( ميـخائيـــــل نعيمـــــــــــة )
ناسك الخرشوب
.
ولد ميخائيل نعيمة بقرية ( بسكنتا ) في جبل صنين من اعمال لبنان في شهر تشرين الأول( اكتوبر) من عام\ 1889. وكني ( بنعيمة) نسبة إلى بلدة ( النعيمة) التابعة لمحافظة( اربد ) في المملكة الاردنية الهاشميه حسبما ذكره ميخائيل نعيمه في حواره مع الكاتب الاردني والمؤرخ روكس بن زائد العزيزي
.
رحل ميخائيل نعيمة رحلة العلم في ( الناصرة )فلسطين ١٩٠٢- ١٩٠٦فمما كتب نعيمة في سيرته الذاتية يتحدث عن سفره إلى فلسطين يقول :
(كان عالمي رحماً مغلفة بظلمات ضمن ظلمات. فأصبح سريرا صغيرا من خشب يغمره النور في النهار والظلام في الليل. ثم بيتا صغيرا سطحه من تراب وأرضه من تراب. ثم حيا في ضيعته. ثم ضيعة بخراجها الممتد إلى أعالي الجبال المحيطة بها. وها هو.. قد آن سفري إلى الناصرة.. يمتد بعيدا بعيدا إلى فلسطين... وأين أنت يا فلسطين. يا أرض الميعاد التي تدر لبنا وعسلا؟ أين أنت يا حلم موسى وسبية يشوع بن نون. ويا حبيبة داوود وسليمان. ويا ملهمة أشعيا وكاتب سفر أيوب. ويا مسرحا تعاقبت علية ادوار أنبل حياة وفصول افجع مأساة منذ مأساة عدن؟ وأين أنت يا ناصرة النجار يوسف وخطيبته مريم التي منها يطل تينك الحياة والمأساة ؟ وما أبعدك يا ارض اللبن والعسل. وهل فيكما ما يعني هذا اليافع الذي لم يكمل بعد عامه الثالث عشر. وهل فيكما ما يغنيه عن وكره المتواضع.. وعن أهله..)؟
.
من قرية (بسكنتا) الجبلية حمل نعيمة معه بطاقة نفوسه (الباسبورت) ويمم إلى فلسطين بحرا متجاوزا حدود بلدته وبجعبته ريالا مجيديا وهو الزاد للمأكل والمشرب.. وكم تمنى ميخائيل نعيمة بأن تكون هذه النقود في البيت مع عائلته لما لهم بحاجة أكثر منه… و ما هي إلا أيام حتى تكحلت عيناه بعروس فلسطين ( حيفا ) العربية التي احتضنت الساحل بجمالها..
.
نزل نعيمة بشوارع(حيفا) وقد البسته امه لتلك السفرة قمبازا جديدا.. و طربوشا احمر ومداسا جديد.ا.
.
وصف نعيمة تلك الزيارة لمدينة ( حيفا ) بشوارعها وبيوتها العريقة والسكة الحديثة وبما فيها ( الناس والجمال والحمير والبغال والكلاب والعربات تلهب ظهور جيادها أسواط الحوذيين وهم ينادوهن بأعلى صوتهم ( ظهرك يا حرمة.. وجهك يا أفندي.. جنبك يا عتال…
فيها النساء المؤزرات.. المحجبات.. والرؤوس المعممة والمتقلنسة والمطربشة..فيها باعة المرطبات يحملون القراب أو القناني الزجاجية الكبيرة ليطفئ بها الشاري أو السائر نارا ظمأ ه.. وفي أيديهم صحون من النحاس لا ينفكون يقرعون بعضها ببعض وينادون.. بورد يا عطشان!)
يتحرك نعيمة للسفر إلى (الناصرة ) ترافقه الذاكرة لما رأته عيناه وسمعته أذنيه من أحاسيس وصور وانطباعات إلى الناصرة إلى مدينة بشارة ومنشأ المسيح عليه السلام… راكبا العربة وهي تسير متخطية التلال والسهول ومشاهد الطبيعة وجبال الجلبوع التي لم تخفيها حتى اكبر السحاب…
تلك هي المناظر التي شاهدها ميخائيل حين تخطى الطريق بين حيفا والناصرة..المسكوبية! المسكوبية الناصرة يا أفندي هكذا أعلن سائق العربة أو الحوذي بأعلى صوته ليستيقظ نعيمة من غثاء السفر الذي انهكه والذي استغرق ثماني ساعات..)
.
هكذا بدا نعيمة مشواره مع العلم في الناصرة كما يتحدث نعيمة عن نفسه عاش فيها مدة ست سنوات كان غذاؤه الكتاب والقرطاس والقلم . حتى أنهى دراسته المدرسية في مدرسة الجمعية الفلسطينية في الناصرة ،
ثم سافر الى روسيا لاكمال دراسته الجامعية في( بولتافيا الأوكرانية) بين عامي \1905 و 1911 حيث تسنّى له الاضطلاع على الأدب الروسي،
.
بعد اكماله الدراسة في روسيا حصل على منحة دراسية في فرنسا بحامعة السوربون فسافرالى باريس عام 1911
.
سافربعدها الى الولايات المتحدة الامريكية لدراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية في كانون الأول عام \1912 ثم حصل على الجنسية الأمريكية.
.
انضم إلى (الرابطة القلمية ) التي أسسها الأدباء العرب في المهجر وكان نائبا لرئيس الرابطة القلمية جبران خليل جبران الا انها اغلقت بعد وفاة جبران عام\ 1932وعودة نعيمه من المهجر الى بلده لبنان .
.
عاد إلى ( بسكنتا) قريته الاولى التي ولد فيها عام \1932 واتسع نشاطه الأدبي. ولقّب ب (ناسك الشخروب)، وبقي فيها بقية عمره متفرغا للكتابة والتاليف .
وفي قريته (بسكنتا ) بلبنان توفي في 22 شباط ( فبراير)1988.
.
ميخائيل نعيمه مفكر عربي كبير وهو احد قاد ة النهضة العربية الفكرية والثقافية وداعية من دعاة التجديد في الفكر العربي . له في المكتبة العربية مكاناً واسعا لما كتبه وما كتب عنه . فهو شاعر وقاص ومسرحي وناقد وكاتب مقال متبصر وفيلسوف في الحياة والنفس الانسانية وقد كتب آثاره بالعربية والانجليزية والروسية وهي كتابات تشهد له بالامتياز وتحفظ له المكانة السامية و المنزلة الرفيعة .
.
نشر مجموعته القصصية الاولى( سنتها الجديدة ) عام 1914 عندما كان يتابع دراسته في امريكا ونشر قصته الثانية( العاقر ) عام 1915 ونشر قصته الثالثة ( مرداد ) عام 1946 وتعتبر هذه قمة انتاجه القصصي حيث يتداخل فيها انتاجه القصصي في فلسفته الفكرية وشخصيته الكتابية اما في عام \1956 فقد اصدر مجموعته ( اكابر )
.
وفي عام \1958 اصدرقصته ( ابوبطة ) التي اصبحت مرجعا للدراسة في المدارس والجامعات للادب القصصي اللبناني والعربي المتجه نحو الادب العالمي .
.
وفي سنة 1949 وضع نعيمة روايته الوحيدة بعنوان (مذكرات الأرقش).
اما عمله المسرحي فهو (مسرحية الآباء والبنون ) كتبها نعيمة سنة \1917، و مسرحية ( أيوب) صدرت عام \ 1967.
.
كتب نعيمة قصة حياته الشخصية في ثلاثة اجزاء على شكل سيرة ذاتية بعنوان ( سبعون ) معتقدا انه سيموت في السبعين من عمره لكنه عاش حتى قارب مائة عام .
.
اما انتاجه الشعري فقد اصدر ديوانه بعنوان ( همس الجفون ) باللغة الانكليزية وعربت بعد ذلك من قبل الاستاذمحمد الصائغ وطبعت بالعربية عام 1945 وطبع عدة طبعات بعدها .
.
اما طبيعة شعره فيمتاز بالسهولة والبلاغة والكلاسيكية . وفيه حلاوة وجمال وموسيقى عذبه تنسال الى النفس والقلب كالماء المتدفق من عين ثرة تحف بها مواقع الزهور والشذى المعطور بعيدا عن العنف والكبرياء .وقد انشد في اغلب اغراض الشعر وخاصة شعر الاحداث السياسية وما ألم بالامة العربية خلال سني عمره فقد ترجم احداثها كما فعل اغلب شعراء العربية من قبله وبعده يقول بعد احتلال فلسطين من قبل الغزاة الصهاينة قصيدته المشهورة ( اخي ) متهكما :
أخي ! إنْ ضَجَّ بعدَ الحربِ غَرْبِيٌّ بأعمالِهْ
وقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ ماتوا وعَظَّمَ بَطْشَ أبطالِهْ
فلا تهزجْ لمن سادوا ولا تشمتْ بِمَنْ دَانَا
بل اركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشِعٍ دامٍ
لنبكي حَظَّ موتانا
***
أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جُنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
سوى أشْبَاح مَوْتَانا
***
أخي ! إنْ عادَ يحرث أرضَهُ الفَلاّحُ أو يزرَعْ
ويبني بعدَ طُولِ الهَجْرِ كُوخَاً هَدَّهُ المِدْفَعْ
فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا
ولم يتركْ لنا الأعداءُ غَرْسَاً في أراضِينا
سوى أجْيَاف مَوْتَانا
***
أخي ! قد تَمَّ ما لو لم نَشَأْهُ نَحْنُ مَا تَمَّا
وقد عَمَّ البلاءُ ولو أَرَدْنَا نَحْنُ مَا عَمَّا
فلا تندبْ فأُذْن الغير ِ لا تُصْغِي لِشَكْوَانَا
بل اتبعني لنحفر خندقاً بالرفْشِ والمِعْوَل
نواري فيه مَوْتَانَا
***
أخي ! مَنْ نحنُ ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ
إذا نِمْنَا إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ
لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا
فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر
نُوَارِي فيه أَحَيَانَا
***********
ميخائل نعيمة وضع \ 22 كتابا - عدا ماذكرناه من كتبه في القصة والمسرحية والشعر- في الدراسات والمقالا ت الادبية والنقد والتاليف والرسائل المختلفة وهي:
المراحل، دروب - وجبران خليل جبران.
وزاد المعاد –والبيادر- وكرم على درب الأوثان - و النور والديجور
وفي مهب الريح -وأبعد من موسكو ومن واشنطن - واليوم الأخير - وهوامش .ومقالات متفرقة، يا ابن آدم. نجوى الغروب
ومختارات من ميخائيل نعيمة .وأحاديث مع الصحافة
ورسائل من وحي المسيح 1977.
.
واخيرا كتب كتابه المشهور (الغربال الجديد ) كما احتفظ في مكتبتي الخاصة بعدة مؤلفاته له .
ومن جميل روائع شعره هذه القصيدة :
يا نهرُ هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريـر ؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير ؟
***
بالأمسِ كنتَ مرنماً بين الحدائـقِ والزهـور
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديـثَ الدهـور
***
بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريـق
واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحدِ العميـق
***
بالأمس كنـتَ إذا أتيتُكَ باكيـاً سلَّيْتَنـي
واليومَ صـرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكـاً أبكيتنـي
***
بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّـدِي وتوجُّعِـي
تبكي ، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي !
***
ما هذه الأكفانُ ؟ أم هذي قيـودٌ من جليـد
قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْـكَ بها يدُ البـرْدِ الشديـد ؟
***
ها حولك الصفصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمـال
يجثو كئيباً كلما مرَّتْ بـهِ ريـحُ الشمـال
***
والحَوْرُ يندبُ فوق رأسِـكَ ناثـراً أغصانَـهُ
لا يسرح الحسُّـونُ فيـهِ مـردِّداً ألحانَـهُ
***
تأتيه أسرابٌ من الغربـانِ تنعـقُ في الفَضَـا
فكأنها ترثِي شباباً من حياتِـكَ قـد مَضَـى
***
وكأنـها بنعيبها عندَ الصبـاحِ وفي المسـاء
جوقٌ يُشَيِّعُ جسمَـكَ الصافي إلى دارِ البقـاء
***
لكن سينصرف الشتا ، وتعود أيـامُ الربيـع
فتفكّ جسمكَ من عِقَالٍ مَكَّنَتْهُ يـدُ الصقيـع
***
وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحـوَ البِحَـار
حُبلى بأسرارِ الدجى ، ثملى بأنـوارِ النهـار
***
وتعود تبسمُ إذ يلاطف وجهَكَ الصافي النسيم
وتعود تسبحُ في مياهِكَ أنجمُ الليلِ البهيـم
***
والبدرُ يبسطُ من سماه عليكَ ستراً من لُجَيْـن
والشمسُ تسترُ بالأزاهرِ منكبَيْـكَ العارِيَيْـن
***
والحَوْرُ ينسى ما اعتراهُ من المصائـبِ والمِـحَن
ويعود يشمخ أنفُهُ ويميس مُخْضَـرَّ الفَنَـن
***
وتعود للصفصافِ بعد الشيبِ أيامُ الشبـاب
فيغرد الحسُّـونُ فوق غصونهِ بدلَ الغـراب
***
قد كان لي يا نـهرُ قلبٌ ضاحكٌ مثل المروج
حُرٌّ كقلبِكَ فيه أهـواءٌ وآمـالٌ تمـوج
***
قد كان يُضحي غير ما يُمسي ولا يشكو المَلَل
واليوم قد جمدتْ كوجهِكَ فيه أمواجُ الأمـل
***
فتساوتِ الأيـامُ فيه : صباحُهـا ومسـاؤها
وتوازنَتْ فيه الحياةُ : نعيمُـها وشقـاؤها
***
سيّان فيه غدا الربيعُ مع الخريفِ أو الشتاء
سيّان نوحُ البائسين ، وضحكُ أبناءِ الصفاء
***
نَبَذَتْهُ ضوضاء ُ الحياةِ فمـالَ عنها وانفـرد
فغـدا جماداً لا يَحِنُّ ولا يميلُ إلى أحـد
***
وغدا غريباً بين قومٍ كـانَ قبـلاً منهـمُ
وغدوت بين الناس لغزاً فيه لغـزٌ مبهـمُ
***
يا نـهرُ ! ذا قلبي أراه كما أراكَ مكبَّـلا
والفرقُ أنَّك سوفَ تنشطُ من عقالِكَ ، وهو لا
***
امير البيــــــــــــان العربي
د .فالح نصيف الحجية الكيلاني
العراق - ديـــالى - بلـــــــد روز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق