أبحث عن موضوع

الأربعاء، 26 يوليو 2017

جونارة ديلارا / مقالة .................. بقلم : فراس الفهداوي // العراق





أحبك
أي عذاب هذا الحب ؟
أتمناك
وأي سهم ينغرس في قلب الأماني ؟
أريدك
وأي شوك الطريق إليك ؟
غالية
لو أن العذاب يمسك باليد لخنقته .
إذا توقف الكتاب والفلاسفة العرب عن استعادة تراثهم العظيم و دراسته ، ومعرفة مراميه ، جاء الفلاسفة في الغرب وأخذوا الكرة إلى ملعبهم ، وكلهم إعجاب بهذا التراث الذي مثّل في يوم من الأيام حضارة العرب والمسلمين التي كانت نبراساً لكل الأمم . قرأت مؤخراً دراسة مهمة جداً تحت عنوان ( نظرية الحب - صور الحب في الثقافة الإسلامية ) للفيلسوف الألماني الكبير ( يوهان كريستوف بورغيل )( نشرتها له مجلة فكر وفن )الألمانية نرى فيها هذا الاهتمام العظيم والأحترام الكبير لتلك الحضارة التي بهرت العالم في كل مراميها وإنجازاتها وهي دراسة طويلة من الصعب أخذها بالكامل ، ولكن سألتقط منها ما يلي :

( من مسلمات الأمور أن يكون القرآن والحديث النبوي وما نشأ عنهما من شريعة من أهم الأسس التي ترتكز عليها نظريات الحب في الإسلام كافة ، ويعثر المرء على جملة من التصورات الإسلامية بشأن الحب ، في المؤلف الفقهي والأخلاقي الشامل الموسوم { إحياء علوم الدين } وفي الكتاب المعروف { التبر المسبوك في نصيحة الملوك } اللذين دبجهما يراع أبي حامد الغزالي أكبر فقهاء الإسلام في العصر الوسيط ، وقد استشهد الغزالي في سياق حديثه لابن عباس مفاده : { خير هذه الأمة أكثرها نساء } ومن ثم يواصل : { فإن يسر الله مودة ورحمة لرجل اطمأن قلبه لامرأة والإ فيستحب له الاستبدال ، وإذا كان الغزالي على بينة من أن التناسل هو الهدف الأول ، وإلا أنه أيضاً ، يؤكد مع هذا ، على أن للجماع قيمة أخرى لا يستهان بها ، قيمة قائمة بحد ذاتها : الإحساس بالغبطة ، والابتهاج الناشئ عنه ، المنقطع النظير ، يذكر الإنسان بنعيم الفردوس .

ويتابع الغزالي : أنه يجب على العقلاء أن يكونوا رحماء للنساء ولا يظلموهن ، ولا يجوروا عليهن ، فإن المرأة أسيرة الرجل .

وينتقل الباحث الألماني للحديث عن الحب والعفة والعفة الآثمة فمثلاً : { راح الشاعر عمر بن أبي ربيعة يستميل قلوب النساء برقة ملحوظة ولطف مشهود .

بهذا المعنى كان عمر بن أبي ربيعة فعلاً أول شاعر غزلي في الإسلام ، والأمر الذي يتعين ملا حظته هو أن الشاعر كان يقطع الوعود لكل واحدة من النساء اللواتي شغفن قلبه - والبالغ عددهن 15 بحسب ماهو مبين في ديوانه بأن لا يهوى سواها ، فأسمعه يقول لليلى :

فلا تحسبي أني تمكثت عنكمو
ونفسي ترى من مكثها عنكم بدّا
ولا أن قلبي الدهر يسلى حياته
ولا رائم يوماً سوى ودكم ودّا
وكان عمر واثقاً من أنه بعهوده هذه يلبي ما تريد أن تسمعه محبوباته ، فهو يقول في قصيدة جاءت بلا أسم : نعم قد رضينا

وتحتم مغامرات عمر العاطفية إمكانية مخالطة الرجال للنساء ، وتمتعهم بحرية واسعة للتعارف واللقاء ، أي إنها تفترض وجود الحرية في عرفها الجاهلي في هذا المجال ، لكنه مع هذا كثيراً ما كان يعاتب ويلام على تصرفاته الوجدانية ، كما ينقل لنا كتاب { الأغاني } ، فقد ورد فيه أن أحد أبناء حمير قال : { إني لأطوف بالبيت ، فإذا بشيخ في الطواف ، فقيل لي : هذا عمر بن أبي ربيعة ، فقبضت على يده وقلت له : يا أبن أبي ربيعة ، فقال : ماتشاء ؟ قلت : أكل ما قلته في شعرك فعلته ؟ قال : إليك عني . قلت : أسألك بالله ، قال : نعم .. استغفر الله .

لكن ابن أبي ربيعة في قوله له آخر بأنه كان عفيفاً لم يرتكب فاحشة ، فيقول : والله ما أعلم أني ارتكبت فاحشة قط ، وكان أبي ربيعة يزعم بأنه { موكل بالجمال } ، وبحسب ما يرويه كتاب { الأغاني } فقد قالت إحدى الفتيات لحفيد من أحفاد عبد الله بن مصعب : { مررت بجدك وأنا داخلة منزله بفنائه ومعي دفتر ، فقال ماهذا معك ؟ ودعاني ، فجئته وقلت : شعر عمر ابن أبي ربيعة ، فقال : ويحك ! تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة ، إن لشعره موقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً ، لو كان شعر يسحر لكان هو ..} .

فإذا كان شعر ابن أبي ربيعة شعراً حسياً ، فالأجمل والأروع في التراث العربي ( الحب العذري ) إذ يقول الباحث الألماني عن هذا الحب : إنه الصدود والنأي فيه يكمن المحك الصادق في أواصر المحبة ومتانة لواعج الشوق والوداد ، يسمى هذا الحب عذرياً نسبة إلى قبيلة { عذرة } ، فهذه القبيلة كانت قد أشتهرت بنزوع أبنائها إلى هذه الصيغة من صيغ الحب ، ولأن عبارة عذرة تعني ( البكارة ) ، لذا لن يستطيع المرء البت بنحو أكيد فيما إذا كانت هذه القبيلة قد اكتسبت اسمها من اشتهار أبنائها بالحب العفيف ، فالشاعر الألماني المشهور هانيرش هاينه يقول : إن { عذرة } هي تلك القبيلة التي كان أبناؤها يلقون حتفهم حين يجبون } أو أن القبيلة استهرت بهذا النوع من الحب بسبب اسمها ، لعلها كانت تدين بالمسيحية قبل اعتناقها الإسلام ولابد من التأكيد هنا على أن العذريين بطبيعتهم لم يكونوا رجالاً غرباء عن حب الجسد ولا بشراً يجدون متعة في حب يعذب الذات ، ولا قوماً يتظاهرون بحب مأساوي ، فمن خلال النظرة السريع في مؤلفات أدبية تتحدث عن مشاهير الحب العذري ، يلمس المرء أن هذا الحب غالباً ما كان يتسم بعلاقات طبيعية في بداياته الأولى ، وأن ظروفاً خاصة من قبيل التفاوت في الأصول الأجتماعية ، كانت قد حالت دون استمراره وبلوغه النهاية السعيدة ، وبهذا المعنى ، فإن استحالة تحقق النهاية السعيدة هو الأمر الذي يتميز به الحب العذري ، وهو العامل الذي يستحق قريحة الشاعر على التنويه عن خلجات الفؤاده ، فبدلاً من النظر إلى واحدة أخرى ، يهيم العذري بالفتاة البعيدة المنال ، والمستحيلة ، ويعاهدها على الإخلاص لها مدى الحياة .

من هنا ، لا عجب أن يواصل الأوائل من شعراء الغزل العذري توددهم إلى المحبوبة حتى بعد إرغامها على الزواج من الرجل الذي اختارته لها العائلة ، وهم يهيمون بها معرضين حياتهم لشتى المخاطر في أغلب الأحيان ، فيطلب من الأسر المعنية أهدرت دماء الكثيرين منهم ، ومهما كان الحال ، فحب هؤلاء العذريين يدوم إلى أن تفارقهم الحياة ، لا بل هو يدوم حتى بعد أن يموتوا ، وهكذا كان هذا الحب يفتق شاعريتهم ، فيدبجون قصائد الحب العارم ما داموا أحياء .

وكان { غروبناوم } قد أشار إلى احتمال أن يكون الشاعر الروماني { سيكستوس بروبير تيوس } رائد هذا المنحى من الحب ، إلا أن على المرء أن يأخذ بالأعتبار أن البيئة الأجتماعية التي عاشفي كنفها هذا الشاعر اللاتيني كانت تختلف كلية عن البيئة التي احتضنت الأوائل من الشعراء العذريين ، على صعيد آخر ، فإذا كانت { سينتيا } تتمتع بقسط من الثقافة ، إلا أنها كانت متقلبة المزاج والنزوات - أي إننا هنا حيال بيئة كانت على شبه كبير بالبيئة التي شتنشر ظلالها في قصور الخلفاء في الحقب المتأخرة ، والتي شكلت حتى القرن التاسع عشر ، الخلفية الاجتماعية لشعر الحب في شبه القارة الهندية ، أما العرب الأوائل من المحبين العذريين ، فإنهم كانوا يمتازون ببراءة الطوية ونبل السجية .

ولكن ما أغراض الحب العذري يا ترى ؟

لقد أشار { غابريلي } في معرض حديثه عن الشاعر جميل الذي هام بحب بثينة ، الخصائص المميزة لهذا الشاعر فكتب قائلاً : { كان جميل أول شاعر يصور الحب على أنه قدر تكتبه قوى السماء على الإنسان ، وإن هذا الحب يظل يرافقه طلية حياته ، لا بل وحتى بعد أن تفارقه الحياة ، وبصفته عذرياً ، أكد جميل على عفاف الحب وسمو هذا الشعور ، فهو يكتم سر صبابة الحب وبتاريح الهوى ومستعد للتضحية بنفسه إكراماً للحبيبة } .

بهذا المعنى ، فإن الشاعر العذري أبعد ما يكون عن المداعبات والمعاكسات التي اشتهر بها عمر بن أبي ربيعة ، ومن سواه من أولئك الشعراء الذين فتحوا قلوبهم للحب المتعارف عليه عند عموم الناس وفي المدن المتحضرة .

وحتى الحقب المتأخرة ، كان الحب العذري يزداد انتشاراً ، وحين يمعن المرء النظر في انتشار أغراض الشعر العذري ، فإنه يلاحظ لا محالة أن هذه الأغراض قد وجدت امتدادها في الشعر الغنائي الأوروبي ، وهما كان كانت الحال ، والأمر الواضح هو أن قصائد الحب العربية كانت قد باتت تستخدم هذه الأغراض كقوالب يراد منها تقليد الأولين فقط ، وليس التعبير عن مشاعر جياشة تعتمل في الفؤاد ، فإذا بهذا الشعر قد فقد حرارة لوعته ،ولم يعد يعبر عن روح ثملت بجرعة من كأس حب عفيف ، ولا عن مكابدة يعيشها الشاعر بكل أحاسيسه ومشاعره .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق