مرت ساعتان ، بالضبط ساعتان وانا متسمر على المقعد الخشبي المهترئ منتظرا باص المدينة
مرت طفلة صغيرة تبيع ازهار النرجس ، صغيرة جدا لا يتجاوز عمرها السابعة
وقفت امامي بانكسار وقالت لي دون ان تنظر الى وجهي
يا عم ، هل تشتري بعضا من زهوري تهديها لحبيبتك
ولكن لا حبيبة لي يا صغيرتي
رجتني ثانية
احتاج الى النقود لشراء الدواء لامي ، انها مريضة يا عم ، مريضة جدا
اخذت منها زهرتين ، اسقطت في كفها الصغيرة قطعتين من النقود
شكرتني ومضت
بدأت اشعر بالبرودة فاحكمت ياقة قميصي حول عنقي وبدأت انفخ في كفاي ملتمسا بعض الدفء
لم يأت هذا الباص اللعين
بدأ المطر يتساقط ، لا بد ان اغادر
تركت مقعدي وبدأت امشي متثاقلا وما ان وصلت نهاية الشارع حتى لمحت تجمعا للمارة ، كانوا يشكلون ما يشبه الدائرة وينظرون الى شيء ما في وسطها ويحوقلون
بصعوبة وجدت لنفسي مكانا بينهم ، القيت نظرة وهزني ما رأيت
كانت بائعة النرجس الصغيرة مسجاة على الرصيف والدماء تسيل من رأسها وفمها وقد تناثرت ازهار النرجس حولها ملطخة بالدماء
صرخ من كان يتفحص الفتاة
لقد ماتت ، رصاصة مجرم سلبتها حياتها
سقطت دمعة كبيرة من عيني تبعها دموع كثيرة ، تمنيت لو كنت اشتريت منها جميع ما كانت تحمل من زهور لكانت قد انصرفت الى بيتها سالمة
يا الهي كم يؤلمني رأسي
انعطفت الى الشارع الثاني وقد قررت ان اصل الى وجهتي مشيا على الاقدام بعد ان خذلني ذلك الباص اللعين
الشارع مكتظ بالمتسولين الاطفال ، في كل زاوية هناك طفل رث الثياب يمد يده للمارة
لو اشتريت جميع ورودها لكانت الان بجانب امها المريضة
ازداد تساقط المطر فغذيت الخطى وثم بدأت اهرول ثم اصبحت اركض كاني في سباق
كنت اصطدم بالمارة وعربات الباعة والسيارات وانا اركض واركض
اصبحت كقطعة قماش سقطت في دلو ماء
لا اعرف لم كنت الوحيد الذي كان يجري ، تعجبت من قدرة الاخرين على تحمل ضربات المطر فوق رؤوسهم ، وللدقة كانت بعض القطط تجري مثلي
خيل لي ان السماء تبكي موت بائعة النرجس الصغيرة
لو انني اشتريت جميع زهورها لكانت الان بجانب امها المريضة ، يا الهي كم يؤلمني رأسي ، كأن مطرقة عملاقة هوت عليه
لا ادري ان كان ما بلل وجنتي دموعي ام قطرات المطر
لعنت اناسا كانوا سببا لدفع هذه الصغيرة الى الشارع لكسب النقود من اجل امها المريضة
حين كنا صغارا ، كنا نبتهج لسقوط المطر ، كنا نتجرد من جميع ملابسنا ونسلم اجسادنا العارية للماء الهابط من السماء
كنا نغني للمطر
شتي يا دنيا شتي على صلعة ستي
ستي جابت صبي سمته عبد النبي
حطته بالطنجرة طلع صحن مجدره
حطته بالبير طلع راسه كبير
توقف المطر او كاد ولم يتبق الا قطرات صغيرة كانت تهبط على استحياء
ابطأت خطواتي لكن القطط تابعت جريها الى جهة اجهلها
وصلت الى حيث اردت ان اصل
المقبرة !
سوف اقرأ الفاتحة لجميع الاموات ، جميعهم
الشهداء والاطفال ،
المجرمين وقطاع الطرق ،
النساء الطاهرات العفيفات ،
الزانيات المرجومات
الرجال الاتقياء والعصاة
الجنود ، الشعراء ، الفلاسفة ، اللصوص ، الوعاظ ، الطلبة ، الرضع ، العشاق ، المنتحرون ، الفنانون ، الجلادون ، المعدومون
جميعهم ، لن انسى احدا منهم ، سوف اقرأ على ارواحهم الفاتحة
يا الهي هل كل هؤلاء يرقدون معا في هذه المقبرة وفي سلام ، اتكون المقبرة هي المكان الوحيد الذي يرقد فيه الناس جميعا بسلام
لا لا سوف اقرأ الفاتحة للصالحين فقط اما المجرمون فسوف اصب عليهم لعناتي ولعنات الله
لم استغرب الصمت المطبق الذي استقبلني حين تخطيت بوابة المقبرة ، انه صمت القبور !
لكن اين القبور ، لم اجدا قبرا واحدا
على امتداد النظر كان هناك بساط اصفر من ازهار النرجس ، ازهار كثيرة ، كثيرة جدا تكاد لا ترى اخرها
وفي زاوية المقبرة وقفت فتاة رثة الثياب ، اقتربت مني قائلة بصوت متهدج
يا عم ، هل تشتري شيئا من زهوري
حضنتها وبكيت
- انتهت -
( عدلي شما ) 23-4-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق