أبحث عن موضوع

الجمعة، 24 فبراير 2017

رجلٌ معقّد ( قصة قصيرة ) ............. بقلم : عادل نايف البعيني / سوريا


 
.
أنا رجلٌ معقّد
"أنت رجلٌ معقّد!!"
"نعم يا سميرة أنا معقّد، وهذه عقدتي ".
كانتِ الجلسة سريعة، أسرع من التقاط الأنفاس إثر زلة قدم وانتباه من سقوط، لأوّل مرة تؤجل الجلسة للنطق بالحكم بعد سبع دقائق عن بدئها فقط. سبع دقائق للتشاور بين القاضي والمحلف الوحيد، محكمة من قاض ومحلّف ومتهم، لا محامي دفاع، لا حضور في قاعة المحكمة، لا شهود على القضية، حتى الإدّعاء العام غير موجود، هل تصدقين أن هناك محكمةً بلا قوس، ولا ادعاء عام؟ المتهم هو وحده القاضي والمحلّف، وهو الإدعاء العام و محامي الدفاع. قدّم المتهم مرافعته لنفسِه، اتهمَها بالإهمال والتقصير والقتل العمد، واعترف، و ترك لنفسه إطلاق الحكم على نفسه.
لماذا يوكّل محاميا فالتهمة ثابتةٌ عليه، كثبات صباغٍ أسود على تنورة بيضاء، لَم يحاول الإنكار، قال بكل بساطة:" أنا القاتل، لقد وضعت السم على الطاولة، تركته ومضيت، لا يهم إن كنت أعرف بأنّهما سيأكلان منه أم لا، كنت مجرماً بكل بساطة، ونفّذت الجريمة بكل برود، والآن أنا مستعدّ للحكم أيًّا كان الحكم". نعم يا سميرة كانت الجلسة سريعة، بضع أسئلة ونطق القاضي بالحكم، وتم تنفيذه بلا مهلة ولا نقض أو استئناف.
قال له القاضي :" لماذا وضعت السم على الطاولة؟"
أجابه:" لم أضعه على الطاولة بل نسيته عليها،لأسعف زوجتي، وهذا ذنب أعترف به، ولا يغيّر شيئا من القضية"
ردّ القاضي :" لمن أعددت السم، ولماذا؟"
" لقد أقلقوا راحة زوجتي، جعلوها تعيش في جحيم، كل يوم صراخ وعويل، باتت جحورهم لا تعد، كل يوم قتال معها بسببهم، بات ولداي قلقيْن منهم، يتحاشان النوم بلا أغطية كثيفة، فقد تكاثروا علينا، وراحوا يسرحون ويمرحون في كل مكان، فقررت تنفيذ جريمتي والقضاء عليهم".
القاضي:" ولكنَّكَ قتلتَ ولديك".
أجاب المتهم:" نعم قتلتُهما خطأً، وأنا معترف بذلك، ومستعدٌّ لأيِّ للعقاب".
انتهت الجلسة بسرعة، وحانَ أوان النطقِ بالحكم، وقف الجميعُ، القاضي والمتّهم، وضميرُه المحلف أمام المرآة : "حكمَتْ عليك المحكمة حضوريا بالإعدام رميا بالرصاص".
أخرج مسدسه وأطلق، كانت طلقة واحدة، كافية لثقب رأسه، وسقوطه على أرض المطبخ حاضناً ولديه.
قبل ساعات من الآن، وما أن دخل البيت، صرخت زوجته، إنه المخاض وضع ما كان معه من أغراض على الطاولة، وما هي إلا دقائق حتى كان صوتُ بوقِ سيارة الإسعافِ يُدَوِّي، يبعثُ القشعريرة في القلوب. و سرعان ما انطلقت بزوجته إلى المشفى ، ليلحق بها بسيارته الخاصة.
جلس على حافة السرير قرب زوجتِه في المشفى حيث، مُدّدتِ المرأة على سرير العمليات، أطبّاء يدخلون ويخرجون، همهمات نهنهات همس الطبيب: "جاءها المخاض ثانية، هيّا لنبدأ، لن تطول الولادة".
خرج إلى البهو ينتظر أمام جناح الولادات، على أحر من الجمر، مضطربا، تارة يجلس كمن يجلس على الرمضاء، تارة يقف، يروحُ يجيء فاركا كفّيه، شيء ما يعتصر فؤاده، إنّها الولادة الثالثة لزوجته، قال بنفسه:" يجب أن أتوقّف عن الإنجاب لم أعد أريد بنتًا، سيصبحون ثلاثة ذكور بعد قليل، هذا يكفي". نظر للساعةِ كانت تشير للواحدة، قال في سرّه:" حان انتهاء الدوام المدرسي، ولداي فادي وسمير، يوشكان أن يصلا البيت".. فجأة امتلأت شرايينُه بالدماء، صعدت إلى رأسه بقوة، تذكّر الأغراض التي وضعها على الطاولة في البيت، رباه أقراصُ الفلافلِ!!.. صرخ مرعوبا "ويلاه ولدااايْ"
نسي زوجته طار من المشفى يجري كالأطفال، لا يكاد يرى طريقه، ركب سيارته ونهب الطريق بها. بعد زمن خاله عمرًا وصل البيت. الباب الرئيسي مفتوح، باب المنزل مفتوح، صرخ:" فادي... سمير" لم يسمع ردّا، باب المطبخ مفتوح، دخل بكل ما يمتلك من رعب. هناك وقف مذهولا، غامت عيناه، ندّت منه آهٌ حارقة دار به المكان، رأى طفليه في أعلى الغرفة، بل على الجدران، لالالا هاهما ممدّدان على الأرض، زبدٌ تجمّع على الثغرين الصغيرين، انطبقت أكفُّهما الصغيرة، عيون غائرة، وبعضُ قطعٍ مبعثرَةٍ من أقراصِ الفلافِلِ على الأرض.....
... قالتِ الممرضة " طفلٌ جميل، سيكون شابا وسيمًا، حمدًا لله على سلامتك، مبروك مدام أم فادي" ردّتِ المرأة بوهن وضعف شديدين، بسبب إجهاد ما بعد الولادة:" الله يسلمك، أين أبو فادي؟"
لم تسمعِ المرأةُ جوابًا، بعد قليل تناهى إليها من رواق المشفى صوتٌ تكاد تعرفه، صوت رجل تعرفه تماما، يقول وهو يبكي بحرقة:
"أطلق أخي النارَ على رأسه، اخترقت الرصاصة دماغه، مات أبو فادي لم يستطع أن يتحمّل ما رأى، لقد نسي أقراص الفلافل المسمومة على طاولة المطبخ، وهو يسعف زوجته للمشفى، تذكّر لكن بعد فوات الأوان فادي وسمير أكلا السمّ".
قاطَعَهُ أحدُهم:" لا تستطيع أن تخبر زوجته الآن، وَلَدَتْ منذ قليل، سيقتلها الخبر"
سمعت أم فادي كلّ شيءٍ، تجمّد الدمُ في عروقها، تمتمت بلا وعي:" يا إلهي ولداي .. زوجي" حاولت أن تصرخ أو تستفسر ثانية، لم يسعفها النطق، رفعت يدها فسقطت على صدرها، هرع الطبيب ليسعفها، شهقت شهقةً تحشرجَ صوتُها، ثمّ لَوَتْ عُنُقَها، أغمضَتْ عينيها ولم تفتحْهُما بعد ذلك" .
قال الطبيب وهو يعيد السمّاعة إلى حقيبته:"ذبْحة صدرية، كانت حادة وقاتلة".
في النادي وعلى طاولة وضع عليها كأسان من عصير الليمون،كان يجلس شابٌّ وسيم وفتاة جميلة، مدّ الشابّ الوسيم، ذو العشرين عاما يده، أمسك يدَ سميرة، وأمامه صورة رجل وامرأة وطفلان نظر للصورة دامع العينين: " لم يبق غيري يا سميرة، قتلتُهُم لأعيشَ،
هل عَرَفْتِ الآن لماذا أنا رجلٌ معقّد؟؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق