أبحث عن موضوع

الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

طفولةُ حَرف / قصة قصيرة ................. بقلم : راوند دلعو/ سوريا


بعد سنوات من مُعاقَرَة الحَرْفِ و إدمان التّدبيج ، و مسافات من احتراف السَّبك و مزاولة الحياكة اللغوية و الرّصف المُفرَدِي ، و بعد آبادٍ من اجتراحات النَّسق و اقترافات الفنون من هندسات السِّياق و تصاميم الجُمَل و التّصاوير .... أجِدُنِي لازلت باكورة حرفٍ أرعَن مبالغ باستهتاره ....!
بل أجدُني إلى الآن طفولة حرف طائش ، محاط بالعفويّة و التدلُّل و التغنُّج ، مع كثير من فرط النَّشاط المزمن و غوغائيّة اللااكتراثيّة الساذجة .....!
هأنذا طفل من حروف ، أنتظر لُعَبِي بين ظلال أسطُري حتى تكبُر .... و لهَّايتي المُتَشَقْلِبَة بين شفتيّ حتى يجفّ الكرز المتكوّر في أخاديد حلمتها ...
فرائحة الحليب من أقلامي تفُجّ سطوري فجَّاً و تمجُّ رؤوس أصابعي مجَّاً .... إذ تثور الأحبار من دواتي مداداً مُرتَجّاً.
لازلت طفلاً أدغدغ عضَّاضتي بِطَرِيِّ لثَّتِي ، حتى تتورّد عليها حروفُ أسنانيَ اللَّبنية ...
أنا طفلٌ أنتظر أصابع ألفاظي الخِداج حتى يكتمل نموُّها ، لتكف عن التَّعريش على مصَّاصتي الأرجوانيَّة المرشوشة بالسُّكر الملون ....
طفل أَرْكَبُ تلك الفقاعة الكبيرة الخارجة من رأسي ، ثم المَمْهُورَة بالتعجّب و كثرة الأسئلة تلقاء هذا الكون الغريب ، لأرحل بها في فضاءات البراءة و أبعاد العفويّة ... تائهاً في حلاقيم العصافير و مواويلها الغنائيّة.
أنا إلى الآن طفل أهرب من لَعثَمَتي لأتَخفَّى في حقيبة مدرستي حين تسافر بحُرِّيَّة في حرفَيِ السِّين و الرَّاء ... حيث يصيبني الخجل و ترميني التأتأة بأثقل أوزانها و مجازاتها ...
فقد اكتشفت أنني شفَّافٌ جداً في تعامُلي مع الشّمس ... حيث لازلت أظنّها الوحش الأزرق الكبير الذي ابتلع نور الغابة بلقمة واحدة .... ثم ها هو يرُشُّ النور من فمه علينا كلّ فجر ... فأراني أمارس استراق النَّظر إليه من بين أصابعي و ما وراء هوامشي ... و ستائر حرفي الرقيق.
كما أنني طفل إلى درجة أنني لا أجرؤ على إعراب القمر و لا على بنائه إلا بأحلامي ، فهو كعكة كبيرة جداً جداً ... و لن تستطيع سكاكين قصائدي تقطيعها ...
طفل إلى درجة أنني لا أقدر على ممارسة الهجاء في أشعاري ، حيث أخشى إن هجوت أحداً أن تزول ابتسامة النجمة المستلقية هناك عند تلكم السماوات البعيدة ... أو أن يُرعِبها غول الهجاء مما قد يتسبَّب بعدم نزولها الصيف القادم للتسكّع معي بين ألعابي في مدينة الملاهي البنفسجيّة ...
طفولي جداً إلى درجة أنني إلى الآن أتعثّر بحروفي ، فأقع كل يوم مئات المرّات ... و لا أملُّ اللّعب و المُشاكسة بالنقاط و الفواصل ....
لكنني و للأسف أُكثِر من قرمشة الحروف و تكسِيرها ...
منذ يومين فقط كسرتُ حرف الرّاء في كلمة (حرْب) ... فتولّد ( حُ ب ) كبير غمر الكون ببراءة إحدى تغريداتي الفيسبوكيّة ...
كما أنني معتاد على قرمشةِ حرف الزّاي من كلمة ( حزب) .... فلا أحب التحزُّب و لا التصنيف ... فسيّان عندي كل الورود و الدّمى ، على اختلاف أرائجها و ألوانها ...
يا رب سامح طفولتي الغبية إذ تلاعبتُ البارحة بشكل حشري بنقاط تاء ( قَتَل ) ، فسرقتُ النقطة الأولى ثم أضعتها عن قصد ، و نقلت النقطة الثانية إلى أسفل ، ثم شَدَدتُ شَعرها فاستحالت (قُبَل) ... ليتساقط البَوْسُ من غرفة ألعابي على كل من في الكون ....
خداً خداً ...
ورداً ورداً ...
فرداً فرداً ....
أنا إلى الآن أحبو بنصوصي و لا أعرف كيف أمشي لصغر سِنّي و طراوة عظامي ....
البارحة تعثّرت بجملة طائفية معترضة فكسَرتُ طرف رضَّاعتي المجرورة بقلب كبير ... فانسفك حليبها بياضاً يغمر ساحات الحروب الطائفية بالسلام و المسرَّة ... فلوّنت قلوب جميع المتحاربين بالأبيض الناصع فاستحالوا غيوماً تمطر الحبّ و التَّعايش و السّلام.
طفل جداً ، لكنَّنِي أتراكض و نصوصي بشغب .... أختبئ بعفوية وراء المعاني ثم أقع بأفخاخ عِباراتي .... لكنني لا أتربَّى من أخطائي .... فلا زلتُ أَحْوَلَ الخُطَا ... أعثَرَ الحروف.
أنا إلى الآن تسيل محارفي مع لعابي عند النوم ... لأستيقظ متفاجئاً بكَمٍّ هائلٍ من الكناريَّات و السَّواسِن النَّابتة على وسادتي الصَّغيرة .... إذ يقفزن باختلال و جنون على فِراشِي المطبوع بالدّببة و النُّمور الورديّة ...
ثم يستمر قفز السواسن و اللَّيالِكِ إلى أن أفتح عينيّ على ربيع مُزركش بكل أنواع الهيستيريا اللّونية و الجنون الجمالِي ... ثم إذا بي أفتح نافذتي على غيمة بتول تنظُر إلى مفاعيلي بشغفٍ تائق لرِيّ حروفي.
كما أنني طفل جداً ، إلى درجة أنّني إذا جعت و لم أجد قارورة حليبي آكل من حروف قصائدي ، لكنني لا أُغضِبُ عمَّنا الفراهيدي فأتجنّب أكل الحروف التي تُخرِج بُحُورَهُ عن عمودها الموزون إلا إذا أشبعتُها بنبرةٍ حنون.
للأسف لازلت طفلاً أقضم أطراف أقلامي بشكل دوري ، مستهتراً بكل احتمالات التّوبيخ و العقوبات التي قد تُمارس علي من بابا و ماما نتيجة لذلك.
و من سخرية القدر أنني لازلت طفلاً لا يعرف كيف تتم عملية الكذب ... أفضح نفسي بعباراتي الغبية الشفّافة ، أقول الكلام قاصداً به معاني بيضاء ، فيُفهَمُ بطريقة أخرى مما يجعل الكبار حولي يغضبون ثم يضحكون و أنا لا أعلم لم يضحكون ، فأتعجب ....!!
أحاول الهروب من البراءة لكنني أبقى متلبّساً بها تلَبّس الجنّ بكلبنا الأسود الذي ربطتُه ثم جررته ب( في) الكائنة في نغمة ال(دو) السابعة من هامش صفحتي الثالثة في قيثاريّاتي ...
أُركِّبُ قصوراً من مكعّباتي الورديّة عند حافّة كل سطر .... لأبني بروجاً من شوكولاتة مِحرفية ... فأحمل دفاتري و هي تتقاطر حليبَ أطفال و كاكاو .
أنا طفل حتى في طريقتي لأكلِ أظفار حروفي ، إذ تخرج مسالمة جداً ... بل خالية من أي إشارة لعنف أو فُحش .... متصحِّرة من كل ما لا نعلمه نحن الأطفال ... !
ترى نصوصي فإذا هي مدائن للملاهي الطفولية ، حيث تتنوع كتاباتي بين أراجيح و زحاليق و قلّابات و دببة و غزلان و دُوَّيْخَات ...
أتأرجح بعلامات الإعراب ... لأتزحلق يومياً على حروف الجر .... فأرتفع بنزع الخافض و أنتصب شرطياً على باب المغارة التي اختفى عندها ذئب ليلى.
ثم أدُوخ باستعارة ما ، لا أدري إن كانت تصريحيّة أم مَكنيّة .... ثم أنزل من دوّامة الحرف لأتقيأ بعض الفواصل و علامات الاستفهام ...

كما أنني لسوء حظي أتابع يومياً عرائس الأحرف و هي تنسج قصصاً لأبطال ال(ديجيتال) و ال(بوكيمون) مع فلّة و أقزامها السبعة.

لكنني لا أحب صاحب الظلِّ الطويل ، لأنني لا أحب النهايات الحزينة ...
إذا فاجأْتَنِي و أنا أمارس لعبة الكتابة ، أخرجتُ لك تلك الحَلوَى التي لها شكل قوسٍ قزحي من مِقلمتي ، ثم هدّدتك بأنني سألعقها ثم أبصق عليك دَبقاً و سُكَّراً و ألواناً و مَرمراً ..... كي تعلق بشَعرِك كل الفراشات الجميلات و السنونوات المزركشات ...
إذا فاجأتني و أنا ألعب بأحرفي سلّطتُ عليك سنافر قصائدي و شرشبيلهم الأسود الكبير ، و جعلتك فريسة لكلب ( سيباستيان) الكبير ، ذاك الذي يعيش في غابات مجروراتي الباريسيَّة و شتائل مرفوعاتي العنبيَّة و حشائش منصوباتي الجوريّة ...
إذا قاطعتني و أنا أمارس لعبة الغميضة مع حروفي ... أخرجت دفتر لقاحاتي من حقيبتي المدرسية و أخذتك إلى طبيبي المرعب ليعطيك تلك الحقنة الكبيرة ضد شلل الأطفال .... ليكون لك عقاباً قاسياً و أنت تتلوّى بين أيادي الممرضات و ابتساماتهن الماكرات الشريرات ...
بالرغم من أنني طفل في كل كتاباتي .... إلَّا أنني مشروع إنسان كوني يحمل الحب للجميع ... للجميع بلا استثناء ...
و يطالب بأن تصبح أغنية (سِنَان ):
( ما أحلى أن نعيش في خير و سلام ....)
رمزنا القومي و نشيدنا الوطني في هذا الكوكب ...
طفل حتى في أدبي العجائبي إذ تستقبلُك ( أليس) لتدخل بك في كوّةِ السِّحر من نصوصي ، فإذا بك في عالم آخر حيث الكلمة العليا للورود العملاقة و الحلوى الضخمة .... هنا في بلاد العجائب من نصوصي حيث يضمحل الشر و يختفي ، ثم يتعاظم الخير و يرتقي ، هنا حيث أبطال رواياتي من الأرانب و الغزلان و الدببة و المهور و الزهور ... هنا في رواياتي حيث لا وجود لرجال السياسة و لا لرجال الدين .... إذ مسحتُهم بمنديلي المعطّر بشذى الحب و المساواة ...
في مدن حروفي العجائبية حيث بالكاد تستطيع المشي بين أكداس الألوان و أبنية الحلوى البلاغيّة و نوافير العصائر الأدبية و شوارع الشوكولاتة و البسابيس و غزل البنات.
هنا حيث أرحل بك في عالم من سلام و أطياف تتموّج دلعاً و طفولة و لامنطقيّة .... ثم لأحكي لك في مقالاتي العجائبية قصص ما قبل النوم ، ثم لأسلّم جفنيك إلى نوم في استعاراتي عميق.

أنا إلى الآن طفل في كل كتاباتي لذلك أخاطب في نصوصي البشر بعيداً عن أديانهم و أعراقهم ، فلا أعترف بكائنات مسيحية و لا كائنات مسلمة و لا مخلوقات كردية و لا فرنسية و لا عربية و لا سنيّة و لا بوذية .... فنحن الأطفال نترفع عن هذه الأوبئة التي تصيب الكبار ... هل رأيت قطة تقود حملة صليبية ؟ أو أرنباً يرتكب مذبحة جماعية ؟ أو وردة تمارس الإقصاء العنصري؟؟ لطالما لعِبَ الكابتن ماجد ليمتع الجميع على اختلاف ألوانهم و أديانهم.
طفولتي المُزمِنَة التي تلاحقني في نصوصي ... أراها تسري في عظام حروفي ، لتشخب من عيون قصائدي و أنفاس تفعيلاتي ... شعارات من حب و سلام... أمطاراً من فلّ و وئام.
فلا أدري هل هناك علاج لطفولتي المستمرة ؟
أنا كطفل لا أعلم ....
أعتقد أن كبار القوم يعلمون !
فيا ربّ أدم عليّ طفولتي البيضاء و احفظني من وعثاء الزّمن الذي حول الكبار إلى وحوش من نصوص تدعو للقتل و الإقصاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق