بعد عناء طويل، أقتطف تذكرة السفر فرحاً، أحزم حقائب شوقي لامرأة لم أرها من قبل، أحتمي بأحلام اليقظة, تسابقني الخطوات، أشاكس ضوءاً مندلقاً من بين ثنايا العتمة، يتلو بعض انتظاري:
- متى يأتي القطار؟.
- سيأتي عن قريب.
كانت عيناي معلّقتين بعقارب الساعة، منتظراً قدومه وسط ضجيج المسافرين، يخالني آخيت متاهات الدروب، مذ أتيت هنا، متخبطاً أسير على ذات الدرب، خطوة خطوة. فجأة تراني أتطهّر بدمي عند لحظة غياب، أتبعثر معتّقاً بالندم، تائهاً في محطة يلفّها العويل ودخان كثيف ورائحة شواء، قابع فيها صراخ ودوي زلزال عنيف، قدماي تطويان أرصفة الذعر، ذراعاي معلّقتان في فضاء مغلق، أبحث عن نافذة، أتنفس جحيم احتراقي، ظلّي يهرب إلى جهة قصية، أهرول إلى منعطف التذكّر، أنشد حكاية قديمة تبوح بجرح ما زال فاغراً فاه؛ لعلّي أرتّب ما تبقّى من ثياب الأماني، أعبر ضفة المحطة، أقتفي أثري، عيناي تخطّان حلماً يعزف تراتيل الأمس، أمضي على عجل صوب البدايات، كان الفجر يتنفس براءتي؛ وأنا أحبو بين بساتين النخيل، مرايا ( نهير الليل) تداعب خيالي، أخلع قماطي، أرتدي ماءه، أبحث عن سرّ وجودي. خالي الذي رأيته في أول المحطات عند طرف قريتنا البائسة، يهتف بالجموع أملاً، دثّرني بهمسه:
- أراك تتبع خطى الحرائق، عد إلى قريتك فما زال الوقت باكراً.
آنسته وهجاً في حلكة الليالي، ألوذ بكلماته زهواً، مرتدياً ظلّ خطواته، أمضي منتشياً بعبقي السومري، أحطّ الرحال على ضفاف السواقي، وتراب الحقول، خضرة وماء، طيور البط والخضيري وأم سكة، حكايات تنبلج منها رائحة التبغ ورنين دلّة القهوة، كانت أنفاسي تدغدغ سعف النخيل، تشدو غناءً بقصائد السياب، فرحاً أغازل شناشيل ابنت الجلبي، أهطل حبوراً على شط العرب، أنزف مطراً. وحين أزهرت الأرض جفافاً في غفلة منّا، انتصبت الأحزان جسراً يحملني إلى المدن البعيدة، غريباً أهبط هناك، خلف السدة الترابية، شرق العتمة، والقلب يخفق شوقاً لظلّ شجيرات الحناء، لظلّ أبي، ودثار أمي. كانت المدن رقعة شطرنج بلا ملوك، وكنّا بيادق لا لون لها، تحركنا أيد خفية، نسقط بين قلعة وفيل، تسحقنا سنابك الخيل، نطعن من أمام ومن خلف، امتنعنا عن اللعب، ولم نتحرك فوقها؛ فكانت المنافي رقعتنا، وزنازين المواجع تأسر صوتنا. أوقدوا لنا نار الحروب، لم تكن برداً وسلاماً، كانت جحيماً وخراباً، لثمنا ضرع الموت وسنوات التيه، نلهث خلف أحلام من سراب، أحلام بعرض السموات والأرض، نهذي بملامح تحلم بالفناء؛ فتعمّ الظلمة، ولم نسمع آذاناً للفجر... هكذا تولج محطة قلب أخرى. أصلب على أعواد الدهشة، أتساءل،
" لماذا يتّشح القلب بالشوق والحنين لتلك المحطات؟ ولماذا تنتصب الآن أمامي؟. إنّه لأمر عجيب، من أيقظ رقاد السنين؟ "
أنفاسي تتوقف عند نداء ينطلق من أقصى المحطة،
"جاء القطار".
المسافرون لملموا حقائبهم، عيناي تعانقان ظلّ شبحين يهبطان من علو، يرتديان ثياباً من ضباب ناصع البياض، تلفّني موجة هلع، أرتبك، أرتجف رعباً، أبحث عن منفذ، ولو ثقب إبرة، أضلاعي تطأها أقدام المسافرين، أحاول أن أتحسّس ساقيّ؛ كي أطلقهما تسابقان الريح، يصيبني الذعر، كنت بلا ذراعين، عيناي تحدّقان بي عن بعد، تغرقان في موجة دمع، يداي تلوحان لي بالوداع، المحطة بكامل ضجيجها تأفل في هباء الخطى، الأحلام، المحطات، تتهاوى، تتساقط، يصمت كلُّ شيء أمامي. لم يكن أمامي غير أن أتدثّر بآخر أنفاسي، تاركاً أشلائي وصرة أسفاري على رصيف مكتظّ بالنواح. ابتسمت لعقارب الساعة المعلّقة على بوابة المحطة...كان الموت صحواً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق