أبحث عن موضوع

السبت، 17 سبتمبر 2016

بكاء عكاز( قصة قصيرة ) .............. بقلم : صبري سلامه البحيري / مصر


جالساً على كرسيً في حجرته‘ بيده مرآة صغيرة، يبتسم عندما يرى تلك الشعرات البيضاء وقد غزت ليل رأسه .
يدير وجهه بعيداً، يتلفت يميناً ، ويساراً ، ينظر إلى صورةٍ معلقةٍ على الحائط لشخصٍ يشبهه.. معلقاً بأسفلها (عكاز)..
يفتح درج المكتب ، يضع المرآه ، يُخرج حصاناً خشبياً صغيراً إحدى أرجلهُ مكسورة.
ينسج من الأوهام سرجاً ، ومن الوعي يضع شكيمة لذاكرتهُ ، ولكن حنينهُ للماضي يحطم الشكيمة فتجمح بـــــــه،
وتصهل فيصهر صوتها ثلوج النسيان ، وتعود به إلى مهد ذكرياته في سوق القرية حيث كان على ظهر الحصان.
ــ أبي خليني أركب الحصان لوحدي .
ينظر الأب إلى ولده الوحيد ، ويبتسم فترقص الندبة الصغيرة على خده الأيسر بفعل ابتسامته ، وايقاع كلماتـــــه .
ـــ لسه بدري .. لما تكبر .. لكن ممكن تأخذ الحصان الخشب ده ...
ينتظر أخو البنات ، ويرجو أن تسرع أيامه .. متى أكبر ، و أركب الحصان لوحدي .
ـــ مالك بتبكي ليه يا ابني ....؟
ـــ شوف..! الحصان رجله انكسرت ..
ـــ لا .. الكبار لا يبكون ..
تتعلق عينا الأبن بوجه أبيه الجاد ، العطوف ، ونصيحته ، ثم ينظر لأسفل .. يشعر والده بثقل النصيحة على القلب
الصغير فيحمله في حركة فجائية ، يضعه فوق كتفه ، يقهقه الصغير بضحكات صغيرة ، ناعمة .
وهو على هذا الجبل ، يرى كل الدنيا ، يمر ببصره على الأشياء فتبدو صغيرة يمر وتمر سيول الأيام على وجه الجبل فتترك آثارها ، وفي يده تُعلق عكازا يشهد سنوات الخريف .
ـــ أمي .. ليه أبويا ماسك عكاز..؟
ـــ بكرة هاتعرف ليه ..لما تكبر ..
تتهادى عجلة الأيام ، تُسرع خطاه عائداً من مدرستهُ إلى البيت المزدحم اليوم بوجوهٍ فاترة حزينة .
ينقبض قلبه الصغير .. ماذا حدث؟
يطلبه الأب ، يأخذونه إليه . يراه راقداً في فراشه ، عندما يرى أبنه يحتضنه بعينيه في تؤده ، يرى في وجهه عودة سنواته الغابرة ، وقد تجمعت لتودعه .
يبتسم ، تتحرك الندبة في وهن ، تتسلل الكلمات من الحنجرة ، تتوكأ على لسان مجهد ، تتشبث بشفاه مرتعشة كأوراق شجرة تطاردها رياح الخريف .
ـــ خلي بالك من ... أخواتك ... البنات ... هما صحيح ... أكبر منك لكن ... خلّي بالك... منهم لما تكبر...
يهدأ ، تخبت ، تختفي الكلمات من على لسان لم يستطع حملها بعد أن أّغلقت الشفاه ، تستكن الندبة ، تستريـــح
إلى الأبد.
لم يتبق إلا تلك الابتسامة الحانية ، الراضية .
تتعالى أصوات النحيب...
أما هو فتجمد وجهه ، تحجرت عيناه .. أين البكاء .. لا .. (الكبار لا يبكون)..
يتركهم ، يسرع ، يريد الجري .. لكن ..(الحصان رجله انكسرت)
في أسى تعرج الأيام بخطوةٍ إلى الأمام ، وخطوتين للخلف ، يزحف ، يجلس بجانب الترعة ، تعبث يداه بالحصى
، يمسك بحصاةٍ ، يلقيها في ماء الترعة ، تنتج عنها أمواج دائرية تبدأ صغيرة في المركز ثم تكبر ، تكبر ، تختفي
في مركز الأمواج .ها هو جالس على كرسي في حجرته ، ممسكاً بحصانٍ خشبي صغير إحدى أرجله مكسورة .
تفيض الدموع من أجفانه التي أحكم غلقها لسنوات عديدة .
ـــ سامحني يا أبي .. عكازك غلبته الدموع.
ينظر إلى صورة معلقة على الحائط لشخصٍ يشبهه معلقاً بأسفلها (عكاز)

( تمت )

صيف 2003

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق