الرجل السومري الذي يحاكي الكلمات ، ويعرف كيف يفك الاحجيات ليس بالهين، رجل آتى من أرض خصبة وقاعدة متكاملة متينة، مثل الطائر الحر يحمل بين أجنحة خبايا الابجدية، رجل يتغزل بالأهوار والطبيعة ليخرج من كل هذا حكمة، من طين الجنوب ونكهة الاهوار من بلاد سومر حضارة الانسان، خرج حكيم بكل هيبة ووقار يحمل معه طيب الاولين بصبر وحكمة لقمان ، ببلاغةٍ عالية استطاع أن يجعل من كلماتهِ درعا ، ومن احرفه رصاصات بوجهِ الجهل، في زمنٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى الارتواء إلى التخلص من عنت الحياة ورتابتها، يكون الشعر هو الملاذ والملجأ الوحيد الذي نتكئ عليه، عندما ننسلخ عن العالم، ونلتصق بجدار الواقع ونأبى إلا أن نمسك بانفلاته وصوره المتنوعة والمتباينة، يكون صوت الشاعر المكبل بقضايا أمته وشعبه وبمحيطه أقرب إلى استنطاقه بريشة مبدع، وعين مصور فني، وحرف يصدح في سماء الصمت ليقتل ارتباكات الوقت الذي تبدو مرآته في الغالب خادعة كاذبة تشكل علاقة النص بصاحبه واحدة من أهم الطروحات النقدية الحديثة التي ظلت مهيمنة لردح من الزمن، لتكرس معها وترسخ في الأذهان ما عرف بسلطة المؤلف، وقد فرض هذا التوجه اهتماما متزايدا بالنص الأدبي انطلاقا من حياة مبدعه وما يرتبط بها من أحداث اجتماعية وتاريخية وثقافية ونفسية، وبهذا فإن أي محاولة كانت تستهدف اقتحام عمل أدبي ما لا يمكن أن يتأتى لها النجاح إلا عندما تأخذ بعين الاعتبار العوامل السالفة الذكر،بعد هذا أطلت البنيوية كحقل جديد في تاريخ الدراسات الأدبية، فحاولت الحد من فيتيشية الكاتب والدعوة إلى التحليل المحايد للنص، والوقوف عند بنائه الداخلي بغض النظر عن العوامل الخارجية، فكانت هذه الدعوة إيذانا بتلاشي سلطة المؤلف وتكريس سلطة أخرى هي سلطة النص إن صح التعبير، وقد برزت ملامح هذا التوجه الجديد بصفة خاصة، عند رولان بارت Rolan Barthes، الذي أعلن موت المؤلف، هذا الإعلان الذي جاء متضمنا عند حديثه عن الكتابة يقول: الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل، الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، إنها السواد، البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب، إذا رجعنا إلى مفهوم القراءة في النظريات النقدية التي سبقت نظرية التلقي فإننا سنجده، على الرغم من تداوله الكبير، قد عرف ضيقا شديدا وانحسارا واضحا في دلالاته، إذ ظل يتحرك داخل الإطار المنهجي الذي يختاره القارئ، وهذا ما يحد من فاعلية القراءة. من هنا كانت دعوة نظرية التلقي إلى القراءة التكاملية التي تفرض على القارئ، خلاف غيرها، أن ينظر إلى النص بكل العيون لا بعين واحدة وأن يتحسس النص بكل الحواس لا بحاسة واحدة، المهم في كل هذا أن هذه القراءة تبصر بعيونها عيون النص، وتدرك بوعيها وعي النص، والأهم أن هذه القراءة تقرأ النص بعيونه وتتعمق في ما تخفيه تلك العيون من أسرار وسرائر لا يعرف قيمتها إلا من يكابد شوق الوصول إليه.بهذا يمكننا القول إن نظرية التلقي تشير على الإجمال إلى تحول عام من الاهتمام بالمؤلف والعمل إلى النص والقارئ، ومن ثم فإنها تستخدم بوصفها مصطلحا شاملا ، وكل ذلك نابع من اعتقاد راسخ وهو أن العمل الأدبي حتى في لحظة صدوره، لا يكون مولودا من فراغ، يأتي عن طريق مجموعة من الإشارات الحسيه، وعلى هذا الأساس، أصبح للشاعر كامل الحرية في إطالة الإيقاع أو اختصاره، تبعا لإرادته ودفقته الشعرية وذوقه وحاجته، متمتعا من ناحية أخرى بحرية اختيار المفردة الجميلة التي يختتم بها أبياته. ومن هنا يمكن القول إن الأساس الموسيقي هو الذي يفرض نفسه على كل من يريد رصد حركة تطور الشعر الحديث، ولعل أهم عنصر موسيقي أوجدته الثورة الحديثة في الشعر العربي، هو طابع المرونة التي أضحت شكلا من أشكال وعي الشاعر وتجربته، وملمحا من ملامح الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون. إن المضمون هنا أصبح يفرض نفسه على الشكل، ومن ثم قد تطول الأسطر الشعرية أو قد تقصر..
نجد في نصوص الشاعر العراقي السومري الكبير(عبد الجبار الفياض)ثورة محققة للنصر في نصوصهِ الكبيرة عملاقة المعاني وتوظيف عالي الدقة، في نص (النّهرُ الميّت )
دارتْ
وما انتهتْ
ليس لها أنْ تستقرْ
من غيْرِ أنْ ينفرطَ عقد
علقتْ بهِ من الملائكةِ عيونْ
أنْ تُرجمَ في صحراءِ الوَهْمِ حروفُ الابتداء . . .
أنْ تُدفنَ في عتبةِ الدّارِأحلامٌ صغيرةٌ
استبطنَها قلبٌ كبيرْ . . .
. . . . .
شِباكٌ سوداءٌ
متاريسُ تحبسُ خطىً
تتخطى زمناً
يتنفسُ موتاً برئةٍ صفراءْ!
نزعَ أُوديبُ لعنتَهْ
مُفترشاً ظلامَهُ النّقيّ !
. . . . .
نهرٌ
ظمئتْ شفتاهْ
قبرٌ مفتوحٌ
مستورٌ بباقةِ عدسْ
تشيّعُهُ أرضٌ
تعصرُهُ خمراً
وعلى البابِ حُفاةٌ
يضرسون
بين وجودٍ
وعدمْ
هنا امتلك أداة التصوير الكبيرة بأسلوب الرمز، ويقوم بدور التلميح بهذا النص، هذا الأسلوب كفيل بأن يعبر عما يريده الشاعر من إدراك للجهول، والوصول إلى أعماق الوعي، والتعبير عن المشاعر الخفية والغامضة، وحالات النفس الروحية، كما أن هذا الأسلوب يستطيع أن يولد المعاني في ذهن القارئ، يقول (ستيفان مالارميه) عن الشعر، ((يجب أن يكون الشاعر إيحائيا، وأن يتكلم المرء كشاعر هو أن يكتفي بالتلميح عن الأشياء ، او أن يستخرج صفتها التي تجسم فكرة ما وليس للقارئ أن يقاد بيده إلى موطن فكرة الشاعر الدقيقة بل عليه أن يجد الفكرة التي يتضمنها حقل القصيدة الضبابي وان تقوده علامة لا تدرك إلى الأمكنة حيث تختبئ أو تفتح فكرة هي غامضة ، لأنها مركبة أن كل قارئ يجد ما يناسبه من هذه الفكرة المركبة وفقا لخياله، ونفسه ، وزمنه، أو بيته ويكون القارئ أمام القصيدة كالمستمتع أمام الموسيقى، هنا نقول أن تنوع مصادر القصيدة الحديثة، إذ أنها نابعة اوتار الحسية العميقة، فهناك الوعي واللاوعي، والمنطق واللا منطق والحلم واليقظة، والتداعي...الخ، وهذا التنوع هو الذي أصبح يربط بين أجزاء القصيدة، الشيء الذي ينتح عنه تعدد في الأنغام والموسيقى.
يقول نزار قباني علاقة القصيدة الحديثة بالحركات الإيقاعية المتنوعة بقوله، إن ذوقنا الموسيقي تطور ونما وتأثر إلى حد بعيد بالبناء السمفوني ، لقد تجاوزنا مرحلة (ربابة الراعي) بإيقاعها البسيط إلى مرحلة البناء الموسيقي المتداخل، وانتهت في حياتنا مرحلة (القصيدة العصماء) الشاعر عبد الجبار الفياض وضع القصيدة الحديثة بأطار حداثوي اجمل بالتركيب الجميل والمطرز بالمفردات ذات العمق، حيث أنه أستطاع إيصال الفكرة بسرعة وسلاسة، في نص أخر له. في نصه العميق
(هي) يقول
وتأتين . . .
عالماً
لا يحدُّه خيالُ شاعر . . .
ولا تسنزفُهُ قريحةُ فنان . . .
ويرتدُّ عنه إزميلٌ من روما . . .
وفيكِ أنا
حديثُ هوى
يوقدني
وتطفئُني مراشفُهُ . . .
فعند حدودهِ مُتجرّداً
أقف
مغلولاً بحيرةٍ لقاعٍ لا أراه . . .
فهل أنَّ العشقَ احتراق ؟
أم أنَّ كلَّ دمعةٍ فيه
بحيرةُ طُهر . . .
. . . . .
وليتـكِ لم . . .
أبحثُ عن أجزائي
لحظةَ أشمُّ عطرَ امرأة . . .
وأغرقُ في صمتي
ساعةَ أُبحرُ في عيونِ امرأة . . .
وأبيعُ نصفَ شِعري مهراً
لشفاهِ امرأة . . .
أستظلك
فتُمحى خطاي
وأغفو . . .
فوق كتفِ مُعارٍ لآلامِ العُراة . . .
. . . . .
دعيني
أحتطبُ زوائدي . . .
وأحملُ بقاياي
حِمْلَ أوديبَ لعماه . . .
وسقراطَ لموتِهِ . . .
فمدنُ العشق
تطلّلتْ
ولم يصبْها بللٌ من دمع
وأغلقتْ نوافذَها منازلُ القمر. .
. . . . .
دعيني
من دون شاهدٍ
ومشهود
أكتبُ أخرَ وصيةٍ لجرح
ينكأُ نفسَهُ كلّما اندمل
فليس بينهُ وبينَ الشفاءِ قرابة...
ربما آخرِ الدّواءِ رضابُ امرأة...
. . . . .
دعيني
أيّتُها المسافرُ فيكِ آخرُ العمر . . .
حين أتوقف
أتبعيني الى المحطةِ الثانية
حيثُ نهايةُ الأنفاس . . .
لا شيء أجملُ من احتواء
إثـنانُهُ واحد . . . !
. . . . .
دعيني
أتأبطُ خوفي
وأسحقُ وجعي
فأخوةُ يوسف خلفَ الباب . . .
ماذا لو أنَّ الكونَ يبدأُ من جديد؟
فقد أصبحَ لا يصلحُ لشيء . . .!!
إن الكتابة في نظرنا لا ينبغي أن تنطلق من فراغ، والكتابة التي لا تؤثثها ذاكرة واعية يضل صاحبها يبصم حروفه في فراغ ". وإذا كان الأمر كذلك، فلنسافر قليلا مع الشاعر عبد الجبار الفياض صاحب الايقاع الداخلي لأحاسيس الشعر ، الكتابة لدى الشاعر هي بمثابة محاكاة للواقع ، الجمال والحقيقة، والواقع، حيث أفلح الشاعر في الكتابة يقصيدته ضمن سياق شعري جميل ومثير بواسطة لغة شفيفة وجميلة تتميز بالوضوح دون التواء أو غموض، وتشير مباشرة إلى المقصود ضمن رؤية واعية ومحددة، لقد كان الشاعر يعرف جيدا ما يقول في القصيدة، وما يريده من عمله الفني الجمالي بكل ألق وفتنة، حيث أجاد في إقامة التقابلات بين المفاهيم والكلمات التي استخدم منها كل ما هو متاح وجميل، وأتقن الاستعارات المنيرة والدالة، وكان موفقا ومصيبا في استعماله الاستفهام وفعل الأمر والتقاطعات الدلالية واللغوية، والصور الشعرية المستحدثة والمنسوجة بواسطة المزج الموفق بين الخيال الفني واللغة المتناغمة، وتوظيف بعض الرموز ذات الحمولة الدلالية الفاعلة، وبهذا قد عرفنا أن الشاعر القدير أنه يمتلك الأدوات والتي تجعله سلطان الحرف سيد قومه ،وهو يتكلم بكل هيبة ووقار ، أنه رجل سومري لا يهاب شيء، يتكلم بكل ثقة ، وواثق الخطوات ، أن شاعر بحق..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
تقديري واحترامي لك سيدي الكريم الشاعر السومري الكبير
(عامر الساعدي ..العراق..22/12/201
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق