ماذا كنتَ تنتظر أكثر من ذلك، لقد فرشْتَ طريقك بالنّعم، و خاتلت نفسك وأنت تتصوّر الجنة بين أحضانها، ظننت أنك ملكت الدنيا وأنت تحادثها بأصابعك على أزرار الكيبورد، ولكم كنت سعيدًا عندما عرفت بأنها تعيش في المكان ذاته الذي تخطط للسفر إليه، أفرخ الفرح في عينيك، ورقصتْ فراشات الهوى على سراجهما كي تحترق حبًّا بِكَ. أتذكرُ عندما سألك أبوك:"من استقبلك في المطار؟" رحت تراوغ كفأر أمام ثعبان، حتى إذا أفلس منك أسرّت له أمُّك بالسرّ قائلة:"استقبلته تلك البلغارية التي تعرّف عليها على الإنترنت". لَم تجرؤْ أنتَ على إخباره تركتَ الأمر لوالدتك تتحمّل بئس المصير، والآن أين هي بلغاريتك التي أبعدتك عن أحب الناس إليك، وتركتك تسوح بين أبراج المدينة باحثا عن هواء تستنشقه، يعيد إليك روحك المرحة، التي أضعتها لأجل متعة ظننتها غير عابرة، لكنّها عبرت وتركتك وسط مستنقع من الآلام.
هيّا ها هو هاتفك الخلويّ يرن، - احمد الله أنّك اشتريته قبل أن تطير أموالُك، فليس لك من منقذ سواه الآن _ ما زال يرنّ بعنف، إنّها هي من كنت تخشى أن تتصل بك، ماذا ستقول لها، الرنين يلحّ عليك كي تردّ، ما الكذبة التي ستخترعها، هيا افتحْ خطّك، ما بالك تنظر إلى الرقم باكتئاب، تتألّم عليها أم منها؟ لا تريدها أن تعرف ما أنت فيه، أ لأنّك جائع وليس معك ما تأكل، أ لأنّك ضائع وغريب في وطن الضاد، وأنت الناطق بالضاد، أوليس معك أجرة "السرفيس" الذي سيعيدك إلى أكواخ التنك والصفيح، الجرس يهتف بك!! لا تتركها تنتظر كثيرا على الخط، افتح خطك اليتيم وكلّمها، لن تستطيع أن تقفله وتتصل بِها، فما لديك من وحدات بالكاد يبقي هاتفك صالحا للرنين، لا بأس عليك.. اعتذر لها وفصّل كذبة بمقاس ألمك ووجعك الذي نحتته الأيام السود على جلدك، واجعلها تتنهّد مزيحةً همّا يكاد يقتلها. هيّا افتحِ الخط وقل لها بأنّك بخير تأكل جيّدا وتعمل بانتظام، وتجني ما يسد الرمق وعن الحاجة يفيض، قل لها بأنّك تنام على سرير عريض وفراش سميك، وتلتحف بأنعم وأفضل البطانيات، لا تخبرها عن ذلك الرجل الهندي الذي أخذ الفراش الوحيد من الغرفة الوحيدة، وتركك تنام على ستارة النافذة .. لا تقفل الخط، فسوف تزيد من قلقها، ولن يلبث هاتفك أن يرنّ ثانية وثالثة، وإن أفلسَتْ من ردّك، ستتصل بصديقك سامر، الذي جعلتَهُ يديرُ لك ظهره، وينسى الخبز والملح، وقد لا يهدأ لها بال قبل أن تسمع صوتك، هيّا افتحِ الخطّ الآن وبسرعة، إياكَ أن تقولَ لَها بأنّك مشيت اليوم أكثر من عشر ساعات تحت قيظ النهار، متنقلاً من ورشة لورشة باحثا عن عمل، إياك أن تقول لها بأنّك صرفت مرغما كلّ ما جلبته معك من نقود، وما أرسله لك أخوك من السعودية، لا تقل لها بأنّك تتوق الآن لأن تسد صراخ معدتك ولو بساندويش من الفلافل مع البندورة والمخلل، لا تقل لها بأنّك تسير وكل تفكيرك منصبٌّ حول أسئلة ثلاث:"أين سأقضي ليلتي تلك؟ كيف سأمضي يوم غد بلا طعام أو شراب؟ ومتى أجد العمل الذي يحل بعض مشاكلي؟" إنّك تكابر على نفسك، ولن تتصل بأحد من أصدقائك الذين قضيت معهم بعضا من سنوات الدراسة، خوفا من اعتذارهم، بعد الذي حصل مع صديقك سامر، ولكن أتنكر أنّك السبب في امتناع سامر عن المساعدة؟ أحسنت عملاً هكذا جيّد افتح الخط وكلّمها!!
-" آلو.. أهلا ماما كيف صحتك أنتِ ؟ أنا بخير والحمدُ لله، ( أيّها الكاذب أين الخير الذي تدعيه) لا تشغلي بالك، أيوا ماما لقد استلمت الشغل، (هئ ..هئ استلمت الشغل؟؟ أيّ شغل استلمته، أنت لم تقرر بعد أن تستلم العمل في تلك الشركة التي وجدت فيها عملا) هو جيّد والمرتب لا بأس به (جيّد لا بأس به؟ تابع تابعْ كذبك) سلمي على بابا وقولي له أنني بخير،.. لا..لا.. لا تحملي همّي لقد استأجرت "استديو" غرفة وتوابعها بحالة جيدة، ( أين استأجرت استديو؟ تحت شجرة الغرباء على قارعة الطريق يا لك من منافق) سأتصل بكم لاحقا عندما يستقرّ أمري..( يستقرّ أمرك؟ هيهات أن يستقرّ !!)"
أحسنتَ أنّكَ رددتَ أخيرا، من علّمك الكذب أيها المنافق، لقد تركت
الفرحة تغمر قلب أمّك، ولا بدّ أنّها الآن تخبر والدك عنك وتقول له:"ابنك بدأ يعمل، والراتب جيّد، ولن يتأخر عن مساعدتك في القريب العاجل" فحضّر نفسك منذ الآن فوالدك ينتظر المساعدة بعد تلك المكالمة اللولبية. إنّك تضحكني يا ولد، ها أنت لا تملك شروى نقير كما يقول المثل، وتقول لأمك التي أعيتها الحيل بسببك:" سأتصل بكم لاحقا عندما يستقر أمري" متى تظنّه سيستقر، ومتى تلك الـ (لاحقا) هل تقول ذلك كيلا تحمّلهم عبء المخابرات الدولية وهم يتصلون بك عن عجز. لا عليك عندما تستقر أمورك يمكنك أن تدفع عنهم تلك الفواتير التي راكمتها عليهم.
ماذا بعد هل ستظل جالسا تحت تلك الشجرة، وعلى هذا الحجر الذي نحتته، ولَمّعته مؤخرات الغرباء أمثالك، اسألْه كم من المهجّرين من أوطانهم مرّوا من هنا، وجلسوا عليه، كما تجلس واضعين رؤوسهم في الأرض، وأيديهم على ذقونهم، أيفكرون بما سيأتي أم غائبون عن وعي التفكير؟ أتراهم مثلك الآن كانوا ينكشون الرمال بذلك العود الذي تيبّس مثلك من عطش وجوع وضياع. أراك تُمعن النظر إلى جذع تلك الشجرة، وكأنّك ترى فيه أبا أو أخا أو صديقا، بل تكاد تعانقه، هل ذكّرك بشيء، أتراني أصدّق لو قلتَ بأنّك ترى فيه الثبات والتمسّك بالأرض والوطن، وكيف تريدني أن أصدّق وقد قلت ذات مرّة :"إنّ هذه الشجرة مثلي ومثل كلّ المهاجرين، اقتلعوها من الأرض التي رضعت من حليبها، ثمّ هجّروها، إلى تلك الصحارى القاحلة، جاؤوا بِها بالغة عملاقة، حفروا لها قبْرًا ، ودفنوها تاركين رأسها تلعب به الريح".
و ها هي مثلك قررت أن تناضل لتبقى حيّة من أجلك وأجل الآخرين أمثالك، إنّها تعيش غربتك الآن في أرض لَم ترضع نسغها. أ تراها أنتَ وأنتَ هي.
ما بالك تتلوّى كالأفعى بين الحين والآخر، ما الذي يقرصك أهو الجوع بدأ يفعل فعله ؟ ماذا ستأكل يا مسكين وأنت لا تملك أكثر من لا شيء، قفْ وسرْ على الطريق، علّك تجد سيارةً عابرةً تخرجك من دوّامةِ الإحباطِ التي أكلتْ وجهَك، اذهبْ واعملْ لليلةٍ واحدةٍ في أحد المطاعم لقاءَ عشائك، أو انتظرْ ها هو جرسُ هاتفك يرن مرّة أخرى، احمد ربّك أنّه لا يزالُ حيّا، وبه رمق للردّ، واحمده أنّك تستطيعُ أن تردَّ على اتصال، دون أن تجريه، من تراه المتصل الآن، ليست أمّك بالتأكيد، فلا يعقل أن تتصل مرتين خلال ساعة، لعلّه اتصال من إحدى الشركات التي قرأت إعلانك المكلف، تطلبك للعمل عجّل بالرد قبل أن يُقفل الخط وتضيع فرصةٌ تنتظرها، افتحه لا تتردّد. ما بك تنظر إلى الشاشة باندهاش، تراك عرفت صاحب الرنين، لا أظنّ ذلك فأنت لم تعط رقم هاتفك لأحد، لا عليك عجّل بفتح الخط أيّا كان قبل أن يقفل.
-"أهلا سعيد، الحمد لله أنا بخير، (سعيد؟ صديق عمّك !! حسنٌ قل له الحقيقة يا مجنون، هذا ليس أمَّك لتكذب عليه، اخرج من عنادك) لا..لا.. الأمور بخير، لا أزفر ولا أعنُّ، لا شيء ..لا شيء، (سبحان الله ما زلت تكذب، إلى متى أتحبُّ أن تنام على قارعةِ الطريق، والديدانُ تنهش معدتك، قل له أين أنت واذهب إليه، أو اجعله يأتي لأخذك وإنقاذك من حيرتك، لا تستحِ اطلب منه طعاما عندما تلتقيه، إذا لم يكن لك، فللديدان المسكينة التي جعلتها تصوم معك).. نعم يا سعيد لماذا تصر أن تعرف أين أنا، لا تخف علي، ( أخبره أين أنت كفاك عنادا) حسنًا ما دمت مصرًّا، أنا على الطريق الرئيسي بالقرب من معرض (س) للسيارات، تحت شجرة الغرباء هل تعرفها، جيد ، لا بأس أنا بانتظارك"
ها أنت تفعل الصواب، لا تكابر وتتركه عندما يأتيك، أخبره الحقيقة واطلب المساعدة حتى تنجلي تلك الغمة، و ريثما يستقر حالك، ها هو يقبل عليك بسيّارته، اصعد، وأخبره بِما تعاني.
-سلاما يا سعيد، ما أخبارك؟ كيف حصلت على رقم هاتفي؟
= أهلا رشوان، أخباري جيّدة، وأنتَ لا أراك على ما يرام، التعب والإرهاق باديان عليك، عرفت رقمك من جريدة إعلانات هل وجدت عملاً؟ وما الذي تفعله هنا؟
-لا ما زلت أتنقّل من شركة لأخرى باحثا عن عمل جيّد، وقد جئتني اليوم في الوقت المناسب. لا أملك وحدات لأتصل بأحد.أنفقت آخر درهم اليوم ولا أملك ثمن رغيف، كنت محبطا قبل مكالمتك، لقد أنقذتني باتصالك، أشكرك يا سعيد أتعبتك معي.
= لا تقل هذا يا رشوان، عمّك عماد مفضِل علي، وأنا مدين لكم جميعا بالسداد، سأحزنُ إذا شعرتَ بالإحراج وستبقى عندي حتى تستقر أمورك، ويعود عمّك من سوريا.
-ألَمْ يحلُ له السفر إلا وأنا في أمس الحاجة إليه.
هيّا تنفّسِ الصعداءَ، ومنِّ نفسَك بالخلاص، لا تدّعي أنّك لست بحاجة لسعيد اليوم، اشكرْهُ على مساعدته لك، وعِدْه بالمغادرة خلال أيام كي لا يضجر منك، عُدْ لتلك الشركة التي عرضت عليك أن تعمل لديها، اشتغل فيها الآن، وابحث عن الأفضل، جِدْ سكنًا، فالشركة تكفّلت أجرته كما قال لك مديرها، يقتطعه من مرتبك لاحقا، عد إليها غدا وابدأ العمل، سيساعدك سعيد بالبحث عن سكن ملائم.
....حسناً تفعل ضعِ المفتاح في جيبك، واحرص عليه ألاّ يضيع، فقد ملكت لياليك به اليوم، وما عدت تخشى أن تمضي ليلتك جالسا بين الغفو والسهر تحت شجرة الغرباء، والعيون البلهاء تأكلك من الآتين والغادين، ماذا تراك فاعل الآن؟ اذهب إليها وادخل من بابها، وفكّر كيف ستمضي ليلتك الأولى.. على البلاط؟ ..ما رأيك ببضعة علب من الكرتون الكبيرة، تفككها وتَمدّها ثم تنام عليها. نم على ظهرك الليلة، فلا تنتظر أن تجد مخدّة. أمّا الغطاء فلا داعيَ له فالطقس ليس دافئا فحسب بل حارٌّ، ويمكنك أن تنام بملابسك الداخلية. ألن تتعشّى قبل أن تنام، هيّا اذهب واجلب طعامًا، بما تبقى معك من الدراهم التي استلفتَها من سعيد ، والآن بعد أن ملأت بطنك، وأطعمت ديدانك، افترش الأرض، فلن تجد أحنّ منها على الغرباء أمثالك.
طق..طق..طق ؟ من ذا الذي يطرقُ بابَ غرفتك، وعقربُ الساعات راح يزاحم الثانية عشرة ليلاً، أتراه صاحب الغرفة عدّل عن رأيه وجاء ليرمي بك في الشارع قبل أن يطلع الصبح. أم هو صاحب الكراتين التي أخذتها من أمام متجره دون استئذانه، ظنًّا منك قد رماها. لا أحد يعرف مكان سكنك هذا إلاّ سعيد، وسعيدٌ سافر منذ يومين إلى الوطن، ولن يعود قبل أسابيع، هيّا قمْ وافتحِ البابَ، وانظر من أتاك في هذه الساعة، ألقِ نظرةً نحو الطريق من نافذتك الصغيرة، ماذا ترى؟ شاحنة صغيرة؟ لمن يكون هذا العفش يا ترى؟
لعلّه مستأجرٌ جديدٌ رأى ضوء غرفتك فجاءك طالبا المعونة، دعك من التخمينات وأدر المفتاح وانظر من الطارق.
تك .. تك
_ ميييينْ يا إلهي عمّي عماد معقووووول يا مرحب يا مرحب أهليين وسهلين عمّي تفضّل بس قل لي كيف عرفت عنواني؟.
= أهليين فيك يا غالي نتكلم لاحقا...تعالَ ساعدني على تنزيل العفش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق