أبحث عن موضوع

الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

ق.ق ............................ بقلم : كريس مروان قرقوط / سورية






كنت دائماً ما احدق من نافذة سرداب منزلنا الصغيرة ببائع البسطة الذي يكبرني بثلاثة اعوام فقط، كنت اراقب بنهم ملامحه عندما يبيع الكتب المرمية بصورة عبثية بين الاتربة و دخان السيارات ليجني قوت يومه حتى لا ينخر الجوع و البرد عظامه التي تحتضن عائلته بأكلمها، دواوين غسان كنفاني و نزار قباني التي تتربع فوق ذاك الكم الهائل من الكتب، نوتات الموسيقا العشوائية لباخ و موزارت التي لا تجد لدقائقه السمراء الشاحبة سبيلاً لكي تدس من علاماتها ما يؤنس روحه المرهقة. و حتى كتب وصفات الطبخ التي غالباً ما كانت تجذب نساء الحي اجمع. لازلت اذكر انه كان يبيع بعض المجلات لرجالٍ كبارٍ في السن اتضح لي فيما بعد انها مجلات خلاعية و ليست ثورية او اعتصامية سرية كما كنت اظن. كبرت و لم يزل بائع البسطة على رأس عمله المتواضع، بذات الملامح الكامدة و الجسد الزهيد بالقرب من ازهار اوركيد الحي المتفرعة من احدى حيطان الاسمنت المتشققة من بيت السيدة جانيت. كنت اسامر ساعات ضجري بعدّ ابتساماته المبتذلة لكل المارة لكي يجذب انتباههم في زمن ما عادت الكتب فيه مغرية او عظيمة الشأن كالقنوات المتلفزة و صيحات الموضة او القتل في سبيل القضية العامة المدانة عالمياً باسم الطائفية او حتى الاعتداء على حُرمة قدسية الجسد الانثوي تحت احدى المسميات الدينية. بائع بسطتنا لم يكن كأي بائع بسطة، فقد كان صوته كأي لفظ جلالة او سيمفونية موسيقية بحتة حين ينادي بعطفٍ؛ الكتاب خير لك من الف صديق فيُحجب صوته وراء صراخ بائع المازوت الاجش حين يقاطعه و يصطاد اهتمام كل المارة كبارجة في وسط بحر يعج بالغارقين. لعله كان اعقد مما كنت اظن، فصبي مثله في ريعان الشباب و هذا الجمال الألوهي لم يكن مكرساً لمغازلة اعباء الحياة وادمان السجائر في هذه السن المبكرة، بل كان يتعين ان يُمجد كأي معلم كاد ان يكون رسولاً، الا ان الحياة شاءت أن يؤول حاله الى ازقة دمشق ليتسول اهتماماً قبل النقود. كان يطوف كل الشوارع ليلم اي قطعة ورق تزين بستطه، ليعود و يمكث لعشرات الساعات حتى يستقل الحافلة الى الطرف الشرقي من المدنية. الأن عرفت بان حارتنا كانت ضيقة جداً عليه في زخم تراشق اطفال حينا لاسوء الالفاظ اثناء العابهم الصبيانية الا انني على اتم اليقين بانه لم يكن يكترث باي شيء سوى جواهره النبيلة تلك على الرغم من اميته. فكم من السذاجة ان يتحكم القدر بمصائرنا الى هذا الحد فيحارب صبياً لم يصل سن البلوغ بلقمة عيشه في بلد يطوف بكل شيء سوى العدل. ببلد يطوف بالذل و الحقد و الفقر و كل اسباب الرحيل. فينتهي به المطاف مردياً باحلامه في احدى ازقة شآم المبجلة، يا الهي لكم هي نزوة سوريا غير مغتفرة، لتغرق في بحر دمٍ كهذا بعد ان وافتها المنية مسبقاً من كل عوالم الهجرة و سم اولاد شمسها الذي ابتلعته بطوعية الامومة خوفاً عليهم من كافر يذبحهم براية الحق او انسان يفرقهم خلسةً خلف ستائر قانونية مخملية ذات جودة عالية. لعل بائع بسطتنا لم يدرك يومها بأن حتى الكتب المقدسة المغلفة بشرشفه الابيض لم تعد كفيلةً برد القضاء عنه و عن كل موطئ قدم في وطن ينزف كهذا، بل اصبحت اسرع وسيلة لتجريم كل رغبة انزوت في قلبه، او شتيمة احرقت فمه يوماً. لعله لم يدرك حينها بأن السماء ما عادت تعبث سوى بمن لا حول لهم لتشيء زفه عريساً لاحدى شخصيات شكسبير، مكفنّاً باوراق كتبه و مُزيَناً عروسه باحمر شفاه توتيّ اللون من دماءه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق