أبحث عن موضوع

الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

سـنــدبـــــاد - نص سردي .................... بقلم : منير صويدي / تونس




السّفـــــرة الأولـــى:
*********
خمس سنوات عجاف.. يمتطي فيها الفتى قدمين شبه حافيتين كلّ يوم .. ويسافر إلى المدرسة .. فيقطع سبعة أميال مضاعفة.. ويعود في المساء مهدودا مكدودا.. وفي ذهنه ألف سؤال.. وسؤال..
السّفــــرة الثانيــة:
**********
اجتاز بنجاح المناظرة الوطنيّة.. فأجبر على الرّحيل إلى المدينة الجبليّة.. والإقامة في مبيت معهدها سبع سنوات كجلمود صخر حطّه السّيل من علِ.. الجبل من أمامه.. والأرض القفـر من ورائه.. والفقر في طعامه.. وشرابه.. وكتابه.. وثيابه.. وفراشه.. وغطائه.. لكنّه تسلّح بالأمل.. وحقّق بعضا من أحلامه..
السّفـــرة الثالثــة:
********
ملّ الصخور النّاتئة.. والأشجار اليابسة.. والأرض العطشى.. والأتربة المتناثرة.. والوجوه الكالحة.. والفقر المدقع.. والوضع المفزع.. فقرّر بعد فرحة النجاح في الباكلوريا.. أن يذهب إلى العاصمة ليواصل الدّراسة في جامعاتها.. ويتعرّف عن الحضارة.. ومتاهاتها..
وكانت الصّدمـة.. صدمة بـدويّ في المدينة.. تاه أياما وليالي.. ثم تعلم بعد لأي.. أن السلاح الوحيد الذي يقتحم بهالفقراء الأبواب الموصدة.. والمكاتب المغلقة.. والعمارات الشاهقة.. والقلوب المتحجرة.. هو سلاح العلم والمعرفة.. ففكر وأدبر.. ثم ركب صهوة جواد التحدي.. وأقتحم ثنايا الترحال في صفحات الكتب وساحات الحروف العصية.. والكلمات الأبية.. وكان الفلاح.. والنجاح..
السّفــــرة الرابعــــة:
*********
رحلة متفوق.. زاده بطالة.. وكتاب.. يتلاطم في شوارع العاصمة المكتظة. تتقاذفه الأحلام. والأوهام.. وتتصدع أمنياته الوردية على شواطئ التشاؤل.. ثم يتجرع واقعه قطرة.. قطرة.. في الباحات.. والساحات.. وعربات القطارات.. يأخذه اليوم المتثاقل.. إلى وجع الليالي.. حتى اقتنع بالعودة إلى الديار.. والوقوف على الأطلال الدارسة.. في القرية القصية.. بين القلوب الرحيمة..
السّفــــرة االخــامســة.. أو موسم الهجرة إلى الجنوب..
**************
كان الحدث قاسيا.. ذات قيلولة صيفيّة شديدة الحرارة.. عندما قدم الأب من العمل محمّّلا بما تشتهيه النّفس.. ويرتضيه الأطفال.. وعلى غيرالعادة. جاء يحمل ظرفا .. ظنّ الجميع أنّها مجرّد رسالة من أحد المغتربين وصلت إلى صاحب دكّان القرية.. وليس له من قدرة على إيصالها إلى صاحبها سوى ذلك الرّجل الطيّب الخدوم.. الذي يجوب بسيّارته المخصّّصة للنقل العموميّ كلّ الأرجاء.. بلا كلل.. ولا ملل.. والابتسامة تعلو محيّاه.. ولا يرفض لمن يقصده.. طلبا...
قـُـدّم الظرف إلى الفتى وكلّه شوق لمعرفة الخبر.. علّـه يكون خيرا..
فتَـح الظرف بنهـم غريب.. وسرعة جنونيّة.. فاختلط الصّراخ بالبكاء بالدّموع.. بالمشاعر الفيّاضة.. لقد تمّ تعيين الفتى للعمل بالجنوب التّونسي.. وهو مدعوّ للحضور هناك في اليوم الموعود..
انتشر الخبر سريعا في البراري.. والتجمّعات السكنيّة المجـاورة.. وبدأ الاستعداد ليوم السّفر.. أمّا الأمّ فطال بكاؤها الذي ظنّـه الجميع فرحا واستبشارا.. ولكنّهم اكتشفوا بعد مدّة أنّها دموع الخوف والرّهبة على فلذة كبد سيذهب بعيدا.. ويتغيّب طويلا.. فحاولوا التّخفيف عنها.. حتّى بدأت تهدأ وتطمئنّ..
اقترب ميعاد السفر.. فاستعدّ الفتى أيّما استعداد.. وأعدّ الزّاد.. وذات سحَــرٍ.. كان السّفــــــــــــــــــــــر..
..
طاب المُقـام هناك لسنـوات طــوال.. مـرّت بحلـوها.. ومـرّها.. كالحلم في المنـام.. سنوات عرف فيها الفتى أحبّة لم يتساقطوا من غربال الأيّام أبدا.. معهم عاش أحلاما جميلة.. وذكريات رائقة..
واستيقظ ذات يوم صيفيّ شديد الحرارة على زغاريد أمّ مستبشرة بخبر نقلة فلذة الكبد قريبا منها.. وهي التي أنهت منذ أيّام قليلة مراسم زواجه استعدادا لاستقراره على بعد أميال قليلة من القرية الهادئة.. والمروج الخضراء الممتدّة على مرأى العين..
كان الفرح مشوبا برعشة غريبة.. ومشاعر عجيبة اكتظّ فيها الفرح.. والحسرة.. والأمل.. والألم.. والتّـوق.. والشّـوق.. فلم يقدر على استيعابها.. ونزلت عبَرات حرّى لم يقدر على إخفائها..
ومن الغـد اصطحب الفتى أباه.. وامتطيا الشّاحنة البيضاء واتجها إلى الجنوب لترتيب العودة النهائيّة إلى موطن الأجداد.. والأحفاد..
..فكــان رحـيـــلا قــــــاسِـيــــــــــــــــــــــــــــا..
السّفـــــرة السّادســــة:
*******
عــــاد.. واستقـرّ.. فتعـدّد.. وأضحى مفردا في صيغة الجمع.. وجمعًـا في صيغة المفـرد..
عاشر الجماعة.. فاغـتـرب.. وازبهـلّ.. اعتـزل العــدد.. فأوشـك أن يضمحـلّ..
اقـتـرب من السّياسـة.. فلـحـقـه الأذى.. واكتشف أنّهـا نجــاسـة..
فـرّ من وحـدتـه، وغربـتـه، وأحبّـتـه.. طلّق الأرض.. وطلب المطلـق.. فـذاب.. واسـتـراب.. ثمّ تسامى.. وانتشـى.. حتّى اهتـزّت الأرض من تحت قـدميْـه.. فأدرك.. أنّ ذلك.. هو قـدَر البُسطـاء.. وظلّ معـلّـقـا بين الأرض والسّمــــاء..
السّفـــرة السّـابعـــة:
*******
كانت رحلة أبـديّة.. في ثنايـا الرّوح.. وتجــاويـف الـدّجـى.. أصلها ثابت في مستنـقـع الـواقـع.. وفـرعها في السّمــاء.. وبينهما فتـى.. تنهشـه الخـيـالات.. وتـتقـاذفـه الآلام.. والأحـلام.. والأوهـام.. بين مــوجــود ضاعت فيه بـوْصـلـة الاتّجـاهات.. ومـنـشــود بحـجـم السّبـع المثـاني.. والجـنـان الخــالــدات..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق