أبحث عن موضوع

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

صليبُ عليّ (قصة قصيرة ).............. بقلم : سوسان جرجس / لبنان



متشحةٌ بنسيمات الخريف، أجتاز البوابة الخارجية نحو الداخل، يعصف الصقيع في جوفي، يتجمّد عند أطرافي، يحيل شفتيّ بلون الجوع والبرد، في عينيّ رماد وملح يجعل مبنى كلية الآداب وأشجار الصفصاف أمامي مشهدًا يأسره الضباب، يجتازني الطلاب بعيون فارغة ووجوهٍ دون ملامح، أشعر بنفسي سنبلة قمح يقضمها الجراد دون أن تجرأ على النظر إلى الشمس، يحدّق بي جندي موكل بحفظ الأمن، تغيب نظراتي التائهة في ألوان بذلته العسكرية، أبتسم بحزن، أمضي، يمضي "عليٌّ" معي كوشم محفور على جسدي، كمخيم ملتصق بهوية الشتات التي أرهقت روحي منذ ما قبل الولادة.
مطأطئة الرأس، واجمة، أدخل قاعة المحاضرات، أشعر بجدرانها تحتقر وجودي كأمّ غاضبة على ابن عاق، تلاحقني نظرات الطلاب متضجّرة كأنها تنتظر دفاعيَ الأخير أمام سيل التهم الموجهة إليّ، وحدها الزاوية الخلفية للقاعة تشفق على حالي، تغمز لي بعطف أمومي، أتقدّم، أتهالك فوق كرسيٍ آواني السنة الماضية، أشعر بلهيب النار يتسلل من باطن كفي ليحيل جسدي عصفورًا دون ظلّ، بصعوبةٍ أبتلع ريقي فيما تمرّ أناملي بحزن على قلبٍ، سهمٍ وحرفين: ع. ع.... أخفض رأسي، أغمض عيني على جرحٍ كجرح فلسطين النازف فوق هزائمنا، ترتسم على شفتيّ ابتسامة ذكرى وحب مستحيل:
"- صباح الخير.
- صباح النور.
- الطاولة محجوزة أم بإمكاني وضع الكتاب؟
- لا أبدًا... تفضّل.
- شكراً جزيلاً... أنا عليٌ، من عكار، وأنتِ؟
- عائشة، من المخيم."
بصوت ملؤه السعادة، وبحركة محمّلة بالنقاء وضع كفه على الطاولة وهمس بمرح:
" فلسطينية! أهااا!! هذا هو المطلوب، فتاة "جدعة" تحجز لي يومياً طاولة إلى جانبها وإلّا سأضطر للجلوس على الأرض كمتسوّل للعلم"، صمَتَ قليلًا ثم أردف "أعتذر لتطفلي لكنّها زحمة السير الخانقة بين عكار وطرابلس".
أومأتُ برأسي موافقةً أو ربما شاكرة مبادرته في كسر جدار خجلٍ كاد يلتهم أنفاسي منذ بداية الأسبوع الفائت، إذ لم أوفّق في مدّ جسور التواصل مع من حولي.
أصبح "عليٌّ" صديقي المقرّب، معه أتابع حواراتٍ شيقة تعقب محاضرات علمي الاجتماع والسياسة، معه أهرب من دروس علم النفس المتخمة بهذيان فرويد وشذوذه لنقضي الوقت معًا نتحدث تحت شجرة الصفاف أو في كافيتريا الجامعة؛ مع "عليّ" نفضت غبار خوفٍ عتيقٍ عشعش في داخلي.. أضحت الكلية مكانًا آمنًا أشعر فيه بالمصالحة بين هويتي الفلسطينية الموروثة واللبنانية المعاشة.
بالرغم من انتمائنا لجيل واحد، شعرت بنفسي صغيرة جداً، هزيلة حدّ الغياب أمام سطوة نظراته التي تطوقني بهالة من نور وتحميني من ضعفي الداخلي؛ كلامه حول القضية الفلسطينية وأهمية المقاومة تحوّل مرارا الى سوط يجلد ظهري وأنا أرى أنّ "أكثرنا" في المخيم لم يعد يتذكر فلسطين سوى في الأزمات العابرة المهدِّدة بمحوِ هويةٍ كانت يومًا على خارطة الهويات.
شهرٌ واحد يفصلنا عن نهاية العام الدراسي، وصلتُ صباحًا الى كلية الآداب، كعادتي حجزت له طاولة إلى جانبي، توالى دخول الطلاب.. عليٌّ لم يأتِ.. حطّ غراب على شجرة قلبي، قيّدني بنعيقه المشؤوم على كرسيّ وطاولة في إحدى زوايا القاعة، عاودني الخوف من الاختلاط بالناس، تابعت المحاضرات دون أن أفقه منها شيئًا، للمرة الأولى أفكر بطبيعة علاقتي به، غاب شعور الأخوّة الوهمية، سقط قناع الصداقة التي هربت إليها دون وعي مني، أتت النار على هشيم معمّر في داخلي أحرق معه كل هوياتي المكتسبة ولم يبقِ سوى هويتي الأنثوية، جسد يرتعش، ينبض باللهفة والرغبة في كسر التقاليد.
تسمّرت عيناي على الباب، حلمت بقدوم عليّ ولو متأخرًا، شعرتُ أنّ الوقت المتباطئ مغتصبٌ ينتهك حرمة روحي ليحيلها دوائر مفرّغة من الحياة، عبثًا انتظرت... اتخذت قرارًا ممزوجاً ببوح الملائكة ولعنة الشيطان.
صباح اليوم التالي، كنت أول الوافدين الى الكلية، جلست على مقعد خشبي تحت نخلة مواجهة للبوابة الخارجية، فتحت كرّاس المحاضرات أوهم به من يمرّ أمامي باهتمامي بالمذاكرة، توافد الطلاب أفرادًا وأفواجًا، تذكّرت أنّي لم أحجز أمكنتنا المعتادة في القاعة، وقفت متردّدة، فجأة ظهر متبسّمًا، لوحتُ له بيدي، أسرع الخطى، في لحظة ما خارج إطار الزمان والمكان وقفنا وجهًا لوجه، في عينيّ دمعة وعلى شفتيه ابتسامة حائرة، تلاقت نظراتنا، للمرة الأولى أشعر به طفلًا يتوسلني المساعدة، مدّ يده مصافحاً، اقتربت منه، طبعت قبلة على خده وهمست "أموت من دونك".
"وأنا أيضاً، أحبك كثيراً عائشة" قالها بتلعثم، في صوته ما يوحي بالتردد والحزن.
للحظات انتابني شعور بالندم، تمنيت الهرب نحو البعيد، ودّدت إدارة عجلة الزمن الى الوراء وإيقافها قبيل اعترافي المجنون هذا، يبدو أنّه قد شعر بما يجول في خاطري، استعاد هيبة حضوره وثقته بنفسه، اقترب مني حدّ الالتصاق، شعرت بأنفاسه تغزو وجهي، قطعت أنفاسي مضطربة، تبّسم بزهو، ودون أن ندري تشابكت أيدينا وسرنا الى حيث حكم القضاء والقدر.
صباح أحد الأيام، استيقظت باكرًا جدًا، تسمّرت أمام خزانة الملابس، في داخلي أنوثة تصرخ، برغبة متأجّجة أردت تلبيتها، اخترت بنطلونَ جينز وبلوزة بيضاء قصيرة وضيقة عند الصدر، بدا لي الحجاب مزعجًا، نظرت إليه بمقتٍ شديدٍ ثم ما لبثت أن استغفرت الله، أدرت "شاليَ" الملوّن فوق رأسي ومضيت أقفز كطفل يستعجل قدوم العيد.
من "المخيم" الى "القبة" انطلقت بنا سيارة الأجرة بسرعة جنونية، إلى جانبي في المقعد الخلفي عجوز محدودبة الظهر تلقي بالشتائم همسًا، في حجرها طفل يبكي أمه، بدا لي السائق شابًا خليعًا بوشم عقرب غطى ذراعه اليمنى ودخان سجائر كادت تخنق الركاب، على حين غرة توقفت السيارة أمام قطيع ماعز يجتاز الطريق، تذكرتُ حكايا جدتي عن الشياطين والجنّ التي تسكن أجساد الماعز، استعذت بالله واستغفرت. حينما وصلت الجامعة، رأيت "عليًّا" يجلس على أحد المقاعد الخشبية تحت الأشجار، ساهماً بنظراته في المجهول، تسلّلت إلى جانبه محاولةً إخافته، لم يبدُ أنه تفاجأ، أمسك يدي بحنان، أجلسني بقربه، تحدثنا عن التحضير للامتحانات، بغتةً لفت نظري ميدالية المفاتيح فوق كتابٍ يتوسطنا، فيها "صليب" فضيّ يحمل جسد المسيح، حدّقت فيه جيداً، بتلعثم ومرح مصطنع قلت:
- يا حبيبي العلماني، فهمنا أنك لا تفرّق بين الأديان، ولكن إلى حدّ أن تحمل صليبًا؟!
نظر في عينيّ، تبسّم بذبول... أضفتُ بحماس:
- عليّ! حقًا أنا أفهمك، لكن عليك أن تعرف أنّ حملك للصليب فيه إشراك بالله.
بيدٍ غاضبة ضرب المقعد الخشبي، قطب حاجبيه، وقف منتفضًا كمن لسعه عقربٌ، وقفتُ مضطربةً، بسذاجة حدقتُ في عينيه، هززتُ رأسي مستفسرة عمّا يحدث، تركني ومشى مبتعدًا، على حين غرة، استدار وأنا ما زلت متسمّرة في مكاني، نادى بشيء من التحدّي:
- عائشة... أنا مسيحي.
شعرت بالدم يتصاعد إلى رأسي لينفجر عند صدغيّ ويغرق الجامعة في بحر من الشقاء، قدماي المرتجفتان جعلتاني للوهلة الأولى أظنّ أن زلزالًا سيحطم المدينة فوق رؤوس أهلها، ثوانٍ معدودة وأنا أحدق به دون أن أتمكن من تحديد ملامحه التي تقاذفها الحزن والتّجهم والغضب، سرت نحوه وأنا أمنّي النفس بأن ما قيل مجرد مزحة ثقيلة:
- أدري أنك تمزح معي، فالمسيحيون لا يسمّون "عليّ"!
- من قال لك ذلك؟
- لا يحتاج الأمر لمن يقول، هكذا هي العادة.
صمتَ وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ساخرة، أدركتُ حينها أنّ "العادة" تشبه في هشاشتها بيت العنكبوت، وأنها لا تحتاج سوى إرادة كي تتلاشى في مهبّ الريح، أخذتُ نفسًا عميقًا، استعدتُ وعيّ ورباطة جأشي، ممازحةً دفعته أمامي كي نجلس على أحد المقاعد الخشبية، أمسكتُ يده، تبسمتُ وقلت:
- هات أخبرني حقيقة اسمك بالتفصيل.
ضحك وقد غادر الحزن عينيه السوداوين، أجاب بشيء من التهكم:
- الحقيقة التي أعتقد بها أني إنسان! أم ما رأيك؟!... إنسان علماني يؤمن بأنّ له دينه وللآخرين دينهم، أما إنّ كنتِ تسألين عن ديني الذي ورثته من أهلي فهو المسيحية.. "كفار" أليس كذلك؟!!
في أعماق نفسي لعنت الأديان كلها دون أن أنسى عادتي في الاستغفار، انتابتني رغبة بالضحك والبكاء.. تمالكت نفسي، أمسكت يده وأشرت له أن يكمل:
" نعم! اسمي هو المشكلة عندك" ضحك وأردف "ما ظننتُ أنكم تحتكرون اسم عليّ لهذه الدرجة... أنجبت والدتي سبع بنات، وهي ما فتئت تنتظر ذكرًا يخلّد اسم العائلة العريقة! وإذا بها تحمل للمرة الثامنة.. في شهرها الخامس إلتقت صديقة "جنوبية" توقّعت لها أن تنجب صبياً، فنذرت أمي أن تسميه "عليًّا" إن صح توقّعها، وهذا ما حصل.
عقب معرفتي بانتماء "عليّ" الى المسيحية، وعلى الرغم من يقيني بأن لا مستقبل لعلاقتنا، إلّا أنّ تعلّقي به أضحى تعلّقًا جنونيًا يجلد أنوثتي ويرضي عنفوانه ورجولته؛ خلال العطلة الصيفية بدا لنا الفيس أشبه بنعمة إلهية يهبها الله للأتقياء من عباده، لساعات طويلة كنا نتحدث حول الحب، الزواج، الجنس، الأدب، المقاومة والعقيدة الحزبية التي يؤمن بها. بدا "عليٌّ" بالنسبة لي قائدًا لا يمكن أن يُكسر أو يُرغم على فعل ما لا يريد، ولكن هل حقاً نحن من يملك سلطة القرار دومًا في هذه الحياة؟ ألسنا أبناء الظروف المجتمعية؟ هل يمكننا العوم والنجاة إذا ما أُلقيَ بنا في بحر الفقر والجوع والفردانية الطاغية؟
لم أشهد في نظرات "عليّ" انكسارًا كذلك الذي رأيته يوم التقينا على "الميناء" عند الغروب، أخبرني أنّه سيترك الدراسة الجامعية ويلتحق بالخدمة العسكرية، شعرت به محبطاً مكرهاً، حاولت أن أثنيه عن قراره لكنّه أصرّ بذريعة أنّ والده متوَفٍ وعليه كرجل تقديم المساعدة لأمه وأخواته اللواتي ما زلن يتابعن الدراسة، قبّلتُ جبينه واتفقنا على اللقاء في الإجازات، غمرني بقوة، خطف من شفتيّ قبلة، قال "عائشة، تذكري ما سأقوله لك دوماً، الدين محبة، سلام وحرية"... ضحكتُ وأنا أسحبه من يده لنعدو على الرمال ونودع غروب الشمس.
غريب كيف يتوالى علينا الفراق، غياب عليّ تلته حرب "المخيم" بين الجيش وإحدى الجماعات المتشدّدة، انهار المكان فوق رؤوس الجميع، حلّقت خفافيش الموت في ظلام أرواحنا، كشرَ الشتات عن أنيابه ممزقاً أمل الانصهار أو العودة، تحت وابِلٍ من القذائف المدفعية هجرنا بيتنا وسكنا شقة صغيرة في طرابلس، على الرغم من الفوضى التي أُقحمنا بها حرصت يوميًا على دخول الفيس للإطمئنان على "عليّ" وترك رسالة له.
فجر اليوم التالي لمغادرتنا المخيم، لم أكن قد نمت طوال الليل، توضأت وصليت، جلست على حافة السرير، أخرجت الصليب الفضيّ من تحت الوسادة، قبّلته، فتحت الفيس، دخلت صفحته، صورة البروفايل سوداء وفي وسطها كلمة "حداد"، شهقت، جحظت عيناي... على المنصة يقف الدكتور، يقول: "سنبدأ اليوم أولى محاضراتنا حول الصراع العربي- الاسرائيلي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق