشمس، صوت الرصاص يزداد قرباً منها، أسرعت تبحث عن أبيها، وجدته يقف في باحة الدار...
- بابا ما هذا الرصاص؟.
- لا تخافي، انتظري هنا سوف أتفقد الأمر.
- بابا أرجوك لا تتأخَّر... أنا خائفة.
- لا تخافي لن أتأخَّر.
فتح باب داره، شاهد وجوهاً غريبة، تكشّر عن أنيابها بشرٍّ محدق، تنبعث منها روائح الموت، لحىً طويلة كثة شعثاء، منظرها يثير القرف، يحملون أنواعاً من الأسلحة.
أغلق باب داره وصاح بصوتٍ عالٍ باللغة الكردية: شيلان اهربي من باب الحديقة الخلفيّ إلى جبل سنجار.
أصداءُ كلمات أبيها هزَّت كيانها وطوت سجلَّ الفرح على أعتاب لحظاتٍ مجهولةٍ قادمة.
الحيرة جمَّدت أوصالها، أأترك أبي بين مخالب غريبة؟... ماذا سوف يكون مصيره؟... أبي رجلٌ كبيرٌ قد لا يؤذونه.
على دقّات ناقوس الخطر أسرعت تركض إلى الحديقة الخلفية، فتحت الباب الخلفيّ وخرجت.
وقف يحاول منع دخول الدواعش إلى داره، كلُّ همِّه أن تلوذ حبيبته بالفرار وتنجو بنفسها... محاولاتٌ مستميتةٌ أتاحت الوقت للنجاة، أسفرت عن رصاصاتٍ عمياء اخترقت قلبه.
حافيةَ القدمين ما تزال تركض خوفاً في اتجاه الجبل، دموعها تنزف فوق خدَّيها مثل دماء أبيها النازفة فوق عتبة باب الدار.
من خلفها صوتٌ ينادي شيلان؛ شيلان، التفتت... تسمَّرت في مكانها، لم تتوقَّع رؤيته، فتحت ذراعيها، عناقٌ لاإراديٌّ أطاح بالخجل، وضعت رأسها على صدره، جرت دموعها، اختفت في حضن الأمل، تمنَّت أن تصحوَ من هذا الكابوس المخيف، لتجد نفسها في فستان الزفاف...
وضع يده في يدها... سحبها مهرولاً، خفق قلبها، قالت: شيرو... ما بك؟.
- لا تلتفتي إلى الوراء واركضي بسرعة.
- لماذا؟.
- لا تخافي سوف ننجو... الدواعش خلفنا... أنا أحمل معي مسدَّساً ورمانةً يدوية، سوف أدافع عنك بروحي.
لحظاتٌ لاهثةٌ تزاوجت مع الخوف، الرصاص أزيزه خلفهم، انزلقت يده، سقط، تدحرج أمامها، انكفأ على وجهه، ظنَّت أنه تعثَّر، انحنت فوقه تحاول مساعدته على الوقوف، دماءٌ تتدفق بسرعةٍ من ظهره، لا تعرف ما تفعل، تحاول إيقاف شلال الدم دون جدوى، أدارته... وضعت يدها فوق صدره، تحسَّست قلبه الضعيف، نظر إليها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، تمتم، "شيلان أحبُّك... أحب... أح..." انقطع صوته؛ بكت...
أرجوك لا تتركني، وضعت خدَّها فوق خدِّه، قبَّلته، شعرت بروحه تنساب مع دموعها الجارية، أحسَّت بأشخاصٍ يحيطون بها...
مدَّت يدها إلى جيبه، أخرجت الرمانة وأخفتها بكلتا يديها تحت بطنها وسكنت، سمعت أحداً منهم يقول:
خذوا الفتاة فإنها على قيد الحياة.
اجتمعوا حولها، سحبوها بقوَّة؛ سحبت مفتاح النابض ومدَّت يديها إليهم...
خلال لحظاتٍ تناثرت أجسادهم، ونبتت هي كزهرةٍ آمنةٍ بين أحضان صخور جبل سنجار.
________________
* شيلان: اسم علم كردي ومعناه زهرة في حضن الجبل.
* شيرو: اسم علم كردي ومعناه أسد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق