أبحث عن موضوع

الخميس، 3 مارس 2016

قراءة للدكتور أنور غني الموسوي في الصورة الشعرية في الشعر السردي عند رياض الفتلاوي



.
للشاعر العراقي رياض الفتلاوي قصائد منشورة في مجلة تجديد الأدبية المتخصصة بقصيدة النثر النموذجية المكتوبة باسلوب السرد التعبيري و بالنثر وشعرية التي تظهر بشكل جمل و فقرات . وفي هذه الشكل من الكتابة تتخلى الايقاعية عن مركزيتها التي تظهر بها في الشعر النثري الحر و القصيدة الحرة لتحل محلها اللاايقاعية النثرية ، كما ان الصورة الشعرية تنتقل من منطقة الحامل للنص و الممثل لشعريته و لغته لتكون محمولا فيه وجزء من ابهاره و شعريته، و هذه القضية من دقائق الامور التي تميز قصيدة النثر عن القصيدة الحرة .
البحث في تجليات و وجودات الصورة الشعرية في الشعر السردي و السردية التعبيرية يقع ضمن مجال العوامل التعبيرية العميقة ، و لا ريب ان كثيرا من الفرضيات قد سقطت و كثير من المسلمات قد اهتزت و الان صار توهج اللغة المتمثل بايحائتها الاستثنائية و رمزيتها الاستثنائية و كثافة العبارة و تشظي النص هي الصفة الأهم و المميز الاهم للشعر كما انه صار من المتسالم عالميا ان الشعر السردي هو المميز الاهم لقصيدة النثر ، وهو ما يميزها فعلا عن القصيدة الحرة و ان كتبت بغير وزن .
ان الصورة الشعرية في الشعر الصوري و القصيدة الايقاعية ليست فقط مركزية و انما ايضا هي التي تدلل على شعرية النص و هي المعرّفة له ، لكن الصورة الشعرية في الشعر السردي و قصيدة النثر تكون موجودة بوضع مختلف بحيث تكون جزء من شعريته . و بعبارة ثانية بينما تكون الصورة الشعرية و الإيقاع هي شعرية القصيدة الحرة فانهما جزء من شعرية قصيدة النثر . فتحافظ قصيدة النثر على توهج لغتها و على ايحائتها و رمزيتها و على صورتها الشعرية و ايقاعية عميقة من دون ظهور نصي لكل ذلك ، و انما النصية تكون للنثر وشعرية و للسردية التعبيرية و الشعر السردي .
هنا سنتناول قصيدة لرياض الفتلاوي منشورة في مجلة تجديد كتبت بالشعر السردي و النثروشعرية العاليةهي قصيدة ( لغز)
( لغز )
دعنا نمارس أنا وأنت لعبة الفضاء أجلس أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم نجمعها بصندوق أشبه بحلم قديم أتذكره حين كنت في زاوية بعيدة عن عالم اللامركزية حيث الوجود زرع بذرتي كسنبلة في حقل البراءة. دعنا نسير بعيدا عن طقوسنا حتى نعرف ما تبقى في الدروب من معابد ونترك لعبتنا الشرقية في مستنقع المقابر . تعال أرسمك على لوحة أجدادي وترسمني على ما تحمل من بقايا الواح خاصتك لعلنا نجد في الرسم ما خبأته الآيات المركونة على رف الجهل دعنا نفك الرموز التي غلقت الأبواب في قصر الساحرة التي علمتنا طقوس الكفر . لن تخونني الذاكرة حين كنت اتعلم ركوب البحار رأيت حورية في وادي العجب تتكلم بألغاز مبهمة حفظت منها ثلاثة نجوم كبيرة تناسلت منها أحد عشر كوكبا تمسك مجرتنا وما زلت أسير على فك الالغاز المتبقية في نهاية الغروب ، هل يبقى ليلنا كما هو أم تراه يتبعثر في اللغز ؟.ما رأيك أن نمارس لعبة الحمام حين يحمل بمنقاره غصن الزيتون حتى ينتهي اللغز ونحن بعيدون عن المقابر ؟
• مجلة تجديد 26\2\2016
ان الصورة الشعرية كعامل تعبيري عميق و مبهر ليست شيئا جديدا بالكامل عن تجرية الإنسانية و وعيها و انما هي حالة توهج و ابراز لما هو موجود فعلا ، و الابهار الذي يحققه النص الشعري ليس بالابتكار الصوري فحسب لان ذلك سيزول مع الوقت ،و انما يكمن فعلا في التذكير بجوانب من الوعي عميقة . ان من القوانين الثابتة في الاستجابة و التلقي العقلي الواعي للأشياء و المشاهد و المعارف انها تبهر و تدهش بالأمور العميقة و كلما ازداد عمق المشهد او المعرفة المتلقاة ازداد مقدار الانبهار و استمر اكثر طويلا ( الموسوي ؛ ميكانزما الاستجابة الجمالية 2015) .
في شعر رياض الفتلاوي ابحار عميق و فذ ، يلتقط الدرر و يقتنص الجمال العميق في بحار الوعي و الإنسانية . و سنتتبع دلائل و صور تلك الالتقاطات و الاقتناصات العميقة الما وراء نصية . و سنعتمد هنا لغة واقعية و موضوعية و لا نعتمد الا الإشارات و الدلائل الواقعية ، و ذلك ليس فقط للابتعاد عن النقد الادعائي و الانطباعي ،و انما ذلك يقع في طريق سعينا لتكامل نظرية النقد التعبيري و التقدم نحو النقد العلمي .
لقد اوضحنا في كتابنا التعبير الادبي (الموسوي2016) ان في النص ثنائية بارزة هي المعادل التعبيري النصي و العامل التعبيري العميق و بالقدر الذي تبرز فيه الشعرية في التوظيفات و التفنن الاسلوبي في المعادلات التعبيرية كالسرد التعبيري و وقعنة للخيال و تعدد الأصوات فان روح الشعرية و جوهرها الخام في العوامل التعبيرية العميق . ان ما يفعله الشاعر ليس فقط رؤية مختلفة للأشياء و لا تلاعب بالكلمات كما ادعى اهل الحداثة و انما هو الاطلاع العميق على حقائق الأمور و التعرف على الأشياء في عوالم عميقة ثم يقتنص النظام و العلاقة الاستثنائية بينها و يطرحها و يبرزها لنا بمعادل نصي . هنا سنتناول الصور الشعرية باعتبارها عوامل شعرية عميقة قد اطلع عليها و تعرف على ملامحها و ابرزها لنا الشاعر رياض الفتلاوي . تلك العوامل التي تختلف من حيث الكيف كما انها تختلف من حيث العمق و كلما ازدادت عمقا في الوعي الإنساني فأنها تكون اكثر توهجا و اكثر ابهارا.
في قصيدة ( لعز) نجد هذا المقطع النثر وشعري بالسرد التعبيري :
(دعنا نمارس أنا وأنت لعبة الفضاء أجلس أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم نجمعها بصندوق أشبه بحلم قديم أتذكره حين كنت في زاوية بعيدة عن عالم اللامركزية حيث الوجود زرع بذرتي كسنبلة في حقل البراءة. )
ان تعبئة العبارات بطاقات ايحائية و رمزية و جعلها عاكسة لرسائل متعددة من الأمور الظاهرة هنا، فأول ما يصدم الوعي هو تلك الدعوة الواعية و الجدية و الناضجة الى ماذا ؟ الى ( اللعب ) ، هنا يحصل كسر للمنطقية و ينتقل الذهن الى مجال الإيحاء و الدلالة غير المباشرة ، و يتحول خط الرسالة الى مجال اخر . من المهم جدا و كما اوضحنا في مناسبة سبقة ان ما يحفز و يثير الاستجابة الشعورية و الإقرار بالعمل الادبي او الفني هو ( التنقل السريع و اللامنطقي ) بين مجالات المعنى و تواجد الكيانات الذهنية ، حيث ان المحادثة العادية قائمة على تداولية و تعاونية ، و حينما يحصل قفز و تنقل غير منطقي تختل تلك التداولية ، وهذا الامر كما يحصل بالانزياح المفرداتي فانه يحصل في النظام الكلامي او التجاورات البيانية . ما حصل هنا قفز و كسر لمنطقية النضج و الجدية و التحول الى مجال اللعب ، و هو امر مع تأجيل البوح يحقق نظاما دلاليا مفتوحا و يحقق نظاما تأويليا يعتمد على خلفية القارئ الاجتماعية و السياسية .
من خلال القراءة الأكثر عمقا للنص نجد ان كلمة او مفهوم او حقيقة ( لعبة ) كان لها بعدان او تأريخان تأريخ خارجي أراد الشاعر الإشارة اليه وهو ما يجري في الواقع و ما يحركه في حياة و بيئة و امة الشاعر ، و التأريخ الثاني التأريخ النصي وهو في قبال التأريخ الخارجي ، وهذا ما اسميناه ( الرمزية النصية ) في قبال الرمزية الخارجية لذلك الرمز .
لقد هيمنة اللعبية و اللغزية على النص و صارت جميع وحداته و مفرداته تتلون بمزاجها و اشيائها ( أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم \ نجمعها بصندوق أشبه بحلم قديم \ زاوية بعيدة عن عالم اللامركزية \ حقل البراءة. \ ونترك لعبتنا الشرقية في مستنقع المقابر . \ دعنا نفك الرموز \ قصر الساحرة \ ركوب البحار \ حورية في وادي العجب \ بألغاز مبهمة \ فك الالغاز المتبقية \ يتبعثر في اللغز \ نمارس لعبة الحمام \حتى ينتهي اللغز )
و من الواضح و كما هو معهود في كتابات رياض الفتلاوي فانه يعتمد الرمزية القريبة و يهتم بالقارئ و لا يجعل نصه مغلقا او يغرقه بالرمزية العالية كما عند البعض مع الأسف ، و تكون رسالته واضحة مع توهج اللغة و عبارات النص وهذا ادب فذ ، اذ تبرز رسالة النص في اكثر من موضع فيه لكنها تتجلى في ( عبارة ( ونترك لعبتنا الشرقية في مستنقع المقابر ) . و عبارة (هل يبقى ليلنا كما هو أم تراه يتبعثر في اللغز ؟) و عبارة ( ما رأيك أن نمارس لعبة الحمام حين يحمل بمنقاره غصن الزيتون حتى ينتهي اللغز ونحن بعيدون عن المقابر ؟) )
تتميز الصورة الشعرية في الشعر السردي المكتوب بأسلوب السرد التعبيري بالعذوبة ، و نقصد بالعذوبة هو تقريب الصورة و عدم التحليق بها كما في الشعر الايقاعي الحر . حيث ان الشاعر يعمد الى وقعنة الخيال ، أي انه يظهر الصورة و كأنها واقع ، وهذه الحالة تحتاج الى ( لغة متموجة ) و التي لا تتوفر بسهولة الا في السرد التعبيري .
ففي مقطع ( دعنا نمارس أنا وأنت لعبة الفضاء أجلس أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم) نجد العبارة بدأت بلغة واقعية و يومية ( دعنا نمارس انا و انت ) ثم أدخلت الخيال فيها ( لعبة الفضاء ) ثم عادت الى الواقعية ( اجلي اعد ) ثم رجعت الى المجاز و الخال ( اعد زقزقة العصافير ) ، هكذا طرحت الصورة الشعرية و خصوصا صورة (أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم ) في نظام و سياق سردي قريب ، فصار قريبا و عذبا .
و هكذا نجد الصورة تتصف بالعذوبة و القرب بفعل اللغة المتموجة في عبارة
( نجمعها بصندوق أشبه بحلم قديم أتذكره حين كنت في زاوية بعيدة عن عالم اللامركزية حيث الوجود زرع بذرتي كسنبلة في حقل البراءة. )
اذ نلاحظ ان التركيب و الجمل تنتقل من مقطع شديد الواقعية الى مقطع مجازي و خيالي وهكذا بالتناوب محققا لغة متموجة من حيث القرب و البعد و المنطقية و اللا منطقية و الواقعية و الخيال .
و أيضا لغة متموجة عذبة في عبارة
( لن تخونني الذاكرة حين كنت اتعلم ركوب البحار رأيت حورية في وادي العجب تتكلم بألغاز مبهمة )
اننا نجزم بعد استقراء و فحص و تجريب متكرر انّ اللغة المتموجة بين المنطقية و الرمزية و الواقعية و الخيالية تنتج نصا عذبا . و هذه التجريبية و التوقعية و الثبوت من سمات المعرفة العلمية و يمكننا ان نعد هذه الحقيقة احد القواعد العلمية في الأدب و من عناصر الأدب العلمي .
و في أسلوب او اطلاع شعري لرياض الفتوي نجد الشعور القوي بالاشياء ، فتأتي صوره الشعرية مفعمة بالصدق و الاخلاص و نافذة عميقا قي التجربة الانسانية .
يقول الشاعر
(دعنا نمارس أنا وأنت لعبة الفضاء أجلس أعد زقزقة العصافير وأنت تعد الغيوم نجمعها بصندوق أشبه بحلم قديم أتذكره حين كنت في زاوية بعيدة عن عالم اللامركزية حيث الوجود زرع بذرتي كسنبلة في حقل البراءة. )
في هذا المقطع تتجلى لغة الخلاص بالاتجاه نحو الحلم و عالم البراءة و الذكرى ، و طلب ذلك العالم و لو بصيغة لعبة و تخيل و افتراض و جاءت المفردات التعبيرية الانثيالية المتوافقة مع هذا الجو النصي بعبارة ( زقزقة العصافير \ و عد الغيوم \ و صندوق ) ان الشعور العميق بالاشياء و دمجها في لغة البيان و الصور المركبة ليس امرا سهلا ، و لطالما يكون فيه اخلال من جهة عدم المناسبة سواء بالابتعاد عنه الى الاعلى او الاسفل فلا تكون انسيابية و تناسقية انثيالية و تجليات اللاوعي ، وهذا الذي نتكلم عنه يفهمه الكتاب و يحس به القراء ، اذ لا بد من شبَه و محاكاة في العبارات و المفردات التي تتكون منها الصور و الرسالة و الخطاب المضمن و الواقع خلقها و المحمول في داخلها الرمزي .
ثم يتجه الشاعر الى رسالة انسانية و كونية تتجاوز الاختلافات كافة و الرجوع الى الوحدة و الجوهر فيقول :
( دعنا نسير بعيدا عن طقوسنا حتى نعرف ما تبقى في الدروب من معابد ونترك لعبتنا الشرقية في مستنقع المقابر . تعال أرسمك على لوحة أجدادي وترسمني على ما تحمل من بقايا الواح خاصتك لعلنا نجد في الرسم ما خبأته الآيات المركونة على رف الجهل دعنا نفك الرموز التي غلقت الأبواب في قصر الساحرة التي علمتنا طقوس الكفر . )
و لقد نجح ايضا الشاعر هنا في توظيفاته حيث ان المناسبة عالية بين الرسالة و الخطاب الخلفي و المختارات الصورية ( فنسير بعيدا عن الطقوس \ ما تبقى في الدروب من معابد \ نترك لعبتنا الشرقية في مستنقع المقابر \ أرسمك على لوحة أجدادي \ وترسمني على ما تحمل من بقايا الواح خاصتك \ رف الجهل \ دعنا نفك الرموز \ غلقت الأبواب في قصر الساحرة \ علمتنا طقوس الكفر )
من الواضح طغيان صوت التقارب و صوت الرفض لكل اسباب الاختلاف و البحث عن طريف الخلاص و الخروج من مستنقع الموت و جاءت مفردات النص و اسناداته و جمله متناسقة و معبرة عن المزاج العام للنص و رسالته و خطابه .
هكذا تتمظهر الصور الشعرية العميقة في النص السردي التعبيري و في الشعر السردي ، رقيقة عذبة و في ذات الوقت متوهجة و حية ، وهذا ما نجده في باقي نصوص رياض الفتلاوي و نصوص شعراء الشرع السردي و السردية التعبيرية في مجموعة تجديد و مجلة تجديد ما يعكس اهمية هذا الشكل و تلك التجربة .
.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق