أبحث عن موضوع

الخميس، 17 نوفمبر 2016

ملحمة حاتم عباس بصيلة - الأغنية الخرساء ............... بقلم : عماد ألدعمي // العراق



لأنّه وحيدٌ يشعرُ بالغربة رغم كلِّ ما يدور من حوله ، يبحثُ عن متنفسٍ ليبوح له فلم يجدْهُ راح يحاكي القلم ويحاوره ليكتب لنا ملحمةً قلّ نظيرها أطلق عليها - الأغنية الخرساء - لأنها خرجت من الذات وكان في تصوره أن الذات هي الوحيدة التي تعي الألم ، متغافلاً أو متناسياً أن هناك من يترجم اللغة إلى ألف معنى ، المعاناة التي عاشها بصيلة أثناء هذه الرحلة كانت مؤلمةً جداً وللغاية ، ولم يتنفسْ الصُعداء إلا حينما شعرَ أنها قد انتهت ، ولكنه وربما لم يعِ أنها وُلدت لنا وربما ماتت عنده حينما انتهى من كتابتها فولادة الكلمات نهاياتها ....ملحمة حاتم عباس بصيلة - الأغنية الخرساء
بقلم عماد ألدعمي

لأنّه وحيدٌ يشعرُ بالغربة رغم كلِّ ما يدور من حوله ، يبحثُ عن متنفسٍ ليبوح له فلم يجدْهُ راح يحاكي القلم ويحاوره ليكتب لنا ملحمةً قلّ نظيرها أطلق عليها - الأغنية الخرساء - لأنها خرجت من الذات وكان في تصوره أن الذات هي الوحيدة التي تعي الألم ، متغافلاً أو متناسياً أن هناك من يترجم اللغة إلى ألف معنى ، المعاناة التي عاشها بصيلة أثناء هذه الرحلة كانت مؤلمةً جداً وللغاية ، ولم يتنفسْ الصُعداء إلا حينما شعرَ أنها قد انتهت ، ولكنه وربما لم يعِ أنها وُلدت لنا وربما ماتت عنده حينما انتهى من كتابتها فولادة الكلمات نهاياتها ....
الأغنية الخرساء ثورةٌ عارمةٌ كتبها بصيلة وأطلقها للفضاء، لتكون  اليوم ناطقة ، صوّر لنا فيها ملحمة طويلة راح فيها يخاطب نفسه بنفسه ويحاور كل ما يدور من حوله ويعالج بطريقته الخاصة ويحمل هموم الوطن بكامله ، الفقير منه والضعيف والمظلوم واليتيم والشهيد والمرأة المسكينة في هذا المجتمع الوقح ، يخاطب الزهر ويحاكي النهر ويحلق مع الطير ويقطن المرافئ الدافئة والمقاهي المكتظة بدوي الأصوات والمعابد والمساجد والطرقات ويتألم لما يدور من حوله فلم يجد أمامه من سبيل إلا بتسطير هذه الملحمة  .......
قال في مطلعها :
يا ولدي لا تحزن
حين يموت الشعر
وتنتحر الكلمات
يا ابن الماء الطاهر
هذا زمن
لا يحلم فيه سواك
خذلتك الأرض ومن فيها
وبقيت بعطر هواك
لا تحلم بصباح يبكي
لا ترسم لوحة أشواك
يا ابن الماء الطاهر
هذا زمن القوادين
بلحى يتهادون على الأرض
لاحظ الانفعال الوجداني وهو يخاطب ذاته من ذاته فالخطاب للذات وليس لولده كما يظن الآخرون ، مستخدما لا الناهية الجازمة لكي يقطع خيط الأمل الذي رآه مفقودا بعدما سيطر عليه القوادون أهل اللحى البيضاء .
هنا لا بد من الإشارة إلى أن المنظومات الفعلية الدالة على الأمر ، لا تحزن ، لا تحلم ، لا ترسم ،وبمستوياتها المختلفة قد شكلت لقطات ومصورات شعرية حديثة من خلالها استطاع محاكاة الواقع .
وتستمر الرحلة المؤلمة الموجعة لتبوح لنا الذات الشاعرية المزيد والمزيد مما يختلج النفس الشاعرية التي عانت الويلات أثناء ولادة المفردات
يا بن فراتك
أشعارك منفى
ويداك تقطع كفيها
ومعانيك تمزق في شفتيها
أطلق لعنانك أفكارا
واهرب من قيدك
إن قيودك
نيران تأكل نيرانا
إن هذه الصور المحتشدة بأرقى درجات التجلي الشعري والانفتاح الصوري كان المنظوم الأول لها هو الانفعال الحاد المحبوك بالأفعال الحركية التي دلت على الطلب وكأنها صيحات جاثمة على الصدر أراد التخلص منها بأيِّ طريقةٍ ممكنةٍ .
والآن لحظة هدوء قاتلة بعد الشعور بضياع العمر ، فما كان منه إلا إطلاق صيحات مؤلمة ، لكنها خافتة أما دواخلها ثورة انفجارية عارمة
ذهبت أيامُ العمر
على الطرقاتِ
وتمزقَ لحنٌ في النايات
فلماذا الصمتُ ؟
على الكفر
على الهذيان
في زمنٍ تعلو الأوشالُ به
يتمزقُ الفكرُ ويُهانُ
لماذا يحتفلُ الناسُ بقتلاهم ؟
لماذا يحترقُ الوردُ على التابوت ؟
الآن باتت الصورة واضحة وجلية من خلال الاستفهام البلاغي المختزل والدال على ما أراد البوح به وما أراد أن يترجمه لنا حينما يراه واقعاً ملموساً يدور حوله كل يوم ،،،، فليس من المعقول أن تطلق الرصاصات لمقتول وضعوا الورد على تابوته ........
بصيلة في هذه الرحلة كان طبيباً ماهراً ومشخصاً دقيقاً ولكنَ المرضى حوله كثيرون وأمراضهم مستعصية .
ليس من السهل أن يتصالح الشاعر مع من حوله رغم أن التواضع والنزول إلى أضعف طبقات المجتمع من صفات الشاعر الناجح وما قصدت بالتصالح هو التوافق الفكري فأحيانا يكون صمت الشاعر لغة ولكنها تحتاج مترجما خارقا للنفس البشرية ومن هذا يتولد الإلهام الشعري ليعبر عن مكنونات لا يمكن أن تفهم إلا من خلال اللغة وفي مرات ومع ذلك لا تفهم اللغة أيضا بالشكل الصحيح .
ما أردت الوصول إليه أن بصيلة في هذه الملحمة أراد أن يصل لقناعة مع نفسه أن القصيدة يجب أن - تجعل العالم يعني شيئا - وأن القصيدة قادرة أن تحدث تأثيرا أو تغيرا في حياته وحياة الآخرين وأنا متيقن حينما فرغ بصيلة من القصيدة شعر أنّه حقق ما أراد الوصول من خلال أغنيته التي تنطق الآن بيننا والتي كانت الخرساء قبل الكتابة بها ،
لا تسأل نفسك
من أين أتيت وكيف رحلت
انك لغزٌ مسكونٌ بعجائب هذي الدنيا
فارحل عن شعرك
ذاك هو الشعر
وتمسك بهديل حمام في طرف البستان
الآن تمعن بدقة إلى.. فارحل عن شعرك ، ذاك هو الشعر ،،،، ستجد أنه أراد الإفصاح أن الشعر هو الشعر كما هو باقٍ أن لم يحدث إعجازا خارقا للنواميس الطبيعية ..... فعلام البقاء مع الشعر وهو بلا جدوى
لغة الأمر لم تنفك عن الذات الشاعرة في هذه القصيدة وهي دلالات واسعة المعاني والأبعاد صدرت من روح تحاول أن تغير هذا العالم حتى راحت تنظر بعيدا للمستقبل فقط ، المستقبل المصنوع من خيال بعيد عن الواقع المدمر الذي أحاط بالشاعر وهنا ستلحظ ذلك
وتمسك بهديل حمام في طرف البستان
يا من يتساقط قبلا وحنانا
لصبايا ترقص مثل خيال
في أعماق الفنجان ...........
لو تمعنت في الأغنية الخرساء جيدا بدقة ستجد روعة الطبيعة ومدلولاتها الخلابة الساحرة وكيف استطاع الشاعر أن يجعلها مؤثرا كبيرا  له الوقع على نفس المتلقي وخصوصا المزيج الطبيعي للحياة الريفية والحياة المدنية وأظن أن الشاعر يعيش ما بين البيئتين منذ ولادته ..
هذه الملحمة الكبيرة هي حكاية وطن لا تنتهي جسدها بأروع الصور منها مقابر الشهداء وكيف تُشنق الكلمات عند مقصلة الطغاة وأكف البغاة وفلسفة الذئاب ، وامرأة عجوز قتلها بردُ الشتاء ، وهو بين كل ذلك يرى نفسه وكأنّه ليس من هذا العالم لذا ظل ينشد مستقبلا خياليا محاولة منه للهروب من هذا الواقع الذي جعله لا يعرف سوى الغربة الروحية رغم كل ما يدور حوله
يا ابن الموج الهادر
أورقك الحزنُ
وأصبحت ثمارا بين الكفين
أو الكفين لا فرق لديك
ما أروع موتك
حين تكون ظلالا للفقراء
لاحظ الخطاب المليء بالشموخ والاعتزاز بالنفس حينما صور نفسه ميتا لكنه سيبقى ظلالا للفقراء ، هنا ستجد وتلحظ مدى الهموم التي يحملها في طياته ومدى المؤثرات التي تؤثر عليه والتي ستجعل منه مثالا رائعا  يوما ما
يا ابن الماء الهادر
لا تهدأ أبدا
واصرخ في وجه كلاب
زانية بذيول سوداء
الثورة العارمة لم تنفك مطلقا والصيحات مستمرة بوجه الطغاة وهي بحد ذاتها دافع قوي له وشحنة كبيرة لمواجهة ما يدور حوله وحولنا
النداء المستمر حوّل الملحمة إلى حكاية سردية رائعة توجب على المتلقي أن يلتفت لها ، وهذا النداء المستمر بلاغة كبيرة عرف كيف يستخدمها بطرق سهله ، فليس من السهل أن لا تلتفت لمن يناديك
لذا كان ذا حبكةٍ قويةٍ وهو ينادي الغير للفت النظر في حين كان النداء موجها لنفسه أي للذات الشاعرية .
النداء كان جوهريا فاعلا مكثفا ثريا عميقا ممزوجا متلاحما مشكلا تشكيلا هندسيا ونابعا من رؤية شاعر حاذق متمكن من أدواته .
يا ابن القصب المرتفع الآهات
يا ابن المصطبة الحمقاء على أمل
أن تجلس عاشقة
بيديها ظل كتاب من قلق الماء
لاحظ الصور الممزوجة بروح الوطن وتراثه وتاريخية وهو يجوب بنا ويحلق بعيدا للقصب وذاك المقعد المفتقر لعاشقة .........
ما كان ملفتا للنظر وبغرابة كيف استطاع بصيلة الحفاظ على وحدة القصيدة الموضوعية ومضامينها ، وهل من الممكن لشاعر أن يكتب هذه الملحمة لمجرد انفتاح القريحة الشعرية لوقت قصير مثلا ، والقصيدة تحتاج أياما وليالٍ .........
ليس لدينا أيُّ تفسير سوى التيقن بأن القريحة الشعرية للشاعر صامَتْ طويلا وطويلا محشوة بالكثير المتراكم وكانت بحاجة للحظة انفجار وانفجرت وما أن انفجرت لم تهدأ أبدا وظلت هذه الثورة عارمة إلى أن انتهت القصيدة...
مهزلة هذي الدنيا
ابصقْ جرحك فالجرح لئيم
وادرْ وجهك نحو الموت
فالموت جبان حين يراك
وأدر وجهك عن خنزير يتلبس ثوبَ الله
ويكركر ( حوقلة )
تحت ظلال الشيطان
الآن ستدرك تماما أن الشاعر كان لساناً للكثير ومترجما لهم حينما صوّر لنا مهزلة تدور حولنا من المتسترين بلباس الدين والعفة وهم تحت ظلال الشياطين ..........
لا بد من ذكر أن الشاعر ملكٌ للجميع فحينما يقرأ المتلقي كلماته يتصور أنها كُتبت من أجله أو يتصور أن الكلمات التي كتبها الشاعر كانت أمنية يتمنى أن يكتبها لكنه ليس شاعرا ،، وبهذا يظهر للناس جليا أن الشاعر ليس كما الآخرين ، ما أردت الوصول إليه أن الشاعر يجب أن يكون شعره رسالة إنسانية عظمى تحاكي جميع النفوس وتعالج ما يعاني الناس من هموم وما يشعر به الناس من ألم ... فإذا ما فقد الشاعر هذه الصفة فهو ليس شاعرا .
ما هذا العالم إلا ثرثرة ودعاء مكذوب
بفم اللحية والدهماء
ما هذا العالم إلا أغنية
بفم أخرس تحت الماء
مزيج من صورة بلاغية مختزلة بطريقة عجيبة نمت عن شاعرية فذة فكثيرو الكلام الخارج من فمٍ مخادع باتت السطوة والسلطة لهم بكثير من مسميات دخلوا من خلالها ....
ثم المقارنة وتصوير العالم بأغنية تنتشي لها الأسماع وتطرب لها الروح لتذهب لعالم ليس فيه سوى السلام والحب ، لكنها محجوبة لأن الناطق بها ذو فم أخرس والأكبر من ذلك هو تحت الماء .......
الصورة لغة حداثوية جديدة قوية الحضور مرصعة برذاذ ذهبي عرف الشاعر أن يوظفها توظيفا قويا مؤثرا علينا حينما وضعنا أمام صورة رائعة جعل من المقارنة فيها أمرا واقعيا ملموسا الكل يؤمن به ..
الأنا الشاعرية هنا كثفت من المدلولات الحسية وبهذه المدلولات نستشف أن الشاعر ما كان همه القصيدة بل كان همه التعبير عما يدور بداخله وكأنه مترجمٌ لما نريد البوح به .
هذا الشاعر ابن الوطن الحقيقي الذي يموت في اليوم ألف مرة حينما يرى الأحداث والمجريات المؤلمة من حوله ، وحينما يرى الجمال بطرق تختلف عن طرق الآخرين لذا تراه دوما مزويا مطويا على نفسه .
انظر كيف يحاكي نفسه بنفسه ليترجم لنا
العنْ من يلبس ثوب الله ويسكر من دمع الفقراء
العنْ عربات اللهو تسير على قافلة الشهداء
انظر إلى كلماته وهو يحارب طغاة العصر ويفضحهم ، فبات يقينا موت الفقراء من الجوع بعد ما سرق مرتدو ثوبِ الله قوتهم ، وتلك العربات التي تسير والشهداء تذهب ضحية لهم ...
لو أمعنا التدقيق في أواسط الرحلة لأنكشف لنا حدة الخطاب الشعري وتوهجه القوي وهو يخاطب نفسه بلغة اللوم وكأنَه يلقي على عاتقه مسؤولية العالم الذي يدور حوله وهي خطابات وجدانية حادة نستطيع عدها ذروة الملحمة
ما لك يا ابن بصيلة لا تكتب شيئا
بعدها عبر عن مكنوناته بطريقة وكأنّه يعاتب نفسه وهنا أفصح صراحة بأسمه
حدثني
حدثْ أتربة في الدار
ما أنت سوى شبح
في الكون يدور
ما أنت سوى كلمات تسرق من عمرك
تصوير غاية الدقة وكأنّه شبحٌ والكل لا يراه هذه الصورة مدلولاتها عميقة أراد من خلالها التعبير عن التأثير والمؤثر وسبب الوجود وكيفية تلاقح الأرواح التي أن تنافرت تباعدت وكأنك لا ترى منْ حولك ولا هو يراك ، ثم فناء العمر في رسم الكلمات التي أخذت العمر
في المقهى ضاعت فيك السنوات
ورحلت مع الوهم
لترسل آلاف الكلمات
كانت مثل فراش حام على النار
فأحرقها النور
وشوق الرغبات
حكاية المقهى عند بصيلة يظنها الناس أمراً عاديا ولكنها جزءٌ لا يتجزأ في حياة بصيلة بعد ما تأكد لدينا حتما أنّ هذه المقهى هي الملهمُ الأول والأقوى لقصائد بصيلة ، بل وأكثر القصائد التي كتبها كان مصدر إلهامها المقهى التي يجلس فيها
في المدرسة الحمقاء
كنت تظن
بأن بلادك لا تكذب
لكن القائد موهوب بالكذب
وبالعهر المجاني
وبتسويق خطاب مدني
خدر أحلام البسطاء
في المدرسة الحمقاء
صورٌ رائعة تتجسد هنا حيث المدرسة وأحلامه التي كان يرسمها ويرومها في المستقبل وذكريات عالقة في الذهن حيث ذاك القائد الكاذب وخطاباته الوطنية الزائفة
منذ بداية الملحمة ونحن نلحظ الوحي المكاني موجودا وبكثافة كالمقهى والمدرسة لذا كان الفضاء المكاني واسعا وهذا أحد أسباب الانفتاح الشعري للذاكرة التي خرجت من بطانة الذات الشاعرة لتشمل فضاء الأمكنة والأزمنة والوقائع .
الرؤيا في كثير من الأحيان للذين حولك تكاد تكون معدومة ، ليس بصريا وشكليا بل رؤية القلب حتى وكأن الذين حولك موتى
لا تأسف لأنين الموتى
هم موتى
فعلام صراخك في الموتى
جناس بلاغي فيه من الصور الكثير الدالة على مدلولاتها ، وما يهمنا أن النظرة أصبحت قاتمة وسوداوية نتيجة اليأس الذي كان واضحا وجليا في هذه الرحلة البوحية المملوءة بالأحداث الدامية
في الشارع يمشي
يرسل غيم الله عليك ظلالا من رحمته
فتسير بظل الغيم
وظل الخالق يا سبحان الله على رحمته
يا سبحان الله
في الشارع تمشي
تمشي خلفك آلاف الهمسات
يمشي الشاعر لا يدري
أن ملائكة ......... فوق فراتك تعزف ألحان الشهداء
هذه الصورة لا تخلو من رؤية واقع مرير مؤلم قد تعلم على الهمس والغمز واللمز ، لكنه لا يبالي ما دام الله موجودا
الشاعر وفي هذه المرحلة بالذات من القصيدة وصل إلى يقين أنّه ملكُ الآخرين حينما قال
يا ابن بصيلة
منقسم أنت إلى آلاف الشهداء
تتشظى ألما وغناءً وقصائد نثر
أو شعر
ما همك غير المعنى الكوني
لجرحك
هذه الكلمات دلالات على أن الشاعر يقطن في كل مرافئ الوجع ويدور حولها ليجسدها لنا قصيدة من خلال وجدانه المتفجر كالماء حيث المشي في الشارع والأوراق معه ليصور الخيبات والأحداث التي يراها .
الآن لا حظ كيف يصل إلى قناعة تامة أنه دوما في رقي وأن الصدق هو الفاصل الحقيقي وأن ترك الزيف والنفاق توصلان الإنسان ليكون نبيا حتى راح واضحا وهو يصور الصلاة التي تأتي إليه وليس هو الذي يذهب لها حينما مرّ على مسجدِ اكتظ بالمصلين
في المسجد صلى آلاف المحسوبين على الله
وأنت تصلي
في لحظة عشقك حتى كنت صلاة
قد يمشي المسجد نحوك
أو يمشي الشارع نحوك
أو تمشي الأرض على كفيك
ذلك أن جواهر روحك
عافت أشكال النكبات
صورة رائعة أراد منها المعالجة بقدر ما تكون هي اعتزاز بالنفس ، كما وأنها صورة تدعو إلى طهارة ونقاء النفس الإنسانية فالشكليات عند الله لا تعني شيئا ما دامت البواطن غير نقية .
المسيرة لازالت مستمرة مزينة بأروع الصور حيث المشي مع الصباح وبزوغ شمس الغبش ثم مخاطبة الذات الشاعرة
يا ابن ورود
غازلها المطر الشفاف
ما بالك تعرف ألحانا سوداء
قد يسقط يوسف في بئر
ويصار إلى ملك وجاه
الآن لنقف هنا على صورة رائعة اقتبسها من القران الكريم وهي صورة يوسف في البئر التي كانت سببا لأن يكون عزيزا متوجا على مصر بعد ما حدث له ..... فهو ومن خلال يقينه أن الذي يدور حوله قد يتحول يوما لجانبه وهو باعث قوي لعدم الاكتراث لما يدور حوله ، ثم صور رائعة استخدم فيها  - قد - وكررها عدة مرات التي أفادت الشك لمحاكاتها المستقبل
قد تكتب شيئا لا يوجد في الدنيا ...... دعوى للصبر والأمل موجود
قد يرقص طيرٌ مذبوح من أجل رؤاك
قد يغتسل الماء بطهرك
كل هذه الاحتمالات واردة الوقوع عززها بشاهد ودليل قاطع وهو ما جرى ليوسف عليه السلام .
ولا زلنا مع الاقتباسات الرنانة التي وظفها بطرق رائعة
وعلى الشاطئ يجلس مفجوعٌ يتوسل بالغائب
أن الغائب سوف يعود
لكنّ الغائبَ مشغولٌ بضياع العصر
وضياع العمر
لن يأتي أحدٌ
فالشاطئ ملغوم بفواجع هذا الإنسان
والعصر إن الإنسان لفي خسر
فأرحل عن شاطئك السحري
لاحظ كيف استخدم الآية المباركة ليستدل بها دلالة جازمة قاطعة كان لها الأثر البليغ على النفس ، ثم تستمر رحلة الوقوف على الشاطئ حيث ضوء الفجر على أمل لقاء امرأة من صنع الخيال كانت تغزل خيطا من الشمس ،
لا بد من ذكر أن الاضطراب النفسي صاحبَ الشاعر في ملحمته وهذا الاضطراب الوجداني كان شفافا في حين لحظات الهدوء وكان أغلبه حادا مصحوبا بوجع مما جعله ينتقل من مواطن الشفافية لمواطن القوة
يا ابن الماء الطاهر
كيف أتيت لهذا الزمن الغادر
فحمير تصعد فوق نجومِ الليل
وعباقرة تنزف عمرا
في بئر سوداء
الآن سترى ما ذكرت لك بهذا الانفعال الحاد ، فالمقارنة مصحوبة بصور رائعة فليس عدلا أن ترتقي الحمير .......... وذاك العبقري مركون لا وبل محارب من قبل خنازير العصر الذي قال عنهم.
لا تحفل بخنازير العصر وأنياب البلهاء
فقد أعطيت بما يكفي الشرفاء
هذا الشعور على العطاء هو استقلالية روحية راضية عن نفسها لما قدمت للآخرين .
الآن بانت وظهرت نهايات الرحلة حينما راح يجسد لنا المعاناة بشفافية
لم يبق لديك سوى الدعوات
وإله منتظر منك نداءا
في أناء الليل
ولقد سلمت إلهك روحا بيضاء
فارسم في أوراقك ما عندك
لم يبق سواك
تمعن الحزن القابع في نفسه والعودة لله حيث طمأنينة الروح بالدعوات بعد رحلة دامية مؤلمة جسد أحداثها بمرارة وتوهج روحي صاحبها شدة الأعصاب والتوتر والانفعال الوجداني الحاد
فالليل غطاؤك
وصباحك معطفُ روح
في رحلتك الحمقاء
انظر كيف وصف هذه الرحلة الحمقاء حينما اتخذ الليل غطاءا لعدم الرؤيا وهي استعارة رائعة وظف فيها الليل بطريقة رائعة وذاك الصباح الذي اتخذه معطفا للروح الهائمة
لم يبق سواك لكي يكشف زيف الدنيا
والأشباح السوداء
لغة الجزم التي استخدمها دلَت على القطع بأن ليس سواه من يكشف زيف الدنيا ومرتدي السواد ....... هذا الانفعال كان خارجا عن سيطرة الذات الشاعرة لشعوره بالغربة الدامية منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها فهو لم يرَ أثناء تسطير هذه الملحمة سوى الدواة والبياض وإليك الدليل القطعي على ذلك حينما قال :
يا منْ كنت وحيدا
وتظل وحيدا
تصطاد على الجرف بقايا سمك
الآن لو وقفنا على تظلُ سنجد أنّها لغة الحاضر هي السائدة لكنه لو قال ستظل لأختلف الأمر تماما ليقينه أنّه لن يظل وحيدا وكيف يظلُ وحيدا وهذه الأغنية الخرساء ستعلق بأسمه إلى ما لانهاية
الإنسان مهما دارت به الدوائر سيعود إلى الله حتما مقضيا ولنا شواهد في ذلك كثيرة وبرأي أقوى شاهد هو فرعون حينما طوقه الماء فما كان منه إلا  أن يؤمن لكن بعد فوات الأوان .........
حاتم عباس بصيلة وأثناء رحلته الموجعة لم يكن للحظة واحدة بعيدا عن الله حتى في مواطن كثيرة لمسنا تضرعه وابتهالاته من أجل كل شيء حوله وكان سببا في مواجعه ، والآن لنرى نهاية رحلته ليتجسد لكم ما قلت
يا رب الباطن والظاهر والمخفي عن الأبصار
يا رب سماء سابعة
أسمعت بأوجاع سابعة قبل النوم
أرأيت عذابا يرسمه المطوي
على جرح في صمت وعناء ؟
إن كنت إلهي حقا فخذ بيدي
فلقد ألمني الموت مع الأحياء
لا حظ الخطاب الوجداني بصيغة الدعاء المؤلم حينما يرى الأحياء أمواتا فكيف السبيل للعيش مع الأموات ......... دلالة على الغربة التي يعيشها
بصيلة عاش اثنين وخمسين عاما وصاحبته الغربة في كل هذه الأعوام ولم تنفك عنه أبدا وسيبقى غريبا ( غربة الروح ) وليس الجسد فلغة الأرواح عالم خاص وهو أشد معاناته .
أغنية بصيلة الخرساء وملخصها
1 –  لم تكن أغنية بصيلة خرساء حينما خرجت لنا لكنها كانت خرساء قبل ولادتها وحينما ولدت نطقت بما يفوق الخيال واخترقت النفوس
2 – الملحمة الشعرية تحتاج منا الكثير والوقوف عليها طويلا فليس من السهل اختزالها بعدة وريقات لما فيها من ثراء فكري واسع وأخيلة ذات أبعاد بعيدة تحتاج الوقوف عليها طويلا
3 – رغم طول هذه الملحمة حافظ الشاعر وببراعة فائقة على وحدتها الموضوعية مضمونا وشكلا
4 – أثبت الشاعرمن خلال براعته أنّه شاعرٌ بارعٌ يعرف كيف يرسم الصور بدقة متناهية ويختزلها أحيانا بأوجه بلاغية شعرية وليس سردية
5 – اللغة التي استخدمها كانت مزيج من اللغة المباشرة والرمزية والتي تخللها الإبداع من خلال مدلولات المفردات المتعددة الأغراض
6 – لم نلحظ طوال الملحمة ركاكة على الإطلاق فالانفعال الوجداني كان مشتغلا عاملا منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية وأحيانا مصحوبا بالقوة وأحيانا بالشفافية حسب مقتضيات الحال
7 – الملحمة عبارة عن هموم وطن وحكاية وطن دامية فما بالك وأنت تقف على وطن حدثت فيه من الأحداث ما لا يصدقه العقل أحيانا
8 – بصيلة في ملحمته كان خيرَ دليلٍ على المواطن الشهم والغيور على وطنه وأناسه والذين من حوله حتى استطاع أن يحمل هموم الفقراء والمظلومين من خلال تجسيده لصور شتى حدثت وجرت أحداثها ، وبهذا يكون بصيلة المثال السامي للشاعر الغيور الذي كان اللغة الناطقة لمن يسكن وطنه
9 – الصور الشعرية كانت بريشة فنان متمكن من أدواته زينها بالطبيعة الخلابة فإن تمعنت ستجد الطبيعة بأبهى الصور النهر والزهر والماء والخضراء والطرقات والمساجد والمعابد والمقاهي والقمر والليل ......... الخ
10 – الأفعال الحركية أعطت المطلوب والمراد الوصول إليه فلغة الأمر لم تنفك عنه مطلقا وكأنّه يريد تغيير الزمن من خلال سلطته الشعرية لأنه ليس أمامه من سبيل سوى لغة الشعر التي تخترق النفوس
11 – خطاب الذات الشاعرة إلى الشاعر نفسه الذي وظفه بطريقة النداء قد بين لنا ما أراد توظيفه إلينا ليرسمه لنا على شكل لوحات لم تخلُ من الجمال على الإطلاق
12 – مارس شهوته التمردية بحثا عن حرية التعبير بعيدا عن أي ضغوطات تحيط به
13 – الرذاذ اللغوي كان مكثفا واللغة الفنية مزينة بالحداثة لتحاكي واقعا ملموسا تتخللها الإضاءة الشعرية الحادة
14 – الملحمة بحد ذاتها ثورة عارمة على الظلم والقهر والفساد وهي بنفس الوقت رسالة عظيمة للنهوض من هذا الواقع المؤلم المرير
15 – النشاط في أدوات التعبير كان نشاطا لافتا للنظر دلّ على قدرة الشاعر وخيالاته الواسعة الممتدة إلى أفق بعيد قلما نراه عند الشعراء
16 – الاقتباسات القرآنية والتاريخية كان لها جرسا خاصا ووقعا كبيرا على النفوس ودلالة ذلك ثراء الفكر وخصوبة الوعي الثقافي
17 – استخدم الزمن بدقة متناهية حيث مزج الزمان والمكان معا وفق مقتضيات الأحداث التي أراد تجسيدها ، وبهذا تكون الأنا الشاعرة متمركزة في تناسق زمني مكاني يستطيع بعده الانتقال لزمان ومكان أخر وبلا تباعد لتكون السلسلة متوافقة فيما بينها
18 – المنظومات الفعلية التي استخدمها كانت منظمة وللغاية لأنها استطاعت أن تقوم بدورها الفاعل في تحريك عناصر الصور أي أنها لم تكن جامدة
19 – بصلية شاعر ذو مزاج خاص أنتج لنا نكهة حضارية مختلفة ذات طعم خاص وله مذاق خاص
20 – ليس من السهل اختزال هذه الملحمة في وريقات بل تحتاج بحثا كبيرا أدعو من خلاله الباحثين والمتذوقين والنقاد للغوص في طيات هذه الملحمة واستكشاف بواطنها بدقة والغوص في أعماقها ليقيني التام أنها ستخلد مع الزمن تغنيها الأجيال القادمة والله الموفق وهو من وراء القصد  .


الأغنية الخرساء ثورةٌ عارمةٌ كتبها بصيلة وأطلقها للفضاء، لتكون  اليوم ناطقة ، صوّر لنا فيها ملحمة طويلة راح فيها يخاطب نفسه بنفسه ويحاور كل ما يدور من حوله ويعالج بطريقته الخاصة ويحمل هموم الوطن بكامله ، الفقير منه والضعيف والمظلوم واليتيم والشهيد والمرأة المسكينة في هذا المجتمع الوقح ، يخاطب الزهر ويحاكي النهر ويحلق مع الطير ويقطن المرافئ الدافئة والمقاهي المكتظة بدوي الأصوات والمعابد والمساجد والطرقات ويتألم لما يدور من حوله فلم يجد أمامه من سبيل إلا بتسطير هذه الملحمة  .......
قال في مطلعها :
يا ولدي لا تحزن
حين يموت الشعر
وتنتحر الكلمات
يا ابن الماء الطاهر
هذا زمن
لا يحلم فيه سواك
خذلتك الأرض ومن فيها
وبقيت بعطر هواك
لا تحلم بصباح يبكي
لا ترسم لوحة أشواك
يا ابن الماء الطاهر
هذا زمن القوادين
بلحى يتهادون على الأرض
لاحظ الانفعال الوجداني وهو يخاطب ذاته من ذاته فالخطاب للذات وليس لولده كما يظن الآخرون ، مستخدما لا الناهية الجازمة لكي يقطع خيط الأمل الذي رآه مفقودا بعدما سيطر عليه القوادون أهل اللحى البيضاء .
هنا لا بد من الإشارة إلى أن المنظومات الفعلية الدالة على الأمر ، لا تحزن ، لا تحلم ، لا ترسم ،وبمستوياتها المختلفة قد شكلت لقطات ومصورات شعرية حديثة من خلالها استطاع محاكاة الواقع .
وتستمر الرحلة المؤلمة الموجعة لتبوح لنا الذات الشاعرية المزيد والمزيد مما يختلج النفس الشاعرية التي عانت الويلات أثناء ولادة المفردات
يا بن فراتك
أشعارك منفى
ويداك تقطع كفيها
ومعانيك تمزق في شفتيها
أطلق لعنانك أفكارا
واهرب من قيدك
إن قيودك
نيران تأكل نيرانا
إن هذه الصور المحتشدة بأرقى درجات التجلي الشعري والانفتاح الصوري كان المنظوم الأول لها هو الانفعال الحاد المحبوك بالأفعال الحركية التي دلت على الطلب وكأنها صيحات جاثمة على الصدر أراد التخلص منها بأيِّ طريقةٍ ممكنةٍ .
والآن لحظة هدوء قاتلة بعد الشعور بضياع العمر ، فما كان منه إلا إطلاق صيحات مؤلمة ، لكنها خافتة أما دواخلها ثورة انفجارية عارمة
ذهبت أيامُ العمر
على الطرقاتِ
وتمزقَ لحنٌ في النايات
فلماذا الصمتُ ؟
على الكفر
على الهذيان
في زمنٍ تعلو الأوشالُ به
يتمزقُ الفكرُ ويُهانُ
لماذا يحتفلُ الناسُ بقتلاهم ؟
لماذا يحترقُ الوردُ على التابوت ؟
الآن باتت الصورة واضحة وجلية من خلال الاستفهام البلاغي المختزل والدال على ما أراد البوح به وما أراد أن يترجمه لنا حينما يراه واقعاً ملموساً يدور حوله كل يوم ،،،، فليس من المعقول أن تطلق الرصاصات لمقتول وضعوا الورد على تابوته ........
بصيلة في هذه الرحلة كان طبيباً ماهراً ومشخصاً دقيقاً ولكنَ المرضى حوله كثيرون وأمراضهم مستعصية .
ليس من السهل أن يتصالح الشاعر مع من حوله رغم أن التواضع والنزول إلى أضعف طبقات المجتمع من صفات الشاعر الناجح وما قصدت بالتصالح هو التوافق الفكري فأحيانا يكون صمت الشاعر لغة ولكنها تحتاج مترجما خارقا للنفس البشرية ومن هذا يتولد الإلهام الشعري ليعبر عن مكنونات لا يمكن أن تفهم إلا من خلال اللغة وفي مرات ومع ذلك لا تفهم اللغة أيضا بالشكل الصحيح .
ما أردت الوصول إليه أن بصيلة في هذه الملحمة أراد أن يصل لقناعة مع نفسه أن القصيدة يجب أن - تجعل العالم يعني شيئا - وأن القصيدة قادرة أن تحدث تأثيرا أو تغيرا في حياته وحياة الآخرين وأنا متيقن حينما فرغ بصيلة من القصيدة شعر أنّه حقق ما أراد الوصول من خلال أغنيته التي تنطق الآن بيننا والتي كانت الخرساء قبل الكتابة بها ،
لا تسأل نفسك
من أين أتيت وكيف رحلت
انك لغزٌ مسكونٌ بعجائب هذي الدنيا
فارحل عن شعرك
ذاك هو الشعر
وتمسك بهديل حمام في طرف البستان
الآن تمعن بدقة إلى.. فارحل عن شعرك ، ذاك هو الشعر ،،،، ستجد أنه أراد الإفصاح أن الشعر هو الشعر كما هو باقٍ أن لم يحدث إعجازا خارقا للنواميس الطبيعية ..... فعلام البقاء مع الشعر وهو بلا جدوى
لغة الأمر لم تنفك عن الذات الشاعرة في هذه القصيدة وهي دلالات واسعة المعاني والأبعاد صدرت من روح تحاول أن تغير هذا العالم حتى راحت تنظر بعيدا للمستقبل فقط ، المستقبل المصنوع من خيال بعيد عن الواقع المدمر الذي أحاط بالشاعر وهنا ستلحظ ذلك
وتمسك بهديل حمام في طرف البستان
يا من يتساقط قبلا وحنانا
لصبايا ترقص مثل خيال
في أعماق الفنجان ...........
لو تمعنت في الأغنية الخرساء جيدا بدقة ستجد روعة الطبيعة ومدلولاتها الخلابة الساحرة وكيف استطاع الشاعر أن يجعلها مؤثرا كبيرا  له الوقع على نفس المتلقي وخصوصا المزيج الطبيعي للحياة الريفية والحياة المدنية وأظن أن الشاعر يعيش ما بين البيئتين منذ ولادته ..
هذه الملحمة الكبيرة هي حكاية وطن لا تنتهي جسدها بأروع الصور منها مقابر الشهداء وكيف تُشنق الكلمات عند مقصلة الطغاة وأكف البغاة وفلسفة الذئاب ، وامرأة عجوز قتلها بردُ الشتاء ، وهو بين كل ذلك يرى نفسه وكأنّه ليس من هذا العالم لذا ظل ينشد مستقبلا خياليا محاولة منه للهروب من هذا الواقع الذي جعله لا يعرف سوى الغربة الروحية رغم كل ما يدور حوله
يا ابن الموج الهادر
أورقك الحزنُ
وأصبحت ثمارا بين الكفين
أو الكفين لا فرق لديك
ما أروع موتك
حين تكون ظلالا للفقراء
لاحظ الخطاب المليء بالشموخ والاعتزاز بالنفس حينما صور نفسه ميتا لكنه سيبقى ظلالا للفقراء ، هنا ستجد وتلحظ مدى الهموم التي يحملها في طياته ومدى المؤثرات التي تؤثر عليه والتي ستجعل منه مثالا رائعا  يوما ما
يا ابن الماء الهادر
لا تهدأ أبدا
واصرخ في وجه كلاب
زانية بذيول سوداء
الثورة العارمة لم تنفك مطلقا والصيحات مستمرة بوجه الطغاة وهي بحد ذاتها دافع قوي له وشحنة كبيرة لمواجهة ما يدور حوله وحولنا
النداء المستمر حوّل الملحمة إلى حكاية سردية رائعة توجب على المتلقي أن يلتفت لها ، وهذا النداء المستمر بلاغة كبيرة عرف كيف يستخدمها بطرق سهله ، فليس من السهل أن لا تلتفت لمن يناديك
لذا كان ذا حبكةٍ قويةٍ وهو ينادي الغير للفت النظر في حين كان النداء موجها لنفسه أي للذات الشاعرية .
النداء كان جوهريا فاعلا مكثفا ثريا عميقا ممزوجا متلاحما مشكلا تشكيلا هندسيا ونابعا من رؤية شاعر حاذق متمكن من أدواته .
يا ابن القصب المرتفع الآهات
يا ابن المصطبة الحمقاء على أمل
أن تجلس عاشقة
بيديها ظل كتاب من قلق الماء
لاحظ الصور الممزوجة بروح الوطن وتراثه وتاريخية وهو يجوب بنا ويحلق بعيدا للقصب وذاك المقعد المفتقر لعاشقة .........
ما كان ملفتا للنظر وبغرابة كيف استطاع بصيلة الحفاظ على وحدة القصيدة الموضوعية ومضامينها ، وهل من الممكن لشاعر أن يكتب هذه الملحمة لمجرد انفتاح القريحة الشعرية لوقت قصير مثلا ، والقصيدة تحتاج أياما وليالٍ .........
ليس لدينا أيُّ تفسير سوى التيقن بأن القريحة الشعرية للشاعر صامَتْ طويلا وطويلا محشوة بالكثير المتراكم وكانت بحاجة للحظة انفجار وانفجرت وما أن انفجرت لم تهدأ أبدا وظلت هذه الثورة عارمة إلى أن انتهت القصيدة...
مهزلة هذي الدنيا
ابصقْ جرحك فالجرح لئيم
وادرْ وجهك نحو الموت
فالموت جبان حين يراك
وأدر وجهك عن خنزير يتلبس ثوبَ الله
ويكركر ( حوقلة )
تحت ظلال الشيطان
الآن ستدرك تماما أن الشاعر كان لساناً للكثير ومترجما لهم حينما صوّر لنا مهزلة تدور حولنا من المتسترين بلباس الدين والعفة وهم تحت ظلال الشياطين ..........
لا بد من ذكر أن الشاعر ملكٌ للجميع فحينما يقرأ المتلقي كلماته يتصور أنها كُتبت من أجله أو يتصور أن الكلمات التي كتبها الشاعر كانت أمنية يتمنى أن يكتبها لكنه ليس شاعرا ،، وبهذا يظهر للناس جليا أن الشاعر ليس كما الآخرين ، ما أردت الوصول إليه أن الشاعر يجب أن يكون شعره رسالة إنسانية عظمى تحاكي جميع النفوس وتعالج ما يعاني الناس من هموم وما يشعر به الناس من ألم ... فإذا ما فقد الشاعر هذه الصفة فهو ليس شاعرا .
ما هذا العالم إلا ثرثرة ودعاء مكذوب
بفم اللحية والدهماء
ما هذا العالم إلا أغنية
بفم أخرس تحت الماء
مزيج من صورة بلاغية مختزلة بطريقة عجيبة نمت عن شاعرية فذة فكثيرو الكلام الخارج من فمٍ مخادع باتت السطوة والسلطة لهم بكثير من مسميات دخلوا من خلالها ....
ثم المقارنة وتصوير العالم بأغنية تنتشي لها الأسماع وتطرب لها الروح لتذهب لعالم ليس فيه سوى السلام والحب ، لكنها محجوبة لأن الناطق بها ذو فم أخرس والأكبر من ذلك هو تحت الماء .......
الصورة لغة حداثوية جديدة قوية الحضور مرصعة برذاذ ذهبي عرف الشاعر أن يوظفها توظيفا قويا مؤثرا علينا حينما وضعنا أمام صورة رائعة جعل من المقارنة فيها أمرا واقعيا ملموسا الكل يؤمن به ..
الأنا الشاعرية هنا كثفت من المدلولات الحسية وبهذه المدلولات نستشف أن الشاعر ما كان همه القصيدة بل كان همه التعبير عما يدور بداخله وكأنه مترجمٌ لما نريد البوح به .
هذا الشاعر ابن الوطن الحقيقي الذي يموت في اليوم ألف مرة حينما يرى الأحداث والمجريات المؤلمة من حوله ، وحينما يرى الجمال بطرق تختلف عن طرق الآخرين لذا تراه دوما مزويا مطويا على نفسه .
انظر كيف يحاكي نفسه بنفسه ليترجم لنا
العنْ من يلبس ثوب الله ويسكر من دمع الفقراء
العنْ عربات اللهو تسير على قافلة الشهداء
انظر إلى كلماته وهو يحارب طغاة العصر ويفضحهم ، فبات يقينا موت الفقراء من الجوع بعد ما سرق مرتدو ثوبِ الله قوتهم ، وتلك العربات التي تسير والشهداء تذهب ضحية لهم ...
لو أمعنا التدقيق في أواسط الرحلة لأنكشف لنا حدة الخطاب الشعري وتوهجه القوي وهو يخاطب نفسه بلغة اللوم وكأنَه يلقي على عاتقه مسؤولية العالم الذي يدور حوله وهي خطابات وجدانية حادة نستطيع عدها ذروة الملحمة
ما لك يا ابن بصيلة لا تكتب شيئا
بعدها عبر عن مكنوناته بطريقة وكأنّه يعاتب نفسه وهنا أفصح صراحة بأسمه
حدثني
حدثْ أتربة في الدار
ما أنت سوى شبح
في الكون يدور
ما أنت سوى كلمات تسرق من عمرك
تصوير غاية الدقة وكأنّه شبحٌ والكل لا يراه هذه الصورة مدلولاتها عميقة أراد من خلالها التعبير عن التأثير والمؤثر وسبب الوجود وكيفية تلاقح الأرواح التي أن تنافرت تباعدت وكأنك لا ترى منْ حولك ولا هو يراك ، ثم فناء العمر في رسم الكلمات التي أخذت العمر
في المقهى ضاعت فيك السنوات
ورحلت مع الوهم
لترسل آلاف الكلمات
كانت مثل فراش حام على النار
فأحرقها النور
وشوق الرغبات
حكاية المقهى عند بصيلة يظنها الناس أمراً عاديا ولكنها جزءٌ لا يتجزأ في حياة بصيلة بعد ما تأكد لدينا حتما أنّ هذه المقهى هي الملهمُ الأول والأقوى لقصائد بصيلة ، بل وأكثر القصائد التي كتبها كان مصدر إلهامها المقهى التي يجلس فيها
في المدرسة الحمقاء
كنت تظن
بأن بلادك لا تكذب
لكن القائد موهوب بالكذب
وبالعهر المجاني
وبتسويق خطاب مدني
خدر أحلام البسطاء
في المدرسة الحمقاء
صورٌ رائعة تتجسد هنا حيث المدرسة وأحلامه التي كان يرسمها ويرومها في المستقبل وذكريات عالقة في الذهن حيث ذاك القائد الكاذب وخطاباته الوطنية الزائفة
منذ بداية الملحمة ونحن نلحظ الوحي المكاني موجودا وبكثافة كالمقهى والمدرسة لذا كان الفضاء المكاني واسعا وهذا أحد أسباب الانفتاح الشعري للذاكرة التي خرجت من بطانة الذات الشاعرة لتشمل فضاء الأمكنة والأزمنة والوقائع .
الرؤيا في كثير من الأحيان للذين حولك تكاد تكون معدومة ، ليس بصريا وشكليا بل رؤية القلب حتى وكأن الذين حولك موتى
لا تأسف لأنين الموتى
هم موتى
فعلام صراخك في الموتى
جناس بلاغي فيه من الصور الكثير الدالة على مدلولاتها ، وما يهمنا أن النظرة أصبحت قاتمة وسوداوية نتيجة اليأس الذي كان واضحا وجليا في هذه الرحلة البوحية المملوءة بالأحداث الدامية
في الشارع يمشي
يرسل غيم الله عليك ظلالا من رحمته
فتسير بظل الغيم
وظل الخالق يا سبحان الله على رحمته
يا سبحان الله
في الشارع تمشي
تمشي خلفك آلاف الهمسات
يمشي الشاعر لا يدري
أن ملائكة ......... فوق فراتك تعزف ألحان الشهداء
هذه الصورة لا تخلو من رؤية واقع مرير مؤلم قد تعلم على الهمس والغمز واللمز ، لكنه لا يبالي ما دام الله موجودا
الشاعر وفي هذه المرحلة بالذات من القصيدة وصل إلى يقين أنّه ملكُ الآخرين حينما قال
يا ابن بصيلة
منقسم أنت إلى آلاف الشهداء
تتشظى ألما وغناءً وقصائد نثر
أو شعر
ما همك غير المعنى الكوني
لجرحك
هذه الكلمات دلالات على أن الشاعر يقطن في كل مرافئ الوجع ويدور حولها ليجسدها لنا قصيدة من خلال وجدانه المتفجر كالماء حيث المشي في الشارع والأوراق معه ليصور الخيبات والأحداث التي يراها .
الآن لا حظ كيف يصل إلى قناعة تامة أنه دوما في رقي وأن الصدق هو الفاصل الحقيقي وأن ترك الزيف والنفاق توصلان الإنسان ليكون نبيا حتى راح واضحا وهو يصور الصلاة التي تأتي إليه وليس هو الذي يذهب لها حينما مرّ على مسجدِ اكتظ بالمصلين
في المسجد صلى آلاف المحسوبين على الله
وأنت تصلي
في لحظة عشقك حتى كنت صلاة
قد يمشي المسجد نحوك
أو يمشي الشارع نحوك
أو تمشي الأرض على كفيك
ذلك أن جواهر روحك
عافت أشكال النكبات
صورة رائعة أراد منها المعالجة بقدر ما تكون هي اعتزاز بالنفس ، كما وأنها صورة تدعو إلى طهارة ونقاء النفس الإنسانية فالشكليات عند الله لا تعني شيئا ما دامت البواطن غير نقية .
المسيرة لازالت مستمرة مزينة بأروع الصور حيث المشي مع الصباح وبزوغ شمس الغبش ثم مخاطبة الذات الشاعرة
يا ابن ورود
غازلها المطر الشفاف
ما بالك تعرف ألحانا سوداء
قد يسقط يوسف في بئر
ويصار إلى ملك وجاه
الآن لنقف هنا على صورة رائعة اقتبسها من القران الكريم وهي صورة يوسف في البئر التي كانت سببا لأن يكون عزيزا متوجا على مصر بعد ما حدث له ..... فهو ومن خلال يقينه أن الذي يدور حوله قد يتحول يوما لجانبه وهو باعث قوي لعدم الاكتراث لما يدور حوله ، ثم صور رائعة استخدم فيها  - قد - وكررها عدة مرات التي أفادت الشك لمحاكاتها المستقبل
قد تكتب شيئا لا يوجد في الدنيا ...... دعوى للصبر والأمل موجود
قد يرقص طيرٌ مذبوح من أجل رؤاك
قد يغتسل الماء بطهرك
كل هذه الاحتمالات واردة الوقوع عززها بشاهد ودليل قاطع وهو ما جرى ليوسف عليه السلام .
ولا زلنا مع الاقتباسات الرنانة التي وظفها بطرق رائعة
وعلى الشاطئ يجلس مفجوعٌ يتوسل بالغائب
أن الغائب سوف يعود
لكنّ الغائبَ مشغولٌ بضياع العصر
وضياع العمر
لن يأتي أحدٌ
فالشاطئ ملغوم بفواجع هذا الإنسان
والعصر إن الإنسان لفي خسر
فأرحل عن شاطئك السحري
لاحظ كيف استخدم الآية المباركة ليستدل بها دلالة جازمة قاطعة كان لها الأثر البليغ على النفس ، ثم تستمر رحلة الوقوف على الشاطئ حيث ضوء الفجر على أمل لقاء امرأة من صنع الخيال كانت تغزل خيطا من الشمس ،
لا بد من ذكر أن الاضطراب النفسي صاحبَ الشاعر في ملحمته وهذا الاضطراب الوجداني كان شفافا في حين لحظات الهدوء وكان أغلبه حادا مصحوبا بوجع مما جعله ينتقل من مواطن الشفافية لمواطن القوة
يا ابن الماء الطاهر
كيف أتيت لهذا الزمن الغادر
فحمير تصعد فوق نجومِ الليل
وعباقرة تنزف عمرا
في بئر سوداء
الآن سترى ما ذكرت لك بهذا الانفعال الحاد ، فالمقارنة مصحوبة بصور رائعة فليس عدلا أن ترتقي الحمير .......... وذاك العبقري مركون لا وبل محارب من قبل خنازير العصر الذي قال عنهم.
لا تحفل بخنازير العصر وأنياب البلهاء
فقد أعطيت بما يكفي الشرفاء
هذا الشعور على العطاء هو استقلالية روحية راضية عن نفسها لما قدمت للآخرين .
الآن بانت وظهرت نهايات الرحلة حينما راح يجسد لنا المعاناة بشفافية
لم يبق لديك سوى الدعوات
وإله منتظر منك نداءا
في أناء الليل
ولقد سلمت إلهك روحا بيضاء
فارسم في أوراقك ما عندك
لم يبق سواك
تمعن الحزن القابع في نفسه والعودة لله حيث طمأنينة الروح بالدعوات بعد رحلة دامية مؤلمة جسد أحداثها بمرارة وتوهج روحي صاحبها شدة الأعصاب والتوتر والانفعال الوجداني الحاد
فالليل غطاؤك
وصباحك معطفُ روح
في رحلتك الحمقاء
انظر كيف وصف هذه الرحلة الحمقاء حينما اتخذ الليل غطاءا لعدم الرؤيا وهي استعارة رائعة وظف فيها الليل بطريقة رائعة وذاك الصباح الذي اتخذه معطفا للروح الهائمة
لم يبق سواك لكي يكشف زيف الدنيا
والأشباح السوداء
لغة الجزم التي استخدمها دلَت على القطع بأن ليس سواه من يكشف زيف الدنيا ومرتدي السواد ....... هذا الانفعال كان خارجا عن سيطرة الذات الشاعرة لشعوره بالغربة الدامية منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها فهو لم يرَ أثناء تسطير هذه الملحمة سوى الدواة والبياض وإليك الدليل القطعي على ذلك حينما قال :
يا منْ كنت وحيدا
وتظل وحيدا
تصطاد على الجرف بقايا سمك
الآن لو وقفنا على تظلُ سنجد أنّها لغة الحاضر هي السائدة لكنه لو قال ستظل لأختلف الأمر تماما ليقينه أنّه لن يظل وحيدا وكيف يظلُ وحيدا وهذه الأغنية الخرساء ستعلق بأسمه إلى ما لانهاية
الإنسان مهما دارت به الدوائر سيعود إلى الله حتما مقضيا ولنا شواهد في ذلك كثيرة وبرأي أقوى شاهد هو فرعون حينما طوقه الماء فما كان منه إلا  أن يؤمن لكن بعد فوات الأوان .........
حاتم عباس بصيلة وأثناء رحلتة الموجعة لم يكن للحظة واحدة بعيدا عن الله حتى في مواطن كثيرة لمسنا تضرعه وابتهالاته من أجل كل شيء حوله وكان سببا في مواجعه ، والآن لنرى نهاية رحلته ليتجسد لكم ما قلت
يا رب الباطن والظاهر والمخفي عن الأبصار
يا رب سماء سابعة
أسمعت بأوجاع سابعة قبل النوم
أرأيت عذابا يرسمه المطوي
على جرح في صمت وعناء ؟
إن كنت إلهي حقا فخذ بيدي
فلقد ألمني الموت مع الأحياء
لا حظ الخطاب الوجداني بصيغة الدعاء المؤلم حينما يرى الأحياء أمواتا فكيف السبيل للعيش مع الأموات ......... دلالة على الغربة التي يعيشها
بصيلة عاش اثنين وخمسين عاما وصاحبته الغربة في كل هذه الأعوام ولم تنفك عنه أبدا وسيبقى غريبا ( غربة الروح ) وليس الجسد فلغة الأرواح عالم خاص وهو أشد معاناته .
أغنية بصيلة الخرساء وملخصها
1 –  لم تكن أغنية بصيلة خرساء حينما خرجت لنا لكنها كانت خرساء قبل ولادتها وحينما ولدت نطقت بما يفوق الخيال واخترقت النفوس
2 – الملحمة الشعرية تحتاج منا الكثير والوقوف عليها طويلا فليس من السهل اختزالها بعدة وريقات لما فيها من ثراء فكري واسع وأخيلة ذات أبعاد بعيدة تحتاج الوقوف عليها طويلا
3 – رغم طول هذه الملحمة حافظ الشاعر وببراعة فائقة على وحدتها الموضوعية مضمونا وشكلا
4 – أثبت الشاعرة من خلال براعته أنّه شاعرٌ بارعٌ يعرف كيف يرسم الصور بدقة متناهية ويختزلها أحيانا بأوجه بلاغية شعرية وليس سردية
5 – اللغة التي استخدمها كانت مزيج من اللغة المباشرة والرمزية والتي تخللها الإبداع من خلال مدلولات المفردات المتعددة الأغراض
6 – لم نلحظ طوال الملحمة ركاكة على الإطلاق فالانفعال الوجداني كان مشتغلا عاملا منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية وأحيانا مصحوبا بالقوة وأحيانا بالشفافية حسب مقتضيات الحال
7 – الملحمة عبارة عن هموم وطن وحكاية وطن دامية فما بالك وأنت تقف على وطن حدثت فيه من الأحداث ما لا يصدقه العقل أحيانا
8 – بصيلة في ملحمته كان خيرَ دليلٍ على المواطن الشهم والغيور على وطنه وأناسه والذين من حوله حتى استطاع أن يحمل هموم الفقراء والمظلومين من خلال تجسيده لصور شتى حدثت وجرت أحداثها ، وبهذا يكون بصيلة المثال السامي للشاعر الغيور الذي كان اللغة الناطقة لمن يسكن وطنه
9 – الصور الشعرية كانت بريشة فنان متمكن من أدواته زينها بالطبيعة الخلابة فإن تمعنت ستجد الطبيعة بأبهى الصور النهر والزهر والماء والخضراء والطرقات والمساجد والمعابد والمقاهي والقمر والليل ......... الخ
10 – الأفعال الحركية أعطت المطلوب والمراد الوصول إليه فلغة الأمر لم تنفك عنه مطلقا وكأنّه يريد تغيير الزمن من خلال سلطته الشعرية لأنه ليس أمامه من سبيل سوى لغة الشعر التي تخترق النفوس
11 – خطاب الذات الشاعرة إلى الشاعر نفسه الذي وظفه بطريقة النداء قد بين لنا ما أراد توظيفه إلينا ليرسمه لنا على شكل لوحات لم تخلُ من الجمال على الإطلاق
12 – مارس شهوته التمردية بحثا عن حرية التعبير بعيدا عن أي ضغوطات تحيط به
13 – الرذاذ اللغوي كان مكثفا واللغة الفنية مزينة بالحداثة لتحاكي واقعا ملموسا تتخللها الإضاءة الشعرية الحادة
14 – الملحمة بحد ذاتها ثورة عارمة على الظلم والقهر والفساد وهي بنفس الوقت رسالة عظيمة للنهوض من هذا الواقع المؤلم المرير
15 – النشاط في أدوات التعبير كان نشاطا لافتا للنظر دلّ على قدرة الشاعر وخيالاته الواسعة الممتدة إلى أفق بعيد قلما نراه عند الشعراء
16 – الاقتباسات القرآنية والتاريخية كان لها جرسا خاصا ووقعا كبيرا على النفوس ودلالة ذلك ثراء الفكر وخصوبة الوعي الثقافي
17 – استخدم الزمن بدقة متناهية حيث مزج الزمان والمكان معا وفق مقتضيات الأحداث التي أراد تجسيدها ، وبهذا تكون الأنا الشاعرة متمركزة في تناسق زمني مكاني يستطيع بعده الانتقال لزمان ومكان أخر وبلا تباعد لتكون السلسلة متوافقة فيما بينها
18 – المنظومات الفعلية التي استخدمها كانت منظمة وللغاية لأنها استطاعت أن تقوم بدورها الفاعل في تحريك عناصر الصور أي أنها لم تكن جامدة
19 – بصلية شاعر ذو مزاج خاص أنتج لنا نكهة حضارية مختلفة ذات طعم خاص وله مذاق خاص
20 – ليس من السهل اختزال هذه الملحمة في وريقات بل تحتاج بحثا كبيرا أدعو من خلاله الباحثين والمتذوقين والنقاد للغوص في طيات هذه الملحمة واستكشاف بواطنها بدقة والغوص في أعماقها ليقيني التام أنها ستخلد مع الزمن تغنيها الأجيال القادمة والله الموفق وهو من وراء القصد  .
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق