قال لي أحدُ الشعراء الكبار ، ممّن يحتلّون مكانة
مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث ، بعد أن
شكوتُ له صعوبة النشر ، التي أُعانيها وزملائي
الأدباء الشباب:
- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة !! . قلت
بدهشة :
- كيف !! .. علّمني .. أرجوك .
ابتسم شاعري الموقّر ، وأجاب :
- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة ، عن أولئك الذين
يتحكمون ، بحكم وظائفهم ، في وسائل الإعلام ،
فكلُّ المحررين ورؤسائهم ، في الأصل أدباء ، اكتب
عنهم مادحاً ، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على
مصاريعها .
وقبل أن أعلّق على كلامه .. تابع يقول:
- عندي فكرة ، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة
" قطار الماء " ، التي صدرت مؤخراً ، ألا تعرفُ "
رمضان النايف " صاحب المجموعة ؟؟ هو رئيس
تحرير " وادي عبقر " ، وهي تدفع " بالدولار " .
اقتنعت بالفكرة مكرهاً ، فأنا قاص . ماعلاقتي
بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة !.
غادرت مقهى " الموعد " ، ودلفتُ إلى المكتبة
المجاورة ، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن
المجموعة كثيراً ، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها .
عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي ، صاحت
مستنكرة :
- ماذا تحمل ؟! .. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب ؟ .
ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها ، فهي سريعة
الغضب ، وسليطةُ اللسان ، تزوجتني بعد أن أعجبت
بكتاباتي ، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها
لي في السّنة الأولى من زواجنا ... كانت توفّر لي
الوقت الملائم للكتابة ، لكنها سرعان ماتغيرت بعد
أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا ، خاصةً
وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات
العربية والمحلّية ، حاملة الكلمة ذاتها ، بالأسلوب
ذاته :
- " نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد
النشر في المجلة ، وفي الوقت عينه ،فإنّ هيئة
التحرير ، ترحب بأية مساهمات أخرى ، تردها
منكم .
في البداية كانت " مديحة " تلومني لأنّي لا أجيد
انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما
وجدت أن هذه العبارة ،
تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض ،
أيقنت أنّي كاتب غير موهوب ، ولهذا أخذت
تطالبني بالبحث عن عمل إضافي ، بدلاً من تضيع
الوقت في كتابة لا طائل منها ، فقدت إيمانها
بموهبتي ، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي
تملكني منذ الصغر .
وخلال فترة وجيزة ، تحوّلت " مديحة " إلى عدو
للأدب ، فأخذت تسخر من كتاباتي ، وباتت تعيّرني
بما يردني من اعتذارات ، وصارت تضيق بكتبي ،
ومن الأمكنة التي تشغلها .
ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب ،
ومادبّجتهُ من قصص قد تكوّمَ على السقيفة ، إلى
جانب المدفأة .
ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى ، صمّمت على أن
تبعدني عن أصدقائي الأدباء ، فسلّطت عليّ
إخوتها ، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب
بورق الشدة ، وطاولة الزهر ، واستطاعت أن
تجبرني ، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس ،
كمعاون له أجمع أجرة الركاب ، وأنادي بصوت عال
خجول :
- جامعة .. سياحي .. سيف الدولة .
وهذا ماجعلها اليوم تدهش ، حين رأتني أدخل
وبيدي المجموعة الشعرية ..
قلت لها :
- اسمعي يامديحة .. هذه المجموعة سوف تفتح لي
آفاق النشر .
ذهلتُ .. لقد ضمّت المجموعة خمس قصائد ، وأطول
قصيدة تتألّف من عدّة أسطر . وكلّ سطر يتكوّن من
مفردة واحدة ، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو
استفهام ، أو بعض نقاط .ولكي أكون منصفاً عليّ أن
أصف المجموعة بدقة .
بعد الغلاف الأول ، تجد على الورقة الأولى ، عنوان
المجموعة ، واسم الشاعر . تقلب الصفحة . تطالعُك
عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى
الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل
مجسّم ، تأتي إلى الرابعة ، فتقرأ : - صمم الغلاف
الفنان العالمي " ديكاسو " وعلى الخامسة يبرز
أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء - . وفي
الصفحة السادسة ، تعثر على تنويه هام : - الرسوم
الداخلية ، لوحات لفنانين عالميين .
وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة ، ملاحطة
ضرورية جداً بالنسبة للنقاد :
- كتبت هذه القصائد مابين حصار بيروت ، وحرب
الخليج الأولى .
في الصفحة الثامنة ، ستقع على مقدمة نقدية ،
كتبها أحدُ النقادِ البارزين ، الذي يستطيع أن يرفعَ
ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة ،
استغرقت تسع صفحات . وعلى متن الصفحة
السّابعة عشرة ، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى ،
ولكن بقلم الشاعر نفسه ، يتحدّث فيها عن تجربته
الشعرية الفريدة ، وعن ذكرياته الأليمة في
المعتقل ، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم
ماعليها ، وهو في حالة سكر شديد ، مما دفع
السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان
العادي ، إلى زجه بالسجن ، مثله مثل باقي
المجرمين . وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث
عشرة .
وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية ، تقرأ عنوان
القصيدة الأولى :
- طار القطار غوصاً -
بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة ، تقع على
القصيدة التي تتألف من ست مفردات ، توزعت على
ستة أسطر :
- (( حدقت / في / شهوتي !! / وقلتُ: /
صباح / الخير / )) .
وتنتهي القصيدة .
ولأنّ القصيدة ، أو لأنّ معناها تافه وبذيء ، وجدتني
أصرخ :
- مديحة .. أرجوك أريد قهوة .
وتصاعف غيظي أكثر ، حين تناهى إليّ صوت "
مديحة " الساخر :
- حاضر يازوجي العزيز .. يامكتشف اللعبة
والمفاتيح .
وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه ، عدتُ
لأتابع قراءتي .
على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين ، ستبصر لوحة
فنية مغلقة ، مستعصية . وتتهادى إليك الصفحة
الخامسة والثلاثون، حاملة معها .. عنوان القصيدة
الثانية :
- تضاريس السّحاب -
ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة :
- (( مهداة .. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة )) .
أما الصغحة السابعة والثلاثون ، فقد فخرت بحمل
العنوان من جديد ، وبشكل فني مختلف ، وأسفل
العنوان ، استلقت قصيدة طويلة :
- (( عواء / الليل / أرعب / أحرفي .. / أوقدت /
أصابعي / للكتابة .. / و ... / فجأة / قفز / القلم /
حين / اعتقلتني / أوراقي / . )) .
وبما أنّ القصيدة كانت مطولة ، احتلت ثلاثة عشر
سطراً ، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى
الصفحة الأربعين .
وضعت " مديحة " فنجان القهوة ، على الطاولة التي
نستخدمها لكل شيء ، وقالت:
- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر ؟!
حاولت أن أكظم غيظي ، فأجبت :
- لم أنتهِ من قراءتها بعد ، لكنها تبدو لي مجموعة
سخيفة .
تراجعت مديحة بعض الشيء :
- سخيفة أم جميلة .. أنت ماذا يهمك ؟.. المهم أن
يفسحوا لك مجالاً للنشر .
- ولكنّي سأنافق يامديحة ، وأنا ..
وهنا قاطعتني بانفعال :
- أنت ماذا ؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب ، مَن
منَ الكتّاب يعجبك ؟ .. بما فيهم أصدقاؤك !! .
ومن حسن الحظ ، صرخ ابننا ، بعد أن سمعنا ارتطام
جسمه فوق أرض المطبخ ، وهذا ما أنقذني من
لسان " مديحة " التي ركضت كمجنونة ، فعدت إلى
المجموعة .
وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها، ستركض
الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ
الأبيض ، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي، في
حين رفعت الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها ،
لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة :
- خرير السّراب -
وتخرج إليكَ القصيدةُ ، في الصفحة الرابعة
والأربعين :
منظومة على صفحة ونصف ، ممتدة على ثمانية
أسطر :
- (( نافذتي / مغلقة / على / هواجسي، / وأنا /
والنار / متشابهان / بجليدنا )) .
هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة
والأربعين ، وكما جرت العادة ، سترقص أمامك
لوحة فنية جديدة ، وإلى جوار اللوحة ، على صدر
الصفحة الأخرى ، كان عنوان القصيدة الرابعة:
- نحن أصل الفراغ -
أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة
والأربعون ، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة ،
توزعت على ثلاثة أسطر :
- (( حفيف .. / الشوق !! .. / الصامت ؟.)).
باغتني صوت مزمار الأوتوبيس ، فأدركت أن " هاشم
" شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل ،
وسمعت صوت " مديحة " التي فتحت باب المنزل ،
تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة ، ويدخل
ليتناول الغداء معنا ، لكنّ " هاشم " مستعجل ، لذلك
طلب أن أخرج إليه ، دخلت " مديحة " قائلة :
- ألم تسمع صوت " الزمور" ؟.. أجّل كتابة مقالتك
إلى الليل .
ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه ، فأنا مدرس ،
أصادفُ الكثيرين من طلابي ، وكم أعاني من
العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة ، ولهذا
وجدتها فرصة لأتنصل من العمل :
- لن أشتغل اليوم .. قولي " لهاشم " أن يأخذ
أخاك " صلاح " .
صاحت مديحة :
- إذا كنت لا تنوي الكتابة ، فلماذا لا تريد أن
تشتغل ؟!.
قلت ، لكي أطمئنها بعض الشيء :
- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض الكتابة .
يعني هل ستكتب ؟
أجبت وأنا كلّي حيرة :
- سأحاول .. سأحاول .
عدت إلى الديوان ، وجرياً على العادة تشاهد في
الصفحة الخمسين ، لوحة فنية تتربع ، يليها العنوان
العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة :
- أهازيج الموت -
وخلف هذا العنوان ، على الصفحة الواحدة
والخمسين ، إهداء حار :
- (( إلى لوزان وعينيها .. )) .
ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحة التالية :
- (( الصبح / أصبح / يا.. / رندة / والقلب !/
تثاءب !!/ بنشوى / ذكراك . )) .
وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف ،
لأنّها توزعت على ثمانية أسطر .
على شغف محترق للوصول إلى الفهرس ، تقفز
الصفحتان لتحتوياه .. ثم تنفردُ الصفحة السادسة
والخمسون بخصوصيتها ، في عرض ما صدر
للمؤلف .. وفي الصفحة التي تتبعُها ، كُتبت عناوين
المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف :
1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها .
2 - أجهشت بشذاها المعطوب .
3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة .
4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع .
ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون ، والتي
بعدها ، من أجل التصويب الذي سقط سهواً .
تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة ، بتقاريظ
تحت عنوان :
- " مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة "
(( لقد حلّق الشاعر " رمضان النايف " في مجموعته
هذه ، إلى مافوق العالمية بعشرة أمتار وسبعة
مليمترات . )) .
امرؤ التيس .. جريدة اللف والدوران .
- (( الحداثة عند رمضان النايف ، حداثةُ وعي
ومغامرة ، ترتبط بالتراث التليد ، بقدر المسافة التي
تبتعدُ عنه .)) .
مجلة : نواجذُ النقد .. المتخبّي .
ولأنّ الصفحة انتهت ، اضطرت دار النشر ، حرصاً
منها على أهمية ما سيقال ، لكتابة التعليقين
الآخرين ، على الغلاف الخارجي ، تحت صورة
الشاعر الباسم :
- (( لقد أبصرتُ ، بعد عمىً طويل ، ذلك الزخم
الفلسفي ، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور
المجموعة. )).
- أبو العلاء المغري .. في حوار له بعد عودته من
بغداد .
- (( كلما قرأت رمضان النايف ، أشعر أنني مبتدئ
في كتابة الشعر .)).
جريدة : صوت الكلمة الفارغة .. أبو الدعاس .
ولكي لا نقول عن دار النشر ، إنها نرجسية ، تحبّ
المدح ، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً ' لعباس محمود
العياض " ، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من
أهدابها :
- (( في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان ، فأين
الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب ، وهي
هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر . أرجو
من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا
الخطأ القاتل.)).
عندما دخلت " مديحة ً ، وجدتني قد مزقت كل
ماكتبته من قصص ، وقبل أن تستفيق من دهشتها ،
خاطبتها :
- أنا مستعد أن أعمل مع " هاشم " مثل الحمار .
اقتربت " مديحة " مني ، لمحتُ حزناً في عينيها ،
لمحتُ عطفاً ، حباً ، دمعاً ساخناً مثل دمعي ، مسّدت
شعري ، ضمّت رأسي إليها ، أنهضتني من فوق
كرسيّ ، مسحت دمعتي بباطن كفّها ، التقت
نظراتنا ، اختلجت شفاهُنا ، تدانت ، وسرى فيها
اللهب.
مصطفى الحاج حسين .
حلب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق