كمسحوقِ التأويلِ الطيفي
يهين الارض، تطير،
وكما قاربٌ في يمِ اللوحة، بلا مجذاف.
الأنثى الورقية
تجاري الغيم، تطير
تتماثلُ لأمرةِ طفلٍ
ملجومٍ بالكابح،
تحمله في الأجواء بعيداً،
شكلُ الأيّلِ الخادعِ
رواحا، يأخذهُ للهاثِ السطوة،
لشحنة أنثى ورقية
تطير بالحسن الوردي
والطفلُ الورديُ يطير..
يحلق،
كهديل الطير الاخرس
يسترخي لترانيم سحرية
وعلى إيقاع مناخ الاستلطاف،
يَمنحُها بدفق الخيط بعيدا..
يُرّعِشها بكلِ لغاتِ الهجرِ
وبكلِ فجاجِ الروح الشعبية.
تسحبُ ذيلاً ورقياً بلون الثلجِ
يتطاولُ شبيهاً بالأفعى..
كما حلقاتِ الاستغراقِ
يتنفسُ قرعَ طبولِ اللحظة.
الولدُ الوردي يطيرُ
بلذيذِ الريشِ الموسيقي
يلتمعُ على شفتيهِ روح الابنوس،
ينتلُ خيطَ الربوِ الأرضي بعيدا.
ترتفعُ الأنثى الورقية، أكثر.
ما عادَ يبخلُ بالإنعاش الرئوي،
ولثمّةِ مأوى يعطي الخيط .
ومصادفةٌ يختلُ توازنها
تنكفئُ على جنحٍ واحد.
" هل هي شعثاءُ الصَوْر،
أم بعضُ شبهِ القاحلة، تحطُ"،
يسألَ وجهَ اللطخة.
تتوقفُ الافكارُ الملموسة
تقتربُ كما تنين حجري..
ودكنةُ وطواطٍ أعمى.
تخشخش بالعمق الخلفي..
تجنح فوق رأسه.
يَتحوَلُ الولدُ الوردي
لشبحٍ قشّيٍ يدخلُ طقسَ المجهول،
يداعبُ منديلاً ورقياً
كي لا يهرب من عينيهِ موتُ الضحكِ
وعلى وشكِ الصوت السوريالي،
تطيرُ الغربان بعيداً
ويبقى طفلُ الفزاعةِ
ينتظرُ سقوطَ القذيفة!
،،،،،،،
يقول "جون كوهين" (الشعر يولد من المنافرة) ويقصد "كوهين" بـ(المنافرة) هو الثنائيات المتضادة داخل النص الشعري . وفي نص الشاعر "يعقوب زامل راضي"(طيارة الطفل الوردي!) أجتمعت ثنائية (الحرب والطفولة) ضمن ترابطية جدلية مركبة التكوين ومتعددة الدلالة ، وقد جاء التضاد بصيغ متعددة ، هي ثنائية (الحياة والموت) ، أو ثنائية (الوجود والعدم) ، فالطفولة تجسيد لرمزية الحياة والولادة والبراءة ، يقابلها بالضد الحرب وما تمثله من موت ودمار وفناء . إذاً هناك تجاذب بين طرفي معادلة (الطفولة والحرب) .
نص الشاعر "يعقوب زامل راضي" ينحصر في موضوعة الطفولة والحرب ، ويتطلب التأمل في الصور الشعرية التي تضمنها ، والترميز ، والأستعارة ، والوصف المكثف ، وكذلك يتطلب التأويل في معالجة هذه الثنائية ، فالشاعر يشتغل على التوافقية بين البناء الفني للنص وجمالية الصياغة والصورة الشعرية من جهة ، وتأويلية النص أعتماداً على الجانب الاستنباطي والرؤيوي المتمركز في بنية النص ، والإفادة من رمزية الطفل وتوظيفها في النص . بأعتبار أن الطفولة هي (مرحلة تأسيس للذات ، وأكتساب للعادات والأفكار والقيم) .
النص يحمل خصائص وجماليات الصّورة الشّعريـة ، بعيداً عن التقريرية والمباشرة في تجسيد واقع طفولي أليم ، متأثر بواقع وتفاصيل الحرب ، صورة تستنطق العقل والضمير معاً ، فهو يتألم لمشهد الطفل وهو يقع ضحية حروب وصراعات ، وهذه من فواجع المجتمع المستقبلية . (لأنّ عسكرة الطفولة إفساد لها وتأثيم لبراءتها وتجريم لصفائها ونقائها) ، وتشويهاً للقيم الجمالية والتداعيات النفسية المؤثرة فيها ، التي تفقدها البراءة . فهذا الفيلسوف "جان جاك روسو" يستصرخ ويحرض في صيحته الشهيرة (اعرفوا الطفولة) .
إن نص الشاعر (طيارة الطفل الوردي!) صرخة طفولة وضمير إنساني بما يتضمنه من شمولية الموضوع ولغته العالمية ، عندما تروي ما تخلفه الحروب من آثار مدمرة للطفولة والحياة .
عنوان النص يشمل الرمز الرئيس فيها وهو (الطائرة الورقية) التي تحمل رؤية ودلالة واقعية ، تُشكل أيقونة تقترن مع الطفولة لتكون مجال حيوي وشكل تعبيري للنص ، من خلال ربط النص بالواقع ، وأستكشاف رمزيتة ودلالاته ، يرى الفيلسوف الأمريكي السيميائي "شارل ساندز بيرس" أن (الأيقونة علامة تحيل إلى الشيء الذي تشير إليه بفضل سمات تمتلكها ، وخاصة بها هي وحدها . قد يكون أي شيء أيقونة لأي شيء آخر, سواء كان الشيء صفة أو كائنا فردا أو قانونا بمجرد ان تشبه الأيقونة هذا الشيء وتستخدم علامة له) . لقد أراد الشاعر في أختيار موضوعة النص ، أن يقدم رؤية جديدة للقصيدة الطفولة ، تنسجم مع معطيات العصر . فالنص ينفتح على افق متعدد من التاويلات امام القارئ وقدرته على استنطاق النص وسبر اغواره واستنباط الدلالات الرمزية فيه ، الألعاب تحمل معاني تكوين شخصية الطفل ، لأن (اللعب هو من أساسيات الطفولة الحقيقية والسليمة ، لأنه يعمل على تنمية الحالة العقلية والوجدانية وتحريض الخيال بشكل واقعي وعلى الأرض) ، فاللعب صفة طفولية فطرية غريزية وإنسانية . فأثر التجربة الشخصية للشاعر يبدو واضحاً في السياق التعبيري للنص الشعري ، حين يسترجع ذاكرته ، في إعادة أنتاج صور شعرية تفصيلية يعيدها في محتويات نصه الشعري .
الطائرة الورقية جزء من الطفولة ووسيلة تسلية محببة لدى الأطفال . يستعيد الانسان فيها شيئاً من طفولته التي اغتالتها الحرب فيلهوا بالطائرة الورقية ذات الألوان الزاهية . ولكن في نفس الوقت تعني إنعكاساً للحرب وأدواتها المدمرة ، يقول الشاعر الشيلي "بابلو نيرودا" (إذا فقد الشاعر الطفل الذي يعيش بداخله ، فإنه سيفقد شعره ) ، والشاعر "يعقوب زامل راضي" يوقضه صوت الطفولة الذي يتجلى حضوره في ذات الشاعر ، فهو يبرز في أوجاعه ويملأ ذاكرته ، فليس غريباً أن يتقمص الشاعر مراحل الطفولة ولعبها ، أو أن يتذكر الطفولة وهو يكتب نصه الشعري .
فالشاعر يجمع بين زمنين ، أحدهما ماضٍ يراد أسترجاعه ، والآخر حاضر يراد تجنبه . فصورة الطفولة في الشعر تشكل مرحلة يمر بها الشاعر أي شاعر ، ويمكن أن تكشف عن حالة إبداعية لدى الشاعر . فعلاقة الشاعر بالطفولة لها جانبين هما : جانب ذاتي يتعلق بجمال هذه المرحلة ، وجانب أخر ، هو موضوعي ، له علاقة بالوضع الذي يعيش الشاعر .
اللون له مدلوله الفلسفي والنفسي والجمالي المميز ، فهو له تماس وصلة انسانية وروحية بالنفس الإنسانية ورمزية جمالية يستعين بها الشاعر لتوضيح أفكاره ، فاللون في النص الشعري له بعده الدلالي ، الذي ينطلق من لاوعي الشاعر ، فقد استخدم الشاعر اللون "الوردي" ليكشف عن أحساسه والتعبير عن حالة نفسية اراد إيصالها للمتلقي .
فهو قد يعكس شخصية الشاعر الحالمة بأحلام الطفولة البريئة ، ويجد في كل ما حوله أشياء جميلة . النص لا يخلو من صور وذكريات تعود بالقارئ لطفولة الشاعر وصباه ، فاللون (الوردي) أهم ما يميز الصورة في عنوان النص ، فهو يحمل إشارات ودلالات مرتبطة بالرؤية الفنية والرمزية والنفسية التي تشكل النص ، لذلك ينبغي ربط اللون بالسياق الشعري للنص حتى يحدد دلالاته ، ومن هذه الدلالات ، الطفولة ورمزيتها للحياة . يحلق الشاعر "يعقوب زامل راضي" مع الطفولة الوردية في فضاء شعري واسع ، يمكن أستقراء النص فيه من خلال مضمونه ولغته وصوره . فهو يحمل في جنباته الكثير من الدلالات الرمزية يتجاوز بها الدلالة التي أشار بها ظاهر النص . دلالة تتمرد على المنحى التقليدي ، أسلوباً ورؤية ، وتنسجم مع معطيات العصر ، ويمكن عولمته بما يتضمنه من قضية أنسانية حين يـ(فرض نمطاً سلوكياً عالمياً واحدا ً) من خلال الوجع الانساني في وصف ثنائية صدق الطفولة وبراءتها الإنسانية وحلمها الضائع ومرارة الحرب التي تريد أن تمحو الطفولة كقيمة جمالية ومعرفية وأخلاقية . من خلال ما تتركه من تداعيات ومآسي ، فالنص في اسلوبه الشعري يجذب القارئ المتلقي ويبحر به إلى أعماقه ، بأحساس أصيل ولغة غير متكلفة ، ممزوجة بمتعة جمالية ، يشوبها وجع انساني وهو يصف ثنائية الطفولة والحرب .
أن الشعر ليس اعادة صياغة للواقع فحسب ، وأنما هو انعكاساً له ، ونص الشاعر "يعقوب زامل راضي" ليس مجرداً نصاً شعرياً ، بل هو نص يخترق الإنسانية بداخلنا ويترك أثر جرح فيها . فيوثيق لقصة طفولة استباحتها الحرب وأهلكها الإرهاب ونهشها الموت . فـ(كل كلمة في النص توازي رصاصة بندقية ، وقذيفة دبابة ، وصاروخ طائرة ، في الزمن الضئيل للاندفاع ، وفي الأثر الوجودي الذي لا يُمحى) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق