تَضعُ وشاحها الأحمر دُون أن ترتبه أمام المرآة. آخر الرتوشات تبدو لها روتينية كي لا يُحس بأي تغيير. تغيير؟ تهمس لنفسها:
- ماذا تبقى مني منذ آخر مرة التقينا؟
ترسم ألوان مكياجها بحرفية ككل لقاء وبنفس الإتقان.
- كنت أرسمك بين خطوط يدي
حين جاء شتاء الحزن
وسقطت أوراق الأشجار
لا يسمعك ويسمعني
غير البحر
والشجر العاري
والليل القاتم..
كأنها قرأت المقطع فوق علبة المكياج..لا تتعب ذاكرتها كي لا تتأخر على موعدها الهام. أو لعل المقطع الشعري ترآى لها عبر زجاج المرآة اللعينة التي تكرهها لأنها لا تعرف الخداع.
- سألتقيه يا لفرحتي المجهضة..!!
المكياج لا يُتعبها..لا يغزوها التعب التام إلا عندما تضطر لكي ترسُم له فوق شفاهها ابتسامة منتحرة وسكاكين دامية داخلها تمزقها بمخالبها في صمت.
- منال، ابنتي هيا بنا لقد تأخرنا.
تقطع أمها شريط أحزانها،وتُسرع لتتأبط لهفتها ويخرجان نحو سيارتها الحمراء. استعدت للموعد كما تفعل منذ عامين ونيف.بنفس طقوس اللقاء واللهفة والانهمار والوداع على أمل بقاء ولو لبرهة قصيرة.
عبر طريق شَجَنها مرت دقائق السفر كاحتراق بطيء.تأملت صورته المعلقة بالسيارة. تصر على وضعها في مواجهة النسيان. ابتسامته لازالت ندية برغم الصدأ.
- "ما يمنع العيون أن تُدمن حنينها؟"
"ما يرد الصدى عني
وصوتي ضائع في الغياب ؟"
ما لقلبي أيها الممتد في الأسر
حزنا واغترابا
يعشق أن يعانق الجرح فيك
ليستريح...
كأنها قرأت المقطع عبر زجاجة سيارتها.. تُوقفُ سيلان ذاكرتها كي تجمع قوتها الهشة للقاء.
والدتها تُصارع مُصابها،وهي تُغالب ارهاصات الذكرى والألم والانكسار لغياب طويل.
- منال؟ أين وصل تفكيرك أبنتي؟
- أنا؟ يا ماما،يا أحلى ماما.أنا أفكر فيك فقط أنت دنياي. وهي توهمها أنها تركز في طريقها وسياقتها.
- ...
تقرأ ملامح صمت أمها،وتغوص لعمق جرحها،وتفكيرها في فلذة ابنها جهاد الذي التهمه السجن منذ عامين بعد أن غرق بمستنقع العقارات بطنجة المدينة السر. قرأت ما تقوله أمها وهي تصيح لذاتها.
- سألقاك اليوم يا بني بفرح أمومة مشتاقة..
وتقرأ ما تقوله هي لنفسها..أنا الشاعرة سابقا.. لا أفكر إلا فيه يا أمي كما تفعلين أنت. قررت أن أعتزل الكتابة منذ عامين. بعد انغماسي بعالم روتين زيارات ماراطونية لأخي صامد عبر سجن بمدينة طنجة،وبعدها بسجن بمدينة سيدي قاسم ووأخيرا بسجن بمدينة العرائش..فدماغها رفقة شيطان شِعرها تقول لنفسها كاذبة لا يفكران إلا في أخيها خلف الأسوار في سجنه الرهيب.
تتبعه من سجن لآخر،من مدينة لأخرى.
عليها أن تُساند أمها في حزنها،وتبقى محافظة على نفس الثبات الذي رسمته في أول زيارة حتى لا يُحس أخوها بأي تغير. كأنه لا زال معهم خلف تلك الأسوار التي تكرهها.أو حتى تُوهم نفسها بأنه لم يتغير شيء.. مع أنها متأكدة بأن كل شي تغير. كل شيء...
تقرأ في لوحة الإعلانات التي تمر أمامها:
- ما أحببت الجدران يوما
وما أحببت الصمت الذائب في العظام
ما أحببت الخوف الرابض في الكلمات
ولا سماسرة الشجن
لا تساير ذاكرتها كي تتأكد أين تطالع المقطع.
قرب باب السجن تقف ممسكة بأمها. ينهشهما الحزن تِباعا وفي صمت صاخب. ينتظران –كالعادة- ومنذ عامين..موعد الزيارة.
تسجُن ابتسامتها كأنها في تمرين عضلي كي لا تفقدها لاحقا. تتفرس منال في الوجوه المنتظرة بنفس الطريقة،وهي تغوص داخل حيواتهم فوراء كل سجين قصة وقضية.ووراء كل قضية قلب محب جُرح.
أمهات صرعهن الابتعاد...البعد موت داخلي بين الأمل والقهر ببنوة مفقودة.
أبناء غلبهن اليتم المؤقت. اليتم بدون موت معلن يصيب بزخم الموت الغير المعلن.
أخوات وزوجات سلبهن الانتظار بهاء الغناء دون أن يترك لهن فسحة الصراخ.
تقِيسُ بمتر اشتياقها مسافة الباب والسور المجاور وهي تعتصر دقائق اللقاء من قبل أن تعتصرها.
- ماذا أملك يا أخي
حين يسكن الحنين قلب أمك
ويفزع المكان والصمت
حين تعاندها الريح
وتخنقها أنفاس الأرض
ويخذلها الدرب والنسيان
كأن المقطع كتب بباب السجن الأزرق.أو لا تذكر أين..لا يهمها أين..
تبتسم لأمها وهي تقتل كما العادة زمن الانتظار في ثرثرة متآمرة مع زائرة هدها الانتظار. كأنها تختفي المسكينة في هموم وقصص الأخريات لكي تتأكد أنها ليست وحدها..
- ماذا أملك
حين اراها تفتش بين خطوط العمر
وتتيه بعيونها الحزينة
تساءل الشفق الأزرق في أمواج الشمس
أما لهذا الانتظار من نهاية؟
أما تعبت كل نواميس الدهر
والحزن قد غدا
يسري في الشرايين مهانة؟
كأنها طالعت المقطع على جلباب أمها.ترمق لباس أمها لكنها لا ترى غير لون حزنها العنيد.
يقطعُ أزيز انفتاح الباب الصدئ صمت الانتظار ولهفة اللقاء. تتطاير العيون لما وراء الباب كأنها مع موعد تاريخي لكنه مؤقت بدخول قصير خاطف يهزأ بمن في الداخل كي يُوهمهم بمواجهة القيود والسجن. السجين عاشق للوهم ولحياكة خيالات وعوالم غرائبية كي يعيش.
- قاسية هذه الأسوار
كأني بها
قد عشقت مجيئي في الموعد
ووقوفي سنينا وسنينا.
كأني بها تفقد شكلها من دوني
كأني بها أدمنت دموعي
كحبات الضياء..
وهذا؟ أين طالعته؟ هجست لهوسها..
وجوه الحراس بالسجن باردة كقطعة ثلج بأوراق شجرة عملاقة. تراهم منال كأنهم سجناء بشكل ما. تسير وهي تجر في يديها شيخوخة أمها التي تتصاعد دقات أمومتها الفرحى بلقاء كيف ما اتفق.
- العَمش ولا العمى..
تمتمت الأم بصوت مسموع. وبلازمة تنفلت منها في نفس الطريق وفي نفس الزمن قبل اللقاء.كي تظهر قناعتها باللقاء مهما كان.
يصلان لمكان لقاء المساجين،فيجلسان قرب صامد الذي يحمل وجهه نفس الابتسامة. منال تفتح قلب أخيها الحزين والقاسي عبر ملامح سجينة تغرق بالندم والقيد.
- وعينيك.. مازلت كلما آتيك
تؤلمني هذه الدنيا وارتجف
عصفورة نتفت ريشتها للريح
وعينيك.. لم أنس يوما بأنا
قطعنا عهدا على الأخوة
أن نلتقي خلف ضباب السنين
ونزرع وجهينا
نخيلا..وصفصافة..وقصيدة شعر
قرأت بوجه أخيها أو تخيلت ما كتب بأهدابه. تحملق بامعان في ملامح صامد لكنها لا ترى غير الألم والقهر والندم.
تسكت لغة الأخوة وتدمع العيون برغم صراعات داخلية،فالأم لا تسعفها أمومتها الجريحة ولا حنانها الفياض على ابنها الحنون الذي يُغالب تعثر أقدامه منذ الصغر لكنه يحب أن يبدو صلبا.
مر اللقاء كلمح البصر أو أقصر. خرجا في صمت. تاركان إياه وهو ينفث سيجارة بطعم المرارة.
- كنت
وقد مر إلى صدرك المتهالك تبغ الصباح
تؤمن أن الوردة لا تخون عطرها..
أن الموجة لا تبيع شطها..
أن القلوب،مهما جفت،لا تتنكر لنبضها..
وأن الوجوه لا تغير جلدها..
قرأت منال على لوحة بحر بالسجن.. أو تخيلت.فالسجن لا يعبأ بالفن.
وهي خارجة من سجن مشاعرها،صارعت شهقتها كي لا يلمس أخاها حجم نزيفها به. دعت صراعاتها الداخلية تنهش صمتها دون أن تكفكف دمعاتها الطائشة. تراقص سيلهما بحرقة وبصمت ناطق.تشبثت أكثر بذراع الوالدة العزيزة التي غزتها جحافل الخيبة والحزن. إبنها الغالي هنا ولم تقوى على الخروج به لكي تستريح.
خرجا كما دخلا. أم وأخت تعودتا على هذه الطقوس اليومية القاتلة. القتل أنواع همس لها شيطان الشعر الذي تربص بها هذه المرة قرب الباب وهما يهمان بالخروج.راودتها قصيدة وهاجمتها بل وقدَّت قميصها من دُبر.
- ابتعدي رجاء لا وقت للشعر لدي وسط هذا العالم. دعني فالشعر بهجة،وأنا أنزف شجنا.
همست لنفسها بدون صوت كي لا يخرج صوتها نحيبا فترعب والدتها.
- هيا انزفي بي قصيدة للذكرى. تشجعي الشعراء لا يموتون.
تردد الصدى في أقصى زاوية بشريان قلبها الأخضر.
- قد شاخ في الصدر عمر السؤال
كيف صار وجهك المبتسم أسير زمن
وكيف صارت أخوتنا أسيرة زمن
لماذا اراك على البعد في سقوط المدى
واغتيال البلابل..
لماذا أراك على البعد وجه الوطن..
فتحت باب سيارتها وساعدت والدتها في الجلوس. بينما وقفت قرب الكرسي الأمامي وهي تتجاهل قصيدة عارية تراودها بعناد لفت نظرها لمذكرتها المرمية خلف الزجاج الخلفي. حملت قلما وبدأت تنهمر دمعا وشعرا،حتى خافت أن تكون قد أصيبت بمس. الشعر جنون قالت لها كراسي السيارة. لكنها دونت كل المقاطع التي كانت تظن أنها تخيلتها بقصيدتها.فعرفت أن المخاض كان نزيفها ساعتها.
كتبت هذه المرة بتأكيد على بياض احتراقها:
هلوسة حنين- مهداة لأخي صامد-
يوجعني أنك تعرف صمت الليالي
وتعرف كيف يكون الألم
يوجعني أن أراك
تجفف جرحك الطري بملامحك الطيبة
وتنحني للحزن تلملم تجاعيد خيباتك
في عيون الندم
رفعت عينها لصورة أخيها قربها فرأت نصاعة أسنانه وابتسامته المطمئنة..فكثيرا ما ترجاها كي تعود لبريق شعرها الذي تصارع بها بشاعة العالم.
شفشاون في 3 مارس 2017
مبدع رائع انت فنان الله احفظك
ردحذف