أنا يا رب في الحياة ملاك
كيف يحيا الملاك بين الكلاب ؟
أنت أوهبتني الحياة عذابا
ثم جاءوا بما يزيد عذابي !!
منذ أن جئت للحياة سجين
في حضوري فكيف يبدو غيابي ؟
الألم كان المسبب لهذه الثلاثيات لذا كان التشاؤم هو المتسيد على الذات الشاعرة التي صورت نفسها ملاكا بين كلاب وهو أشد حالات اليأس التي سيطرت على الشاعر وهو أمر قد يؤخذ عليه ، مما ولد عتابا شديدا ناجى به ربه مفاده أنه خلق للعذاب ، ما يحيط بالشاعر من مؤثرات حياتية أظهرت مكنوناته ، و كيف الاستفهامية هي مصدر الأسئلة بطريقة العتاب .
كيف يا رب يستقيم لئيم ؟
ويداس البسيط وهو عظيم
أتراني إذا رحلت وحيدا
سوف تحيا العظام وهي رميم
أم ترى سوف يسكر وغد
من دمائي وينعق الليل بوم !
ليس من العدل أن يتسيد اللئيم ويسحق البسيط وهو عظيم !
همزة الاستفهام في أتراني ... مبعث شك عند الشاعر رغم إيمان الشاعر بالحقيقية بأن الله يحيي العظام ، وسبب هذا الإحباط دواعي المؤثرات التي أحاطت به ،،، هو بحد ذاته تنزيه للذات الشاعرة ودعوة لأن لا يسود إلا العدل والسلام وهو أمر مثالي من الصعب جدا تحقيقيه في زمن الانهيارات والفوضى .
كيف يارب في رحابك عدل ؟
وحياة جريمة ثم قتل
يعتلي الذئب قصره في نعيم
ويكافى على المذابح نذل
كيف أعطيت سيدا شهوات
وعلى العبد من خناقك حبل ؟
التساؤلات تزداد حدة وبعدا فأين العدل من القتل ؟ ثم كيف يعتلي الفاسد والمتسلط على زمام الأمور ويتيه الذي يستحق الحياة .... أسئلة صدرت من واقع مؤلم أحاط بالشاعر فما كان منه سوى أن يخاطب الله بلغة العتاب نتيجة ما مر به من ألم وأوجاع وهي طريقة فنية مالت للطلب والدعاء بصيغة العتاب .
إن أكن شاعرا فذاك لأني
قبل أن أعتلي الوجود بفني
لي أم حزينة قبل خلقي
أنجبت قصتي ولوعة حزني
فاستدار العذاب حولي خيالا
وأناشيد في شفاه المغني
ليس ذنبه أنه شاعر فهو لم يولد شاعرا رغم أنه أوعز شاعريته لفنه وتميزه في عالم كان مقدرا له، ثم جزء من سرد لعذاباته منذ طفولته حتى صار العذاب جزءا لا يتجزأ من حياته .
أنت يا رب من أدار الوجودا
ثم قسمت سادة وعبيدا
ثم زاد الخراب حول خراب
ومنحت القصور تلك القرودا
ثم يأتي محاسب لي حتى
صرت في عالم الصراع شريدا
أنت من خلقت الخلق وقسمت العباد والأرزاق لتكون القصور للأوغاد القرود .... ثم أحاسب فما بقي سوى الصراع الذي أعيشه ، تساؤلات تبعث الدهشة تحتاج وقفة طويلة ، غير أننا نؤمن أن الذات الشاعرة كانت منهمكة ومتعبة جدا مما ولد تضاربا قويا يدعونا للتأمل في مسألة العدل الإلهي التي ولدت ضبابية وعتمة الذات الشاعرة نتيجة الألم والضياع الذي سيطر عليه .
إن أهم ما لمسناه في هذه الثلاثيات هو التمرد على ما يحيط بالشاعر التمرد على الأنظمة والقواعد والتقاليد والأعراف وكل الأحداث التي تجري حوله والتي كانت سببا قويا في صدور هذه الثلاثيات ، وبما أن الشاعر يملك الملكة على تجسيد وتصوير ما يتأثر به وما يحيط به لأنه جزء من الواقع ولأن شعوره مختلف عن الآخرين كونه يستطيع التعبير عنه بطريقة شعرية لذا راح بصيلة يصور لنا ما ينتابه من تساؤلات مريرة أحيانا لا يجد لها إجابات وأحيانا أخرى يعرف إجاباتها ولكن ليس هناك من يعي ما يريد أن يقوله أو ما يريد تغيره أو إحداثه في هذا الكون العجيب فما كان منه إلا أن جسد ما يعتريه من أفكار كانت شغله الشاغل لطوال هذه الثلاثيات .
كن فخورا أبا العلاء المعري
أنت عريت خائنا دون ستر
وتفكرت في الوجود مليا
ثم توجت حكمة دون أجر
لست أعمى وإنما نحن عمي
في دياجير ظالم مكفهر
هناك رابط أدبي قوي كان له التأثير الكبير على الذات الشاعرة فهذه التساؤلات كان قد أبدع فيها الخيام من قبل في رباعياته الشهيرة وكان أبو ماضي حاضرا وبقوة في لست أدري، أما المعري الفيلسوف الكبير فهو محط المفكرين والباحثين وإلى يومنا هذا ، والشاعر بصيلة قد لخص المفيد في هذا المقطع حينما أعلن من أننا العميان والمعري هو المبصر ، وهو اختزال رائع وظفه بطريقة فنية مختصرة ، وإذا ما تأملنا في الثلاثيات سنلحظ عدة مزايا فيها وكان من أسباب قوتها هو الإيجاز بثلاثة أبيات في كل ثلاثية وهذا الإيجاز أظهر لنا قوة الثلاثيات من حيث المعنى والنسق ووحدة النص في جميع التساؤلات وهي طريقة فنية غاية الروعة قد لا ترهق المتلقي على الإطلاق ، وظف الشاعر بحر الخفيف لثلاثياته كما أسماه الفراهيدي ونظم فيه الحارث بن حلزة اليشكري معلقته الشهيرة منه ، معتمدا على رصانة الشعر الحقيقي وهو عمود الشعر ومستخدما الجرس الموسيقي بنسق ثابت في جميع الثلاثيات لكن مع اختلاف المعاني في كل ثلاثية، ولابد من ذكر أن هذا البحر لين جدا وللغاية لذا تراه دوما مستساغا ، والمحصلة من الثلاثيات كانت واحدة وهي طرح أسئلة كانت قد جثمت عليه طويلا محاولة منه للغور في الألم لإظهار الجمال ، فما كان منه إلا أن يزيحها ويفرغها ويصورها ويجسدها بطرق فنية مختزلة وهذا أزاح عنه هما ثقيلا حتى وإن لم يعثر على إجابات لها .
لا بد من ذكر أن الشاعر أثناء كتابته هذه الثلاثيات من غير تحديد زمنها شعر بالغربة القاتلة رغم ما يحيط به من أناس وهذه الغربة كانت سببا قويا في تجلي إبداعه وقد تجلى ذلك في قوله :
رب ماء ظمأت يوما إليه
في إناء من الورود لديه
كيف يحلو لظامئ فيض ماء
وهو ينساب ضائعا من يديه ؟
أو يغني مسافر في اغتراب
والخفافيش حائمات عليه !
وإذا ما تمعنا بدقة في هذه الثلاثيات سنجد عدة مؤثرات كانت سببا قويا في هذا النتاج الأدبي ، ويبقى أهمها ما دار حول الشاعر من أحداث مؤلمة لم تولد إلا الألم والضياع والتساؤلات وما أن خرجت تجلى لدينا الجمال الذي صنعه من ألمه ، كما ولابد من ذكر أن هذه الثلاثيات لها بعد تاريخي عميق منذ خروج آدم من الجنة بعد خطيئته التي تكلم عنها القرآن الكريم وأبدى المفسرون فيها عدة أراء .
ثلاثيات الألم والضياع صدرت عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة لسنة 2017 ووقعت في 65 صفحة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق