أبحث عن موضوع

السبت، 26 نوفمبر 2016

صهيل الشرفات ( قصة قصيرة ) ................. بقلم : عادل المعموري // العراق


أرجعَ رأسه إلى الوراء ،ملامسا الجدار الصدئ ،يسحبُ نفسا طويلا من سيجارته ،عيناه تعانقان شيئا ما ،في نقطة بعيدة ، ،تبحثان بين النجوم البعيدة عن طيف يبدد ركام أثقاله ،يفركَ جبينه المتغضن بطرف أصابعه المتسخة ، يهرش بشعره الطويل ،يرمق عقب السيجارة وهو يشتعل بوهج الجمرة ،يرميه وينهض يجرجر خطوات بطيئة، عيناه ثابتتان ، يجلب انتباهه شرفة مضاءة في البيت المقابل ، يغمرها ضوء ابيض ساطع ،لمح عند الشرفة جسد امرأة نصف عار،بياض جسدها يلتمع وسط العتمة التي شملت المكان برمته ، يتوقّف في مكانه منبهرا ،يضيّق مابين عينيه ،يمعن النظر في شاخص المرأة التي تقبع خلف الشرفة ،مكث ينظر نحوها باهتمام
،طوال بقاءه،لم يلحظها تتحرك ،كان وجهها الى الجانب كأنها تتحدث مع شخص غير مرئي ،أو هكذا ُيخيل إليه ،لم يكن واثقا أن هذه الشرفة لم تكن مضاءة من قبل ،الركن الذي يسكنه لسا عات طويلة جعله يعرف الأمكنة شبرا شبرا ، كانت مقفلة ومظلمة طوال الوقت ليلا ونهارا ،تساءل مع نفسه :هل هم ساكنون جدد،أم أن أصحابه كانوا مسافرين وعادوا إليه بعد غياب ،؟وتلك المرأة لِمَ تقف هكذا عند الشرفة ولا تبرحها؟ ،وقوفها يثير الريبة في داخله ،وجهها يأخذ وضعا جهة اليسار نحو نقطة ما بداخل البيت ، تراجع إلى الوراء وهو يتلمس جيب سترته الخارجي ،أقعى على الأرض، مادا رجليه بحذائه المغبر يكشف عن ساقين نحيلين بلا جوارب ، تشاغلت
بفتح كيس قطعة شوكلاته ،كان قد نسيها في حيب سترته ،تسلقت في خاطرة صورة الفتاة الجميلة التي منحته تلك القطعة الشهية ،
سلمته الشوكلا مع ابتسامة جميلة ،راح يزدردها بهدوء ، يدورها بفمه بشهية، فيما كانت عيناه تخترقان العتمة ازاء الشرفة التي ملكت عليه حواسه، . لمّا انتصف الليل أزاح عنه غطاءه ،نهض تجاه الجدار الخلفي ،تبوّل على الجدار ،وعاد ليتدثر ببطانيته الكالحة ،
في الليلة التالية كان يفترش الأرض ويرفع طرف بطانيته ليغطي نصف وجهه،ثم يعود ليكشفه ..هذه المرة صفعهُ هواء بارد هبّ عليه من فراغ البناية المهدّمة التي على يساره ،اعتاد أ ن ينام في زاوية جدارين قائمين ، يضع فوق زاويتيهما قطعة خشب مقوى كسقف يظلله ،انطفإت الإنارة واظلمت الشرفة ،أشاح بوجهه عنها لينظر إلى البيوت المتباعدة ، التي شملها ظلام كثيف بسبب إنطفاء الإنارة عن المكان برمته ،
يركن رأسه لصق الجدار ويتعكز على كوع يسراه، يغمض عينيه وهو يحاول أن يجلب النوم إليه بعد يوم شاق من التجول في الشوارع والساحات العامة ،مرت بخاطره صور سريعة لحياته الماضية ،
عادت تلك الحادثة الأليمة التي ماأنفك يحاولُ الهروب منها ،تذكّر الصاروخ الأمريكي الذي سقط على سيارته وهو يهم بالهروب مع عائلته من جراءالقصف الذي طال كل مكان ، فقد اتفق مع عائلته على النزوح نحو الشرق نحو (ديالى ) هرباً نار الحرب التي شنها الحلَفاء على بلده ،الطائرة كانت دقيقة التصويب في اطلاق الصاروخ نحو سيارته التي كانت قريبة من سيارة عسكرية هي الأخرى تروم الهروب ،فقدَ على إثرها زوجته وأمه وثلاثة من أطفاله ،لم يصحَ من غيبوبته إلاّ بعد شهرين.. عندما وجد نفسه في مستشفى الأمراض النفسية ،لم يبقَ في المشفى سوى ثلاثة أشهرواستطاع الهروب مع الذين هربوا عندما ُفتحّت الأبواب لهم بعد فوضى سقوط الحكومة، وخلا المشفى من منتسبيه ،َعلى وجهه وقد تنكّر له الأقارب و الأصدقاء ،
ظل وحيدا تتقاذفه الحواري والطرقات ..وهج الضوء البعيد يلامس أجفانه المغلقة ،يفتحهما للنصف ،ثم يفتح عينيه لينظر نحو الشرفة..( آهِِ من تلك المراة التي تقف وراء ستارتها المخملية الصفراء )قالها واعتدلَ في جلسته وتقرفص تحت بطانيته ،شرعَ ينظر نحو الشرفة البعيدة ،المرأة التي كانت خلف الشرفة الآن يراها بوضوح تحت وهج المصباح الأبيض ،كعادتها كانت تنظر إلى يسارها ،أغمض عينيه محاولا ترك كوابيسه تتفرغ فوق الجدران ،انتابته رغبة بالتحرر من النوم ،فتح عينيه
رآها هذه المرة تعتدل في وقفتها ،وتوميء نحوه بيديها ،ربضّ في مكانه مشدوهاً ،يحدّق بها ،أشارَ لها باصبعه نحو صدره،
أو مأت له برأسها بالايجاب وشعرها الناعم يهتز مسدِلا بعض خصلاته على جبينها ، نهضَ واقفا ،انتعل حذاءه على عجل،تعثّر بطرف البطانية ،استقام وسوّى من أزرار بنطلونه ،خطا إلى الامام ،أمسى قاب قوسين من الجدار الفاصل ، رفع رأسه إلى الأعلى فاغرا فاه ، وصاح بها مبهورا :
_سآتيكِ ..انتظريني ؟
تسلقَ الجدار بخفة ورمى بنفسه في الجهة المفابلة ..ارتمى فوق الارض الندية حيث الأعشاب والحشائش وأصص الورود المنتصبة حذاء السور، طرقَ الباب ،لم يسمع أحدا يقترب .كرّر الطرق مرتين بقوة ،لم يفتح الباب ،استدارَ من خلف البيت وسط دثار العتمة مسترشدا ببصيص نور يرشح من عمود الكهرباء الخارجي ،وجد باباً خلفياً يتصل بالمطبخ ،ركله بقوة فانفتح ،يتسلل عابراً السلم المفضي إلى الطابق العلوي ،يصل إلى غرفتها ،يطرق الباب ،يهمسُ لها ..لم يسمع شيئا ،أعا دالطرق بصوت أشد ..مكث واقفا مرهف السمع عله يسمع لها صوتا ،بعد قليل أعاد عليها القول ..لم يسمع جوابا
،
..ركلَ الباب بقوة لم يفتح ..تراجع للوراء ورمى بثقله عليه ،تحرّر الباب الخشبي من الجدار وانفتح ..القى عليها نظرة غاضبة وهو يلهث ،صاحَ بها ،لم تتحرك كانت تنظر إليه مبتسمة..فوجأ أنها لم تكن لوحدها فقد وجد نساءا غيرها يقفن مبتسمات يرتدين ألوانا من القماش الزاهي ،تقدّم منها وكاد يلاميسها ،مدً أصابعه نحوها.. يتحسّس وجهها ورقبتها وصدرها ، يستدير واقفا عند حافة الشرفة ..يستل سيجارة من علبة في جيبه ،يشعلها ثم ينفجر ضاحكا ،كاشفا عن أسنان سوداء تهدّمَ البعض منها ، كان السائل المنسل من فتحتي أنفه يلامس شعيرت شواربه ،يمسح مخاطه بكمّه، ثمّ و بحركة نزقة، قام بركلها من الخلف بكلِّ قوّته.. ترنّحت قليلا وسقطت على وجهها فوق رتاج الشرفة السفلي ..سقطت باروكة الشعر وتدحرّجَ الرأس عند حافة الجدار ..الرأس الأصلع للمراة الجميلة ،كان يحتفظ بالابتسامة نفسها ...عندما رآها أول مرّة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق