أبحث عن موضوع

الجمعة، 27 يوليو 2018

إضاءة على نص الشاعر "حسن علي" (براكينُ الجزع) ..................بقلم : حسين عجيل الساعدي // العراق



يونانُ في الظلماتِ..مسبحٌ
جسدٌ تمسكَ بالحياة
في زحمةِ الموتِ والفزع
أنتَ
يا سجينَ جوفٍ لا يشبع
تمرُ السنونُ
وأنتَ في لُجةِّ البحرِ
تتقاذفُكَ الحيتانُ
من ظلامٍ الى ظلام
ونحنُ...
إذا إستفقنا
من نومٍ كأنهُ الحِمام
يصنعُ السامريُّ عجلهُ
من ساقطِ الأفكار
جسداً لهُ خُوَار
وبين السجود لعجلهِ..والأنتظار
نزرعُ اليأسَ يقطيناً
على شواطئ الأملِ المحظور
نوقِدُ الأُمنياتِ
من زفيرِ أنفاسٍ...كَدَمِنا تُراق
تطفو على آلآمِنا
كزوارقِ الأوراقِ
لتُردّدَ الأعماقُ
نشيجَ الشموع
فينحني ضوؤها الخافتُ .. بخشوع
يونانُ هل من رجوع؟
بينَ التمردِ و الخنوع
يعزفُ الموتُ على وترِ العقاب
كلَ أنواعِ العذاب
قوافلنا تسير
على دربٍ خطير
تضللُنا الشكوكُ كالضباب
وعلى أُفقِ الخراب
نرى براكينَ الجزع
زفيرُها وجع


من سمات النص الشعري المعاصر، الرمزية التي جعلت من القارئ يتأمل ما وراء النص، وهذه سمة معظم الشعراء، فالرمز عبارة عن إيحاءات وأشارات، مجازية وبلاغية ومصدر إدهاش وأبتعاد عن المباشرة والوضوح.
الشاعر "حسن علي" أستهل نصه بعنوان (براكينُ الجزع) كصدى للنص وهو جملة اسمية (مضاف ومضاف اليه)، والجملة الاسمية حسب ما صرح به علماء البلاغة، دالة على الثبات أو الاستمرارية، ودالة كذلك على الحدوث والتجدد. ويمكن ان يقع التركيز في العنوان على (براكينُ) لغرض تكثيف دلالات (الجزع)، فيكون العنوان (براكينُ الجزع)، معادل موضوعي يشار به الى مدلول النص.
(الجزع) كحالة نفسية يتميز بالرمزية والكثافة اللغوية والإيحائية، فهو فعل تراكمي من يأس، وحزن، وضعف، وقنوط، ووهن، وقلق، وشك، وسخط. فقد ورد في معجم (لسان العرب) في مادة (ج ز ع)، (الجَزَع : مصدر قولهم: جزع يجزع جزعا، التي تدل على الانقطاع، وما يُحسّ به المرءُ من قلق النفس واضطرابها وضيق الصدر، والجزوع في قوله تعالى: (إذا مسه الشر جزوعا)، (المعارج/ 20) هو الذي لا صبر عنده إذا مسه الشر)، لسان العرب لابن منظور.
في النص أجتمع الخوف والالم (الفزع والجزع) ما بين فزع (يونانُ في الظلماتِ..مسبحٌ/ جسدٌ تمسكَ بالحياة/ في زحمةِ الموتِ والفزع)، وبراكين الجزع (على أُفقِ الخراب/ نرى براكينَ الجزع/ زفيرُها وجع).
قال الراغب الاصفهاني:(الفَزَع والجَزَع أخوان، لكن الفَزَع ما يعتري الإنسان مِن الشَّيء المخِيف، والجَزَع ممَّا يعتري مِن الشَّيء المؤلم). "المفردات" للراغب الاصفهاني ص379 .
نرى في لغة النص الشعرية، تدرج في واقعية الطرح، فالنص متأرجح بين ماض وحاضر وتطلع لمستقبل، بدءً بالخطاب الأنثروبولوجي ذو الدلالة الثقافية/ الدينية، في استحضار شخصية تاريخية/ دينية، ورمزًا مهابًا هو النبي "يونس" أو "ذو النون" أو "صاحب الحوت" كما سماه القرآن الكريم، أو "يونان" كما سماه الكتاب المقدس (الانجيل)،
يستحضر بدلالاتها المتراكمة بمثل هذه الرمزية المثقلة بالمعنى ومحملة بالدلالات، التي تشير إلى الألم و الابتلاء، واسقاطها على الواقع الحاضر، وهذا يتطلب معرفة حقيقية بتلك الشخصية، شخصية النبي الإنسان من محاور التحولات التاريخية، فشكل في النص رمزية مزدوجة هي رمزية الموت (أبتلاعه من قبل الحوت) ورمزية الانبعاث (عودته الى الحياة) وأعادة خلق أمة، اضافة الى الرمزية التي يريدها الشاعر وهي (العراق) المتجسد في بلاءاته كأستبلاء (يونان) في ظلماته.
(يونانُ في الظلماتِ..مسبحٌ/ جسدٌ تمسكَ بالحياة/ في زحمةِ الموتِ والفزع)
فالعراق محكوم بظلمات كظلمات (يونان) في جوف الحوت، جحيم وليل كوني، بين مطرقة الموت وسندان الفزع.
(في لُجةِّ البحرِ/ تتقاذفُكَ الحيتانُ/ من ظلامٍ الى ظلام)
الشاعر "علي حسن" أضاف أشارات أخرى في نصه الشعري عبر تكثيف هذه الأشارات الرمزية، وهذا ما جعله يطور لغته الشعرية في النص.
(نزرعُ اليأسَ يقطيناً/ على شواطئ الأملِ المنظور)، ان شجرة اليقطين كانت ملاذ أمن للنبي (يونان) جمعت له الامل في (الغذاء والمأوى والشفاء) ، أما في نص الشاعر زُرعت كشجرة (يأس) عسى ولعلّ ان تثمر أملاً. تُظل العراق مما لحق به من أذى، حين جُعلت فوق (يونان) لتكون ظلاً على رأسه.
كذلك في النص سؤال توسل يرمز به لموت العراق وقيامته من جديد (يونانُ هل من رجوع؟). وجع العراق متراكم في النص وجع مموسق، يتلمسه الشاعر بين خرائب وزفير أتون وجحيم براكين الجزع.
(على أُفقِ الخراب/ نرى براكينَ الجزع/ زفيرُها وجع). العراق مبتلى
كابتلاء النبي (يونان)، جميل من الشاعر حين استحضر رمزية (يونان) في نصه بكل ما يحمله هذا الرمز من دلالات البلاء والألم وجعله كمعادل موضوعي لبلاء العراق، وفي نفس الوقت لم يغيب عن الشاعر أن يستحضر (يونان) أملاً ينبعث من جديد في عنفوان العراق، (يونانُ هل من رجوع؟).
الشاعر كان موفقاً في تبسيط النص على طريقة (السهل الممتنع)، وهو يكشف اوجاع.
(نوقِدُ الأُمنياتِ/من زفيرِ أنفاسٍ ... كَدَمِنا تُراق/تطفو على آلآمِنا/كزوارقِ الأوراقِ/لتُردّدَ الأعماقُ/نشيجَ الشموع)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق