...اعتاد أهل تلك المدينة المناضلة أن يناموا حذرين وأن يستيقظوا بحذر أشدَّ... فذاك الجبل الشّامخ الباسق الذي كان يحرس المدينة ويظلّلها أضحى معين خطر داهم يباغتهم ليلا ونهارا بقذائف وحوشٍ بشريّة لا تخلّف إلّا الدم والدّمار...
كانت تلك الليلة كمثيلاتها، لا شيء ينبئ بتحوّل أو تغيير... سهر القوم كعادتهم في المقاهي أو البيوت وتطارحوا نفس القضايا والحكايات والأمنيات، كما في كلّ شبر من تراب الوطن... وبات بعضهم يحلم بحبّ جميل أو بشفاء عاجل أو رزق وفير... وظلّ بعضهم ساهرا كما تعوّد أن يسهر أو لأرق سكنه فأضناه...
لاشيء يشي بأنّ هذه الليلة ستكون مختلفة عن سابقاتها، لا سحب تغشّي السّماء ولا بروق ولا رعود... حتّى تلك الشّماريخ التي ملأت سماء المدينة الغافية ودغدغت مسامع النائمين وصكّت آذان الصّاحين، لم تكن جليّة البيان فقد تعوّد عليها التونسيون في كلّ أرجاء البلاد، في أوقات معلومة أو مباغتة وتساءلوا عن مصدرها ومغزاها فما ظفروا بغير لغو متضارب المناحى، وظلّ أمرها لغزا دفينا محيّرا كما أمر القنّاصة !!!
وحدهنّ الأمّهات والحبيبات على قدر استبشارهنّ بإطلاق هذه الشّماريخ توجّسن قلقا لا مبرّر له علنا!!! أو ليست الشماريخ زينة الأعراس والأفراح للميسورين خاصّة أو للمهاجرين الذين يتفنّنون في اختيار أشكالها وألوانها وأصواتها ورسومها ؟!
ظللن، حينا يمنّين النفوس بأفراح أنيقة، والصّيف على الأبواب وحينا أخر، يبتهلن لربّ السّماء أن يحمي الحاضرين والغائبين ويردّهم إلى أهاليهم سالمين غانمين!!!
خفّ تسارع انفجار الشماريخ شيئا فشيئا وتباطأ تواردها تدريجيّا وبدأ القوم يستسلمون لنوم هادئ تدثّره أحلام الكبار والصّغار... فجأة، دوّت طلقات ناريّة مدويّة متتالية، آتية من هناك!!! هبّ النائمون والسّاهرون من كلّ صوب يستجلون النبأ العظيم... تسارعت النبضات وارتفعت التضرّعات وتبارت الخطوات وعمّ الهرج والمرج كلَّ أنحاء المدينة وسُمعت أصوات وصراخ وعويل وبكاء وأنين وشوهدت جماهير احتشدت في مكان مصدر الطلقات ولا سلاح لهم غير هطل من دموع حرّى تذرفها النّساء والأطفال وبعض حجر يرجم به الرّجال شيبا وشبابا شياطين الإنس الذين لم يلبثوا أن ابتلعتهم الأرض أو رفعتهم السّماء!!! نعتْ الجماهيرُ المحتشدة الأُنسَ والرّحمة وتساءلوا في غرابة من لم يصدّق ما حدث: أين رجال الأمن؟؟؟ أين حرّاس المدينة؟؟؟ أين ...؟؟؟ أين ؟؟؟
أفاقت البلاد على كارثة أخرى، صعقَت الكبير والصّغير وأسالت الحبر الغزير... هرول رجال الإعلام لينقلوا أخبارا متضاربة... وتسابق رؤساء الأحزاب إلى منابر تعشق الثرثرة... وانكبّ الشّعب الكريم المغوار على صفحات الفايسبوك يهدّد ويتوعّد ويحلّل ويناقش...!!! أمّا الرّئيس المهيب الجبّار فقد أعلن الحداد وتنكيس الأعلام!!!
وحدهنّ الثكالى والأرامل ظللنَ يتجرّعن كؤوس العلقم ويسقين منها اليتامى والآباء والأهل والأصدقاء...!!!
وحدها السّماء دثّرت البلاد بدموع حرّى هطلت على بعض الجهات!!!
وحده قلمي، سيفي المنهك أبى إلّا أن يسجّل ذلّ الإنسان وهوانه في وطن بدأ السرطان الأزرق ينخره... !!!
وحده أبى إلّا أن يصرخ عاليا فيزعزع عروش الطّغاة، هكذا ظنّ:
سنظلّ صامدين... صامدين...
لا الموت يقهر عزائم الصّادقين...
لا الغدر يحبط مساعي المؤمنين
بأنّ هذا الوطن لنا...
نعم لنا وليس لنا سواه،
وسنظلّ نزرع الفرح ونغرس الأمل حتّى النّصر،
حتّى النّصر...
وربِّ التين والزيتون وهذا البلد الأمين،
لن تفلحوا، لن تفلحوا، لن تفلحوا...
ما دام بنا رمق، ما دام بنا نبض...
وإنّ غدا لناظره قريب!!!
اليوم زففنا الشّهداء بالدّموع والزّغاريد...
وغدا، وغدا، وإنّي لأراه آتيا على عجل،
سنزفّ العرائس والعرسان بشماريخ لم تعرفوا لها صنوا...!!!
غدا، يزهر الحزن،
يا وطن،
يا وطني الأغرّ،
يا أبهى وطن!!!
مساكن، في 29 ماي َ2014
قصة ذات منحى تسجيلي لمن تنفعه الذكرى. فاذكروا عهد الترويكا الذي فتح الباب على مصراعيه لهذا "السرطان الأزرق" الذي ما يزال ينخر الوطن حتى الآن، بل صدره مجرمونا إلى أوطان آمنة قضى عليها بالدمار. تعجبني نبرة التفاؤل التي تنتهي بها القصة. نعم، غذا يزهر الياسمين في أرضنا. الهكواتي - سالم اللبان
ردحذف