أبحث عن موضوع

الجمعة، 27 يوليو 2018

الضحك على اللحى _ قصة.................................. بقلم : مصطفى الحاج حسين / سورية






قال لي أحدُ الشعراء الكبار ، ممّن يحتلّون مكانة

مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث ، بعد أن

شكوتُ له صعوبة النشر ، التي أُعانيها وزملائي

الأدباء الشباب:

- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة !! . قلت

بدهشة :

- كيف !! .. علّمني .. أرجوك .

ابتسم شاعري الموقّر ، وأجاب :

- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة ، عن أولئك الذين

يتحكمون ، بحكم وظائفهم ، في وسائل الإعلام ،

فكلُّ المحررين ورؤسائهم ، في الأصل أدباء ، اكتب

عنهم مادحاً ، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على

مصاريعها .

وقبل أن أعلّق على كلامه .. تابع يقول:

- عندي فكرة ، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة

" قطار الماء " ، التي صدرت مؤخراً ، ألا تعرفُ "

رمضان النايف " صاحب المجموعة ؟؟ هو رئيس

تحرير " وادي عبقر " ، وهي تدفع " بالدولار " .

اقتنعت بالفكرة مكرهاً ، فأنا قاص . ماعلاقتي

بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة !.

غادرت مقهى " الموعد " ، ودلفتُ إلى المكتبة

المجاورة ، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن

المجموعة كثيراً ، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها .

عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي ، صاحت

مستنكرة :

- ماذا تحمل ؟! .. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب ؟ .

ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها ، فهي سريعة

الغضب ، وسليطةُ اللسان ، تزوجتني بعد أن أعجبت

بكتاباتي ، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها

لي في السّنة الأولى من زواجنا ... كانت توفّر لي

الوقت الملائم للكتابة ، لكنها سرعان ماتغيرت بعد

أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا ، خاصةً

وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات

العربية والمحلّية ، حاملة الكلمة ذاتها ، بالأسلوب

ذاته :

- " نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد

النشر في المجلة ، وفي الوقت عينه ،فإنّ هيئة

التحرير ، ترحب بأية مساهمات أخرى ، تردها

منكم .

في البداية كانت " مديحة " تلومني لأنّي لا أجيد

انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما

وجدت أن هذه العبارة ،

تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض ،

أيقنت أنّي كاتب غير موهوب ، ولهذا أخذت

تطالبني بالبحث عن عمل إضافي ، بدلاً من تضيع

الوقت في كتابة لا طائل منها ، فقدت إيمانها

بموهبتي ، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي

تملكني منذ الصغر .

وخلال فترة وجيزة ، تحوّلت " مديحة " إلى عدو

للأدب ، فأخذت تسخر من كتاباتي ، وباتت تعيّرني

بما يردني من اعتذارات ، وصارت تضيق بكتبي ،

ومن الأمكنة التي تشغلها .

ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب ،

ومادبّجتهُ من قصص قد تكوّمَ على السقيفة ، إلى

جانب المدفأة .

ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى ، صمّمت على أن

تبعدني عن أصدقائي الأدباء ، فسلّطت عليّ

إخوتها ، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب

بورق الشدة ، وطاولة الزهر ، واستطاعت أن

تجبرني ، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس ،

كمعاون له أجمع أجرة الركاب ، وأنادي بصوت عال

خجول :

- جامعة .. سياحي .. سيف الدولة .

وهذا ماجعلها اليوم تدهش ، حين رأتني أدخل

وبيدي المجموعة الشعرية ..

قلت لها :

- اسمعي يامديحة .. هذه المجموعة سوف تفتح لي

آفاق النشر .

ذهلتُ .. لقد ضمّت المجموعة خمس قصائد ، وأطول

قصيدة تتألّف من عدّة أسطر . وكلّ سطر يتكوّن من

مفردة واحدة ، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو

استفهام ، أو بعض نقاط .ولكي أكون منصفاً عليّ أن

أصف المجموعة بدقة .

بعد الغلاف الأول ، تجد على الورقة الأولى ، عنوان

المجموعة ، واسم الشاعر . تقلب الصفحة . تطالعُك

عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى

الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل

مجسّم ، تأتي إلى الرابعة ، فتقرأ : - صمم الغلاف

الفنان العالمي " ديكاسو " وعلى الخامسة يبرز

أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء - . وفي

الصفحة السادسة ، تعثر على تنويه هام : - الرسوم

الداخلية ، لوحات لفنانين عالميين .

وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة ، ملاحطة

ضرورية جداً بالنسبة للنقاد :

- كتبت هذه القصائد مابين حصار بيروت ، وحرب

الخليج الأولى .

في الصفحة الثامنة ، ستقع على مقدمة نقدية ،

كتبها أحدُ النقادِ البارزين ، الذي يستطيع أن يرفعَ

ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة ،

استغرقت تسع صفحات . وعلى متن الصفحة

السّابعة عشرة ، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى ،

ولكن بقلم الشاعر نفسه ، يتحدّث فيها عن تجربته

الشعرية الفريدة ، وعن ذكرياته الأليمة في

المعتقل ، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم

ماعليها ، وهو في حالة سكر شديد ، مما دفع

السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان

العادي ، إلى زجه بالسجن ، مثله مثل باقي

المجرمين . وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث

عشرة .

وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية ، تقرأ عنوان

القصيدة الأولى :

- طار القطار غوصاً -

بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة ، تقع على

القصيدة التي تتألف من ست مفردات ، توزعت على

ستة أسطر :

- (( حدقت / في / شهوتي !! / وقلتُ: /

صباح / الخير / )) .

وتنتهي القصيدة .

ولأنّ القصيدة ، أو لأنّ معناها تافه وبذيء ، وجدتني

أصرخ :

- مديحة .. أرجوك أريد قهوة .

وتصاعف غيظي أكثر ، حين تناهى إليّ صوت "

مديحة " الساخر :

- حاضر يازوجي العزيز .. يامكتشف اللعبة

والمفاتيح .

وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه ، عدتُ

لأتابع قراءتي .

على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين ، ستبصر لوحة

فنية مغلقة ، مستعصية . وتتهادى إليك الصفحة

الخامسة والثلاثون، حاملة معها .. عنوان القصيدة

الثانية :

- تضاريس السّحاب -

ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة :

- (( مهداة .. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة )) .

أما الصغحة السابعة والثلاثون ، فقد فخرت بحمل

العنوان من جديد ، وبشكل فني مختلف ، وأسفل

العنوان ، استلقت قصيدة طويلة :

- (( عواء / الليل / أرعب / أحرفي .. / أوقدت /

أصابعي / للكتابة .. / و ... / فجأة / قفز / القلم /

حين / اعتقلتني / أوراقي / . )) .

وبما أنّ القصيدة كانت مطولة ، احتلت ثلاثة عشر

سطراً ، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى

الصفحة الأربعين .

وضعت " مديحة " فنجان القهوة ، على الطاولة التي

نستخدمها لكل شيء ، وقالت:

- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر ؟!

حاولت أن أكظم غيظي ، فأجبت :

- لم أنتهِ من قراءتها بعد ، لكنها تبدو لي مجموعة

سخيفة .

تراجعت مديحة بعض الشيء :

- سخيفة أم جميلة .. أنت ماذا يهمك ؟.. المهم أن

يفسحوا لك مجالاً للنشر .

- ولكنّي سأنافق يامديحة ، وأنا ..

وهنا قاطعتني بانفعال :

- أنت ماذا ؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب ، مَن

منَ الكتّاب يعجبك ؟ .. بما فيهم أصدقاؤك !! .

ومن حسن الحظ ، صرخ ابننا ، بعد أن سمعنا ارتطام

جسمه فوق أرض المطبخ ، وهذا ما أنقذني من

لسان " مديحة " التي ركضت كمجنونة ، فعدت إلى

المجموعة .

وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها، ستركض

الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ

الأبيض ، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي، في

حين رفعت الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها ،

لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة :

- خرير السّراب -

وتخرج إليكَ القصيدةُ ، في الصفحة الرابعة

والأربعين :

منظومة على صفحة ونصف ، ممتدة على ثمانية

أسطر :

- (( نافذتي / مغلقة / على / هواجسي، / وأنا /

والنار / متشابهان / بجليدنا )) .

هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة

والأربعين ، وكما جرت العادة ، سترقص أمامك

لوحة فنية جديدة ، وإلى جوار اللوحة ، على صدر

الصفحة الأخرى ، كان عنوان القصيدة الرابعة:

- نحن أصل الفراغ -

أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة

والأربعون ، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة ،

توزعت على ثلاثة أسطر :

- (( حفيف .. / الشوق !! .. / الصامت ؟.)).

باغتني صوت مزمار الأوتوبيس ، فأدركت أن " هاشم

" شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل ،

وسمعت صوت " مديحة " التي فتحت باب المنزل ،

تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة ، ويدخل

ليتناول الغداء معنا ، لكنّ " هاشم " مستعجل ، لذلك

طلب أن أخرج إليه ، دخلت " مديحة " قائلة :

- ألم تسمع صوت " الزمور" ؟.. أجّل كتابة مقالتك

إلى الليل .

ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه ، فأنا مدرس ،

أصادفُ الكثيرين من طلابي ، وكم أعاني من

العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة ، ولهذا

وجدتها فرصة لأتنصل من العمل :

- لن أشتغل اليوم .. قولي " لهاشم " أن يأخذ

أخاك " صلاح " .

صاحت مديحة :

- إذا كنت لا تنوي الكتابة ، فلماذا لا تريد أن

تشتغل ؟!.

قلت ، لكي أطمئنها بعض الشيء :

- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض الكتابة .

يعني هل ستكتب ؟

أجبت وأنا كلّي حيرة :

- سأحاول .. سأحاول .

عدت إلى الديوان ، وجرياً على العادة تشاهد في

الصفحة الخمسين ، لوحة فنية تتربع ، يليها العنوان

العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة :

- أهازيج الموت -

وخلف هذا العنوان ، على الصفحة الواحدة

والخمسين ، إهداء حار :

- (( إلى لوزان وعينيها .. )) .

ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحة التالية :

- (( الصبح / أصبح / يا.. / رندة / والقلب !/

تثاءب !!/ بنشوى / ذكراك . )) .

وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف ،

لأنّها توزعت على ثمانية أسطر .

على شغف محترق للوصول إلى الفهرس ، تقفز

الصفحتان لتحتوياه .. ثم تنفردُ الصفحة السادسة

والخمسون بخصوصيتها ، في عرض ما صدر

للمؤلف .. وفي الصفحة التي تتبعُها ، كُتبت عناوين

المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف :

1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها .

2 - أجهشت بشذاها المعطوب .

3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة .

4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع .

ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون ، والتي

بعدها ، من أجل التصويب الذي سقط سهواً .

تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة ، بتقاريظ

تحت عنوان :

- " مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة "

(( لقد حلّق الشاعر " رمضان النايف " في مجموعته

هذه ، إلى مافوق العالمية بعشرة أمتار وسبعة

مليمترات . )) .

امرؤ التيس .. جريدة اللف والدوران .

- (( الحداثة عند رمضان النايف ، حداثةُ وعي

ومغامرة ، ترتبط بالتراث التليد ، بقدر المسافة التي

تبتعدُ عنه .)) .

مجلة : نواجذُ النقد .. المتخبّي .

ولأنّ الصفحة انتهت ، اضطرت دار النشر ، حرصاً

منها على أهمية ما سيقال ، لكتابة التعليقين

الآخرين ، على الغلاف الخارجي ، تحت صورة

الشاعر الباسم :

- (( لقد أبصرتُ ، بعد عمىً طويل ، ذلك الزخم

الفلسفي ، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور

المجموعة. )).

- أبو العلاء المغري .. في حوار له بعد عودته من

بغداد .

- (( كلما قرأت رمضان النايف ، أشعر أنني مبتدئ

في كتابة الشعر .)).

جريدة : صوت الكلمة الفارغة .. أبو الدعاس .

ولكي لا نقول عن دار النشر ، إنها نرجسية ، تحبّ

المدح ، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً ' لعباس محمود

العياض " ، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من

أهدابها :

- (( في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان ، فأين

الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب ، وهي

هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر . أرجو

من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا

الخطأ القاتل.)).

عندما دخلت " مديحة ً ، وجدتني قد مزقت كل

ماكتبته من قصص ، وقبل أن تستفيق من دهشتها ،

خاطبتها :

- أنا مستعد أن أعمل مع " هاشم " مثل الحمار .

اقتربت " مديحة " مني ، لمحتُ حزناً في عينيها ،

لمحتُ عطفاً ، حباً ، دمعاً ساخناً مثل دمعي ، مسّدت

شعري ، ضمّت رأسي إليها ، أنهضتني من فوق

كرسيّ ، مسحت دمعتي بباطن كفّها ، التقت

نظراتنا ، اختلجت شفاهُنا ، تدانت ، وسرى فيها

اللهب.

مصطفى الحاج حسين .
حلب ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق