أبحث عن موضوع

السبت، 16 يناير 2016

زمن العميان ( قصة قصيرة ).................. بقلم : سوسان جرجس // لبنان


هي الشمس تهرب خائفة من عالم البشر. يلقي الأحمر الناريّ بكؤوسه بين السماء والأرض. واقفة أنا عند باب دارنا، تلفحني رياح جليدية تكاد تقضي على ما تبقى من نبض قلبي. أسمع خلفي همهمات أطياف حلّقت نحو النور بعد أن صرعها التنين. مثقلة الخطى أندفع إلى الخارج بحثاً عن المستحيل، أحدّق في اللاشيء، أسترجع كلمات أختي التي لفظت أنفاسها الأخيرة وهي تحاول أن تلد مولودها الأول. كان الوصول يومها الى الطبيب كمن يبحث عن ورقة بيضاء وسط أجيج النار. أجلستها على السرير، فتحت ساقيها بيدين مرتعشتين ورحت أدفع على بطنها نحو الأسفل. تدلّت فوق صدري سلسلة ذهبية تحمل شعار الزوبعة، الشيء الوحيد الذي حملته معي يوم هدّم رؤساء الطوائف المخيّم فوق رؤوسنا. بصوت يكاد من فرط الإعياء أن يكون همساً قالت:
- "اخفي شعارك جيدا!! دسيه تحت الجلد!! لا أمل لك بالنجاة إن لم تقمعي تمرّداً سيقودك نحو الهاوية".
قالت كلماتها، وراحت تصرخ بشكل هستيري. إلى جانب السرير كنت كورقة خريف تحاول أن تتمسك بغصن شجرة يابس. يدي اليسرى تمسح العرق المتصبّب فوق جبينها، واليمنى تحاول بيأس واضطراب أن تدفع على بطنها المنتفخة. فجأة سكن الصوت، محيلاً الجسد الأصفر الى قبر يطوي المسكين الصغير. أحسست به يتخبط محاولاً النجاة بعيدا عن عاطفة أمومية قاتلة، لكن... لا شيء سوى سلام كسلام القدس المغتصبة في ليلة الميلاد، لا شيء سوى دماء ترسم فوق الشفتين الصفراوين ابتسامة قرمزية بلون المغيب.
ها هو عواء بنات آوى القادم من خلف التلال ينتشلني من تيه الذكريات، تسري في أوصالي ارتعاشة الخوف والضياع. من أعمق نقطة في الوجود أسمع صدى صوت يدعوني للبحث عن المخلص، عمن يسجد له كل من على الأرض. أشدّ حقيبتي فوق ظهري، أسير متعثرة الخطى في ليل لا نهاية له، أنظر خلفي، أزمنة وأمكنة تفصل التائه في داخلي عن الماضي كما عن الآتي. فجأة أبرقت السماء، دوى الرعد، هبّ إعصار كاد يطوي الأرض. عند سفح التلة يلوح ضوء خافت يوحي بوجود بشر. أحثّ الخطى من أجل الوصول. بوجلٍ أخبط على البوابة الحديدية، يخرج من بيت الكلب في الحديقة رجل يدبّ على أربع؛ منظره المشوّه يثير الخوف والإشمئزاز في نفسي. ينظر إليّ نظرة ملؤها الخمول. يتساقط الثلج بغزارة. أرى الرجل/ الكلب ينظر حوله خائفاً ثم يعدو مسرعا نحو البوابة، يفتحها ويعود الى بيته كي يغط في نوم عميق؛ أما أنا فأتقدّم نحو نافذة الغرفة المضاءة، أتلصص من خلف الزجاج. يصيبني الذعر وأنا أبصر أناساً مفقوئي الأعين يسجدون دون حراك. بدا لي في مقدمة الغرفة ثلاثة رجال بعيون ذات وميض أحمر. يوحي مظهر الأوسط ذي البدلة الرسمية وربطة العنق الزرقاء بأنه رجل متمدّن؛ يجلس على كرسي مذهّبة لا يبرحها إلا للحظات عابرة كافية لأن يسجد أمامها ودمع الرجاء يفيض من عينيه. على يمينه رجل شديد البدانة الى حدّ تظنّ به أنّه قد ابتلع انساناً آخر. أمام صاحب الكرش رزم مالية يعدّها الواحدة تلو الأخرى؛ وكلما انتهى من عدّ رزمة قبّلها ومسح بها جبينه. إلى يسار الرجل "المتمدّن" يركع صاحب اللحية الطويلة متمسّحاً بجسد أنثوي لم يكد يبلغ بعد؛ بيده اليسرى يتحسّس النهدين العاريين، وبيده اليمنى سبحة تتحرّك استغفاراً وحمداً.
فجأة رنّ محمول الرجل المتمترس فوق الكرسي. نظر بإمعان في الشاشة فالتمعت عيناه بذلك الوميض الغريب .اتجه نحو النافذة التي اختبأت خلفها. بصوت أجوف قهقه مردداً:
"- لا تقلق يا سيدي!! سنضع العبوة مباشرة تحت عرش الله!!"
أفلتت من شفتي صرخة مدويّة، فإذا المفقوئين جميعهم حولي يعوون وهم يدبّون على أربع...... ضممت يديّ على صدري، تحسست الزوبعة، وأطلقت رجليّ للريح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق