بَيْنَ الزَّهْو و الذُّهُول لَمَحتُني مُنكسرة في مَرَايا الأحداق ، لاريب أن لَحْظَات الفِرَاق مَريرة . صَلادةُ الأرضِ اِنعكست علي ادْراكي .
لا أرى أحداً الا أطيافا لأناس أول مرةِ أراهم بحياتي ، ينسابون كماءِ النِّيلِ الدَّافق في ليلةِ صَيف .
خُيِّلَ إِليّ أنّ النِّيلَ أُعْلِن الحِداد و دعا أَقاليمُه العُليا و السُّفلى لتقديم واجب العَزَاء و المُوَاسَاة.
وَوَدِتُّ لَوْ قُلت لهم أيها المَجَانِين اتْرُكُوه لا تفسدوا حياتي . دَعْوه يرقد بسلام بين أحضاني ،هو لي وحدي
وحدي أتَكَفُّل به كان صُراخي مُلثَّما، ودَمْعي مُكْفَهِرا ّ٬ يأبى الهُطول ، وكأن أجْفَانِي أمسكت، فعظم الألم.
رَغْبَتي أن أغرس أظافري بلحمهم شديدة،
لا انكرها كي لا يفرقوا بيني وبينه.
تلك القطة التي تَحَوَّلتُ إليها وقْتئِذٍ
لم اعهدها كانت نواياها طيبة لم تَحِلّ دون أن يَحْملُوه بعيداً ، سقطتُ أَمَام السِّيَاج الحَديديّ بين ضَرِيح سيدي ...... و سُلم المسجد غير مُصدقةً ذَاك الكابوس .
قسماتُ وَجْهي تَخْلو من أَيّ شُعور
خُيِّلَ لي أني أراه لكنه ذات الصغير بالمدرسة .
يظهر و يختفي من شدة الارهاق و الوجع لم أعد أميز الوجوه ؛ لم أصمد كثيرا فقدتُ الْوعيّ و الاحساس ،
لا ادري كم طال بي الحال و مضت الأيام .
تحت قيظ شمس النهار خرجت من كهفي متوسدة كَومة من قَشّ الأرز
في باحَة الدّار الخَلفية بين أشجار الليمون و التوت حيث أجد ملاذي ،
جاءت لي جدتي قائلة:
ألا تخشين الثعابين بنيتي ؟
جاوبتها بضيق : بالله عليك جدتي إنها ثعابين ماء و هي ليست سامة اطمئني جدتي .
لمحت الصغير قادما من بعيد
متسائلا : هل أنت بخير ؟!
رددت : أجل انا بخير ، هل هذه القطط تحت ماكينة الأرز خَاصتِك ؟
أجل لا تلمسها و إلا......
رددت : و إلا ... قتلتك .
هو ابن السيدة فاطمة جارتنا ، تزوجت بسفير فلسطيني و سافرت ، عاشت معه بدولة كينيا ثم عادت لببيت أخيها و زوجه الذين ماتا دون وريث لهما .
قال : أود أن أكون صديقا لك !! هل تقبلين صداقتي ؟! ...
قلت : لا أصادق الأولاد ... بعد محمد لن يكون لي أصدقاء .
ألهذا الحد تحبين محمد ؟!
أجل أحبه و الأمر لا يخصك و لن اصادق أحدا حتى يعود ... من الآن عليك أن تبتعد عني و لا تعد و إلا هشمت أنفك ... دعني وحدي .
أريدك لي صديقة ... لن أتركك وحيدة شئت أم أبيت .
كان يلازمني كظلي من بعيد و يراقبني و كنت أتجاهله أو لا أظهر له أني أراه .
أتسلل خفية وقت الظهيرة من جدتي فمقبرة محمد ليست ببعيدة بيني و بينها خمسون مترا تتوسط المدرسة و البيت .
زرعت عند المقبرة نبتة صبار و بعضا من الريحان ، كنت ارعاها يوميا ، أجلس جانب القبر ابدأ بترتيل القرآن ،
كنت اسمع محمد يهمس لي أعيدي سورة الإنسان (هل أتى على الإنسان حين من الدهر ........) ، كنت أشعر بالسكينة تملأ أرجاء المكان .
مر يوم و أنا على هذه الحال ، أستاذي و شيخي الجليل ، قال : ماذا تفعلين بنيتي في هذا الوقت ؟ ستقتلك الشمس ؟! قلت : أقرأ القرآن .
و لكن عليك بنيتي الذهاب للبيت .
سأخبر يوسف في صلاة العصر بأنك تأتين المقابر وحدك .
احضري للاذاعة المدرسية غدا .
إن شاء الله شيخنا .
و بيني و بين نفسي ضربت بكلامه عرض الحائط .
حملت حقيبتي الملقاة بجانب المقبرة و رجعت للبيت ، توضأت و صليت الظهر ثم بدأت المطالعة .
كم أعشق القصص؟!
بدأت بقصة علاء الدين - كانت من تأليف كامل كيلاني المقررة في الصف الخامس الابتدائي ، لم أغلق القصة حتى أتممت قراءتها ، عدت إلى الحديقة و استسلمت ليقظة الشمس و غفوت .
قال لي محمد : اشتقت اليك .
بنيتي من يذهب لا يعود .
و لكنك عدت أنا أراك ... نعم عدت .
عليك تقبل الأمر و الرضا بقضاء الله
واجهي مخاوفك بنيتي و استعدي دوما للفراق .
الصغير ليس بسيء فقط أعطه فرصة للأخوة .
لن تقضي حياتك وحيدة و لن أعود مرة أخرى .
سأحبه و أتعلق به و أيضا سيأخذه مني ، الله يعاقبني في من أحب .
أخذك مني و أخذ أبي ، لا أحتمل المزيد من الألم ، ماعدت أحتمل المزيد .
يا بنيتي الله سبحانه و تعالى لا يعاقب البشر بالموت ، لكنها سنته في خلقه ، تذكري مأدبتك بين يديك ، واظبي عليها ، فقط ضعي الفواصل و النقاط لتستمر الحياة ، أنت تنبضين بالمحبة و تزهرين بأي مكان ،
وازني بين جميع أمورك ، فقط ثقي بالله .
رغم حداثة سنك ما زال أمامك عمر طويل ، تذكري أنا دائما جانبك .
محمد .
لمحت ذاك الصغير ذا الأحد عشر عاما .
لماذا جئت الآن لقد ذهب ؟
_ من ذهب ؟ هل تسمحين لي بالجلوس ؟ .
لم أرد ؟! .
_ عديني أنك لن تغضبي ثانية .
سأغضب كثيرا و هذه طبيعتي ، عليك تقبلها .
_ لا بأس أنت فعلا مجنونة ، لكن أسامحك .
لا بأس أيها الصغير ... هيا بنا .
_ لأين ؟
أنت تسأل كثيرا ، تعوّد ألا أجيب على سذاجة أسئلتك .
_ أنت تأخذينا للمقابر .
أجل : سأرميك داخل أي من تلك المقابر المفتوحة ...
جانب الضريح .
_ أنت مخيفة جدا ... سأعود .
يالك من أحمق و جبان ... احمل معي هذا القدر من الماء .
_ لماذا الماء؟!
كي أملس التراب عليك بعد دفنك في المقبرة .
كان يتفحص ملامحي الجافة و الرعب يتملكه حتى وجدني أردد : السلام عليكم يا عباد الله الصالحين .
وصلنا المقبرة ، كان يحيط بها الصبار و الريحان .
_ يا الهي لقد كبرت ما أجملها ؟! .
هل لك أن تصمت قليلا .
_ هل تسمحي لي بغصن ريحان .
لا بأس بواحد .
السلام عليك جدي ... محمد حبيبي و صديقي و معلمي .
_ هل محمد هو جدك ؟!
اجل
قرأنا الفاتحة و دعونا للجميع بالرحمة .
الان اعرفك على صديقي الصغير جدي ، له نصيب من اسمك .
كان في قرارة نفسي أنه يعلم و يبتسم و يوصيني خيرا بصديقي .
مضينا و مضى العمر ، كبرنا و صديقي الذي يكبرني بالحلم مازال صغيرا كما عهدته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق