أثناء عودتها من العمل فى ليلة من ليالى الشتاء الباردة تكسو الغيوم سماءها، كانت مشغولة الذهن بمشكلةٍ مَا تعرفها، فضَّلت السير على الأقدام لعلَّها تتنفس، "نُهى" إنسانه حالمة رقيقة المشاعر، تحتوى الجميع بابتسامتها المشرقة دوماً، لكنَّها لم تعثر بعد على فارس أحلامها، مع كثرة الخطّاب المتقدمين لطلب الزواج منها، وقد نفد صبر والدها بعد زواج أختها الصغرى والتركيز الذى أصبح قاسياً عليها.
دموع والدتها وكلماتها تُمزِّق نياط القلب.
هل تقبل به وتتنازل عن مبدأها؟!
أم لا تتزوج سوى من اختاره قلبها؟!
ولكن قلبها إلى الآن لم يدق بتلك النبضة المختلفة التى تُلوِّن الحياة، وتسكب عطر الفرحة على الأشياء، بدأ الطقس يقسو فى برودته، لفت انتباهها ذلك الطفل المُلقَى جانب الحائط بجسده الهزيل وملابسه الرَثَّه التى لا تحمى من شراسة البرد، فخلعت عنها كوفيتها ولفَّتْها حول عنقه ورأسه وربتت على كتفه بحنان، وأمسكت دمعة تترقرق فى عينيها،هامسة بصمت: الله الله للفقراء، ومضت فى طريقها تصاحبها دعوات المارَّة، لتغرق مرَّة أخرى فى دوَّامة الحيرة التى تعتريها بين الثبات على مبدأها ودموع الأهل ورغبتهم.
فجأة عصفت الرياح وبرق البرق يصاحبه هطولٌ كثيف للأمطار, وماج الطريق بالهرج والمرج وعمَّت به الفوضى: الكل يهرول، والسيارات تكاد تصطدم ببعضها، تسمع أزيز (فراملها) يُدوِّى، البعض يحتمى بسور العمارات والبعض الآخر يركب تاكسى، وآخرون فتحوا الشماسى لتحمى رؤوسهم من الماء، عدا "نُهَى".. كانت حالتها مختلفة، كالطفلة أخذت تضحك بصوت مرتفع محتضنة حقيبة يدها بين ذراعيها، وتدور كراقصة باليه فى الهواء, وكُلَّما زادت قوة المطر، كانت سعادتها أكبر، وسط ذهول المارَّة الذين لم تعرهم أى اهتمام, اصطدمت به وكادت تهوى على الأرض، فحملها بين ذراعيه، وتلاقت خلال حبات المطر نظراتهما، وانفجرا – هما الاثنان - فى هستيريا من الضحك , ثم تمالك نفسه وقال : أعتذر إنَّه المطر.
شعرت حينها بتلك النبضة الغريبة، فتوردت وجنتاها , وسرى الدفء فى جسدها متحدِّياً برودة الطقس، انتبهتْ حينها إلى ذراعيه اللتين تحتويانها، وانتبه هو الآخر إلى نظرات عينيها وهى ترمقه باندهاش .. سحب ذراعيه بصعوبة، ثم قال وهو ينظر بعمق فى عينيها كلمتين : أأنتِ بخير؟
صمتت، ثم تمتمتْ ببضع كلمات غير مسموعة، استدارت، وكانت قد اقتربت من المنزل , قفزت على السلالم, دخلت غرفتها أغلقت خلفها الباب، تهاوت على سريرها, احتضنت وسادتها، يتماوج بداخلها شعور غريب: خوف وفرح، دفء ورعشة، وعيناه .....
جاء المساء.. واجتمعت العائلة، ليتناقشوا فى موضوع العريس المتقدِّم لها، ويسمعوا الكلمة الأخيرة وهى تجلس بينهم صامتة لا تشترك فى الحوار.
أيقظها صوت أبيها المرتفع: الآن قولى كلمتك الأخيرة، تعلَّقت كُلُّ العيون بها وكادت من يأسها تنطق بالموافقة , فى تلك اللحظة دَقَّ جرس الباب، قال أخوها: ضيف يريدك يا أبى.
عندما رأته انتفضتْ من مكانها صائحة: رجل المطر!!
فتبسَّم وسط ذهول الأهل قائلاً: جئتُ لأتقدَّمَ لخطبة ابنتك .
قالت هامسةً، وقد سالتْ دمعةٌ اختلطتْ بابتسامةٍ وحياء: الآن عرفتُ سِرَّ عِشقى للمطر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق