من نافذة اختناقها تطلّ على الزّقاق الضّيق ،
بشغفٍ جنوني ، تتلقفُ تلهفه ، قلبها الغضّ يخفقُ
بصخبٍ ، ولعينيهِ المتوسّلتينِ تطيّر إبتسامة من
دمعٍ . لكنّ وجه ابن عمّها المقيت ، يبرز فجأة أمام
غبطتها ، فتجفلُ وتصفعها حقيقة خطبته لها ، ترمق
خاتمها الذي يشنق أحلامها بإزدراء ، ترتدُّ نحو
انكسارها ، تغيب مخلّفة وراء النّافذة حسرة في
قلب " فتى النّافذة " .
* * *
بعد توسّلات مذبوحة ، وإلحاح مستميت،
تشفق الأم على كآبة ابنتها ، فتفرج عن جناحيها
لبعض الوقت .
يبرق قلبها من الفرحة ، يذوب جليد الرّوح ،
وتسري في الأوردة مراكب الأماني البيض ...
سيلتقيان .. وتتشابك الأصابع بارتعاشها ، تحتفي
بخطواتهما الأرض ، تحتضن الدّروب فراشات
بوحهما ، والغيوم البيضاء تطال جنون القبلات .
أشهر مضت على إعلان حتفها ، قابعة خلف
كثبان أحلامها مع خاتمها اللعين ، تراقب باختناق
حاد تحرّكات " فتى النّافذة" القلقة .
- أتريدين شيئاً من أمّ زينب ؟ .
تردّ أمّها المنهمكة بترتيب قبرها الأثير :
- بلّغيها السّلام .. لكن إياك والتأخر .
* * *
تندفع نحو الباب ، كسحابةِ شوقٍ ، ترقصُ
خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ، تسبقها عصافير التّوق
متقافزة فوق أحجار الطريق المرصوفة .
ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها يتتبّعها ، فيشتعلُ
الصّهيلُ في نبضها ، يرفرفُ دم اشراقها ، جناحاها
يغرّدان ، وهي تقاومُ رغبةً في الالتفات :
- (( مجنونة ماذا لو افتضح أمركِ ؟؟ .. ستذبحينَ
كعمّتكِ ... ارجعي .. ارجعي . )).
تنأى بارتباكٍ شديدٍ عن الحارة ، تتغلغلُ
في أزقّةٍ متطرّفة ، الخوف يثقل قدميها ، أنفاسها
تزعق برعبٍ :
- (( ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما ابن عمّكِ .)) .
تتباطأ حائرة ، وبعيونٍ متلصّصة تمسحُ
المكان من حولها ، تلتفتُ ، تتمهّلُ ، لتقصّر المسافة
بينهما .
* * *
يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلبهِ،
ينبتُ لهما أنياب شرسة ، مدركاً خطورة المغامرة ،
يمسكُ خطاهُ عنها :
- (( لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها ..
ماذا لو طاوعتها ؟!؟! .. سيقول أبي :
- فضحتنا ياكلب ، جلبت لنا الدّمار ، ولأهلها العار ،
ثمّ هل تجدنا قادرينَ على مجابهةِ عائلة "
الرّهوان" ؟!.. سيقتلونكَ ، ونحنُ لن نموت من
أجلكَ . )) .
* * *
بجوارحٍ مشرئبةٍ متيقّظةٍ لوصولهِ ، تتخيّلُ ما
سيدورُ بينهما من حوارٍ :
- مرحباً .
- أهلاً .
متحرّراً من تلعثمهِ ، حاثّاً خطاه بمحاذاتها :
- كيفَ الأحوال ؟.
وبنزقٍ تضعُ حدّاً لمقدّماتهِ :
- " وليد " يجبُ أن نجدَ حلّاً .
* * *
أفاقت من شرودها على تأخرهِ ، شارفت على
تخومِ البلدة ، بجرأةٍ تستدير، فتصطدمُ بخيبةٍ
متوحّشةٍ ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا
تبصر أحداً يتعقّبها .
ينتحرُ بريق عينيها ، أغصان بهجتها تتقصّف ،
يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشّمُ مرايا السّماء، فوق
قفار روحها ، بينما تجأر أعماقها النّازفة :
- آهٍ .. " وليد " لماذا الفرار ؟!؟!.
* * *
في زقاقٍ متهدّم تلمح الشّمس الآفلة " فتى
النّافذة " لاهثاً بانهزامه ، يجرُّ غصّته بمشقّةٍ ، وفي
وجدانهِ الجّريح تتعاركُ الأسئلة:
- سامحيني " ياأنيسة " .. لن ألحق بكِ العار.
أهل بلدتنا لا يعرفون الرّحمة ، ليتنا " يا أنيسة "
ولدنا على كوكبٍ آخر .
* * *
مضرّجةً بخيبتها تعرجُ على قبرِ " زينب" ، كاتمة
أسرارها ، تحملقُ الصّديقة في أخاديدِ الدّمعِ ، تشهقُ
بالسؤالِ :
- هل التقيتما ؟!
تندُّ عن أوجاعها صرخة مسكونة بالموت :
- انهزم .
تتكوّر الصبيّتان المنكسرتا الأجنحة ،
تبكيان أحلامهما بضراوةٍ ، ذليلة تنكفئ الشّمس ،
وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسود ، يسربلُ حلمَ
المدينة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق