المستقبل - الاثنين 20 تشرين الثاني 2006 - العدد 2451 - ثقافة و فنون - صفحة 20
جهاد الترك
عشرون نصاً شعرياً مكثفاً، يتفرع كل منها محطات تكل تستقل بنفسها عن عنوانها الأساس. الأغلب إن الشاعر يتعمد ذلك لإراحة نصوصه من عناء الصور المثقلة بتجربة الرؤيا. ومع ذلك، لا ينجح في لجم هذا السياق المتدفق من إثارة المشاهد القابعة في عالمه الداخلي. أسلوب غير مستهجن، أبدا في إطلاق الغريزة الشعرية لتلفظ ما في جوفها من صور تستولد صوراً. تنفي ذاتها بذاتها على نحو دائم محموم من البحث عن الفكرة الأخرى التي سرعان ما تلغي نفسها سعياً إلى التقاط الشرارة الأبعد.
اللافت في هذه المجموعة، جنوح عباس المالكي إلى استخدام المفردات الأكثر قدرة على التعبير عن اللحظة الشعرية الطاغية. نتساءل في هذا السياق عن الكيفية التي تتيح للشاعر أن يقحم عقله في لحظة ينتابها صخب عنيف من تلقف الصور المتزاحمة. الأرجح، في هذا الإطار، انحسار الوعي لمصلحة المخيلة، أواندماجهما على الأقل لمصلحة الانسياق إلى ضجيج الصور الشعرية. تكاد المفردة الواحدة أن تختزن في قراراتها من الإيحاءات القوية ما يمكنها من أن تحفر لنفسها موقعاً ملائماً في السياق الشعري.
إيقاع قوي، وأحيانا عنيف جداً، يخيم على النصوص جميعاً، نتيجة لهذا الإصرار على شحن المفردات بأسباب البقاء العائد إلى بريق اللحظة قبل أن تذوب في المتاهة. في هذه المعادلة، على الأرجح، نستشرف أهمية النصوص وهي تسعى إلى إطالة أمد اللحظة الشعرية باعتبارها ضرباً استثنائياً من أدوات الكشف عن الواقع في أبعاده الغامضة. اللحظة، على هذا الأساس، هي الحاضر والماضي والمستقبل في احتمالاته المفتوحة على آفاق الرؤيا الشعرية. والأغلب أنها المرتكز الحقيقي الذي ينطلق منه الشاعر ليرصد تحولاته الذاتية في مواجهة الأشياء التي تنهال عليه من الأمكنة والأزمنة، أو تلك التي يستولدها وهو في طريقه الى استيعاب هذا "الحصار" قبل أن يصبح هو نفسه شيئاً تافهاً من هذه الأشياء التافهة.
ومع ذلك، يلتقط الشاعر معانيه الطريفة من زاوية بعيدة والأرجح بعيدة جداً، من على الضفة النائية المشرفة على كل هذا الضجيج والصخب وتلاطم الإيحاءات بعضها ببعضها الآخر. يضع رؤيته الشعرية وهو يرقب تحولاتها من رحِم الصمت حيث السكينة الهادئة، في الشكل، المنفجرة، في المضمون. يودع كل الأشياء، كما هي، على الضفاف الأخرى ثم ينبري من منفاه البعيد الى اختبارها في حركتها ا لداخلية. في هذه اللحظة، بالتحديد، ومن على شفير الغياب المستوطن في قلب الصمت، يتوسل الشاعر، في نفسه، قدرة على خلط الأوراق من جديد، على العبث بمكونات هذه الأشياء والأفكار والمفاهيم، ليعيد قراءتها، من جديد، على وقع رغبة عارمة في التوغل الى قلب الحدث الشعري حيث الدهشة المفتوحة على الغموض الجميل.
من موقع الغياب، على الأغلب، يقبل الشاعر على مقاربة "مشروعة" الشعري، ولكن على نحو كبير من التحكم بهذا المسار المعقد. يكاد لا يخلو أي من نصوص الكتاب من هذه الأجواء. إنها سمة هذه المجموعة الشعرية الرشيقة في عمقها والمؤثرة في أجوائها الداخلية. يتربص الشاعر، والحال هذه، بنفسه وبالأشياء من حوله من حيث ينزوي من أجل مشاهدة أوضح وإحساس أصدق، وتورط أخطر: (على قبري أشيع الصمت بالضجيج، أغفو لعل غداً، سوف يأتي.. بالطُوفان، ووجهي تغسله تجاعيد البحر)، أو عندما يكتب قائلاً (أعيد أثوابي للمرايا، تحترق الأشياء، أبني من الرماد فنارات... لعل سفن النار تضاجع شواطئ الريح... وتحترق سياط الضجر من جمجمتي).
ثمة ما يسترعي الانتباه في أجواء الغياب هذه. السكينة التي ينسحب إليها الشاعر تصبح حافزاً لانتظار ينطوي على احتمالات القيامة المرتقبة. قيامة الذات من تحت رماد اليأس المغلف بالضجر، وقيامة الأمة بعد أن يغسلها الطوفان من قذاراتها. غير أن هذه السكينة التي تلف كيان الشاعر، قد تبعث، في الوقت عينه، على نقيض القيامة المنتظرة: الموت الهش في دروب المتاهة الموحشة: (الأطفال عادوا من صحبة الريح وفزع الشوارع... تسبقهم الأحلام الى سرير الفراشات والأشجار... تطرز قمصانهم النجوم... يفيض الندى من حقائبهم، يفتشون عن الضحكات في أزقة النهار... يجدون قبرة الوطن قد أكلتها ذئاب الحروب وبعثر زمن الاختناق كراساتهم، فيعودون الى أحلامهم بغير ثياب، وأقدامهم خارج أسوار البيوت... على أرصفة الانتظار...).
تتوزع النصوص، جميعاً، هذه الهموم التي يرتقي بها عباس المالكي الى منزلة الحالة الشعرية النابضة بالتصورات المعقدة. يخيل ألينا، أحياناً، أن الشاعر يملها لافتقار هذه التساؤلات الى أجوبة شافية تقيه شر الانتظار في "المحطات" المهجورة. غير أنه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لسبب رئيسي، على الأرجح، يتمثل في كونها مصدراً حقيقياً لاستلهامه الشعري، وتورطاً وجودياً في ما تنطوي عليه من دلالات تشكل ذاكرته، ومع ذلك، نلحظ أنه يقتنص لحظات نادرة ليتملص من هذه الكوابيس بالهرب الى الأمام، حيث يبدو الخلاص الفردي والتوهم بالقيامة الفردية، وسيلة للنفاذ الى ما يتجاوز هذا التورط الثقيل: (نخبئ آثامنا في جنة اندحار، وننتظر غودو أن يأتي بالطهر من البحر... حاملاً زمن نوح الى كثبان خطايانا... السفن غادرت، فنمضي دون أجسادنا الى صفير النهايات حيث حشود أحلام مؤجلة... دون حروب...).
هذه الآثام والأحلام المؤجلة والنهايات الكئيبة، أفخاخ تعيق، على الأرجح، الخلاص المنشود وإن كان متوهماً في أبعاده القصوى. هنا تبلغ النصوص ذروة المأزق. المنافذ مقفلة. الاضطراب في أوجه. الحاجة الى الانعتاق من الأسر المحكم بفعل الحصار المحيط بالروح. الصور المتدفقة نتيجة لاشتعال المخيلة بنار الأزمة المتفاقمة. أمور تحث الشاعر على اللجوء الى فسحة من طمأنينة متوهمة ليستكين قليلاً من عناء الشعر الذي يكاد يحيل كل شيء أرضاً محروقة. نلحظ في هذا الخضم ميلاً جارفاً لدى الشاعر الى طلب الإحساس بما يعتبره خلاصاً فردياً ولو مؤقتاً ليستجمع، من جديد، ذخيرته الشعرية تمهيداً لمعركة أخرى قد تكون أكثر قسوة وشراسة: (سأسافر بدمي الى جذور الأزهار، فالفراشات لم تعد تمر بحدائقي). أو عندما يكتب قائلاً: (دائماً تنتظر المساء لتسمع ثرثرة العصافير... فالنهار غابات حرقتها أقدام الضجيج). وفي نص آخر: (المقاهي تبتلع الظل... حين يتسكع النهار وحيداً على عكاز).
السفر الى جذور الأزهار، هو ارتحال، على الأرجح، الى حيث تولد كينونة الأشياء في بداياتها الأولى. وثرثرة العصافير هي الصوت النقي الذي يسبق الغابات المحروقة. والظل الذي تبتلعه المقاهي يبقى صداه بعد رحيل النهار. إذ تنطوي مضامين هذه النصوص الثلاثة على ما يرجح هذه المسألة. فهذا التوجه يبدو تسوية بين مأزقين اثنين: أولهما ارتفاع وتيرة التورط في الهموم العامة وتداعياتها المحيطة التي تبعث على الغثيان وتزيد من هجمة الجدران المغلقة.
ثانيهما: قناعة الشاعر، على الأغلب، بأن الذوبان في هذه الهموم الى حدود التماهي هو استسلام طوعي لجاذبية المتاهة حيث يصبح الشعر ضرباً من الهذيان الكئيب. لا مفر، والحال هذه، من محاولة حقيقية للفوز بالخلاص الفردي، ومتعة اكتشاف الأشياء في نقاوتها الأولى. سمة غير استثنائية تطبع أغلب الشعر الحديث، وتحديداً في العقدين الماضيين بعدما أعلنت الايديولوجيا إفلاسها التاريخي.
ورغم ذلك، ثمة في هذه النصوص ما ينبغي استيعابه على نحو أعمق. فهي لا تبشر، على الأرجح، برؤيا الهزيمة، أو ثقافة الموت، أو الاستمتاع بقداسة الاستشهاد المجاني. لا شيء من هذا القبيل في هذه المجموعة الصعبة ولكن المثيرة للتمعن في مفاهيمها وأسلوبها الرشيق في العثور على المعاني الجميلة أو تلك التي لا تكشف عن نفسها بسهولة. الكتاب، على هذا الأساس، نموذج جيد لمعاناة شاعر يكتب سيرته الذاتية بالصورة قبل أن تتعرض لأمطار الملح على الصحراء القاحلة. موسم الجفاف لم يحن أوانه بعد.
الكتاب: اعترافات رجل مات مبكراً (شعر)
الكاتب: عباس باني المالكي
الناشر: دار الفارابي ـ بيروت، 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق