أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

شواطئ للحزن / ق.ق ........................... بقلم : محمد علي عفارةِِ _ سورية






بحرُ الأحزانِ لا شواطئ له ولا خلجان.

الملائكة لا تمشي في جنازاتِ الوردِ وحده الشّيطان.

الغفرانُ سلاحُ الضّعفاءِ.

وحدهم الجبابرة يتسلّحون بالانتقام المطعّم بالقوّة.

في مدينة كانت تغفو على ضفاف النّسيان. زرع أهلها الفجيعة بأيديهم, راحوا يروونها بدمائهم؛

أضحت المدينة لقمةً شهيّةً لآكلي لحومِ البشرِ, ومصاصي الدّماء, رشقوها بكلِّ ألوان الظّلام.

هنا راية العلم مكسورة, لون الحب خطيئة لا يمحوها إلا الدّم المراق أمام الجامع الكبير.

زاهر.

له من اسمه نصيب برعم متفتح بلون السّنابل وقامات النّخيل عذب المُحيّا, عاشق للنّور

والضّياء المعرفي. وهب من عمره عامين متواصلين استعداداً لامتحان الشّهادة الثّانوية

التي ستفتح له بوّابة العبور لدراسة المعلوماتية في الجامعة.

.مناخات الحرب دقّت مسامير وجعها في وجه المدينة. فيها لا يوجد فرصة للأمان لإجراء

الاختبارات لطلاب الشّهادة الثّانوية. على مقربة منها أخت لها تحتضن العاصي بين حنايا قلبها

, كان لها طعم الأحلام .لملم الشّاب أشياءه تسلّح بالعزيمة والثّقة وإلى مدينة الأحلام التي

ستمنحه بطاقة العبور لمجده العالي. طريق سفره لم يكن مكلّلاً بالورد والياسمين.

بل كان مسكوناً بكلَّ أنواع القهر, وأخيراً ها

هو ذا على أبواب مدينة الخلاص, فتحت العمة زهرة ذراعيها له, ضمّته إلى قلبها, هي الآن

ممن جاوروا النواعير بسكنهم بعدما حلّت الفاجعة بمدينتهم .

الكلّ فرح.

تساقطت الأيام الامتحانيّة بخفّة ورشاقة.

ترك الشّاب آخر نظراته على كتاباته مودّعاً لآخر ورقةٍ امتحانيّة تأمّلها.. قبّلها بدموع الفرح,

ثمّ

أسكنها بين يديّ مراقب القاعة. صبيحة اليوم التالي وضع حلمه في حقيبته لملم تفاصيل بيت

عمته , ثمَّ لوح مودّعاً. بدموع الفراق المحرقة. لوّحت جمانة من وراء ظهر أمها بعد أن

دسّتْ له بين كتبهِ وردة جوريّة تحتضنها آية الكرسي.

غاب؛ استقبله الأهل

استقبال الفاتحين المنتصرين في معركة البحث عن الوجود والضّياء.

في مدينة الأحلام للأشياء التّراثيّة قيمة عظيمة عندهم .

من بين الأشياء التّراثية المحتفظ بها مجموعة من

المعلّمين الذين استنزفوا أغلب سنين عمرهم , فأغلبهم يعانون من آلام العمود الفقري ( الدسك )

ورشقات الرّبو مع حبّةٍ تحت اللّسان لتوسعة الشّرايين والنّظارات السّميكة جدا.

الأستاذ عثمان واحد من هذه الأشياء التّراثية, إذا قدّر لك ورأيت ما بداخله لاستقبلتك لحيّة مساحتها قرن ونيف من عمر الخليقة. ملتزم بتعاليم الفضيلة

ويزيد عليها اجتهادات الأئمة الصّالحين, مثابر على الصّيام.

مناخات التّصحيح في المركز الامتحانيّ مزعجة جداً؛ الجوّ حارٌّ

المراوح والمكيّفات في استراحةٍ لمدةٍ غير معروفة النهاية.

إنّه المكلّف بنقل درجات تحصيل الطّلاب من ورقة الامتحان إلى جداول الوزارة التي بموجبها

سيتمّ إعلان تقييم الطّالب بشكل نهائيّ.

اليوم أثناء الدّوام اليوميّ, من المؤكّد أنّ الأستاذ عثمان لفحه البرد الليليّ بسبب انزياح الغطاء

عنه إنه يتألّم من مغص معويّ مع إسهال قويّ.

زرع المكان ذهاباً, وإياباً من وإلى الحماماتِ. مع استمرار تصبّب العرق من جبهته وصلعته

رفعت الأقلام و جفّت الصّحف.

لملم إنتاجه اليومي ممزوجاً بالتّعب, وضع الجداول في مغلّف زيتي الّلون؛ ختمه بخاتم

المديرية, ثم ّ أرسله إلى الّلجنة العليا للتنتيج.

نشرت النّتائج عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ والمواقع الرسميّة في البلاد, والوعد أصبح حقيقة.

فتشوا قوائم النّاجحين كّلها ؛لم يجدوا لزاهر أيّ دليل أو إشارة. على الضّفة الأخرى للرّاسبين

كان مكانه. ضاقت به الأرض لم يصدّق ما حدث شيء مذهل ؛ خبط رأسه بحائط الممرّ المؤدي

إلى الباب الخارجي, سال دمه, سكنته آلام الانكسار المحمّلة بفيضان الخيبة, راح يهذي ويسأل

لِمَ..؟ وكيف حدث هذا؟!.

كلّ محاولات الأهل والأصدقاء بالتّخفيف من معاناته فشلت. اصطحبه والده ذات مرّة للمسجد

لصلاة العشاء, لربما تدخل السّكينة إلى قلبه

مرة بعد مرّة صار المسجد باب الخلاص من عذاباته. لكن أين المفرّ فأيادي مصاصي الدّماء

تملأ المكان . داروا حوله , سألوا عنه , عرفوا مصابه . وبلمح البصر بدأت رحلة إغلاق

العلوم الدّنيوية ,وفتح بوّابات الانتقام بالجهاد.

أغرقوا الشّاب في بحور الظّلام, سدّوا عليه كلّ نوافذ الأمل. رمى ببنطال الجنز والقميص

السّماوي واستبدله بثوب أفغاني أسود وسروال مضموم النّهايات.

عمّته زهرة سارعت لتقديم اعتراض على النّتيجة وبمهاراتها الجيدة استطاعت التّغلغل بين السّراديب المخفية. إلى أن تمكّنت

من الوصول إلى ورقة ابن أخيها الامتحانية لمادة الرّياضيات المشكوك في أمرها.

كان الأمر بغاية البساطة فالدرجات التي حصل عليها زاهر هي 595 من أصل الدّرجات

النّهائية البالغة 600 , و الأستاذ عثمان نقل

مجموع الدّرجات الى الجدول النّهائي بالمقلوب فكانت5,95 وهذه الدرجات تكفي

لتلحق الطالب بقافلة الراسبين,

التقطت جهازها النّقال , احتفظت بصورة للورقة المستلقية أمامها, و أخيراً أصبح زاهر طالباً

ناجحاً بتفوّق.

زاهر وجد من يساعده كم وكم طالب سيكون مصيرهم الضّياع لأنّهم لا يجدون من يساعدهم .

ما عدد الطّلاب الذين سيسلّمون للأرصفة

والشّوارع بعد كلّ عام امتحاني.

كلّ الرّسائل التي أرسلتها للمتفوّق لم تتلق غير جواب واحد الرّقم خارج التغطية .

وبعد محاولات الاتصال بأخيها جاءها الرّدّ ممزوجاً بالحشرجات والألم مع همس الدّموع قال:

زاهر ضاع يا أختي ..وصمت قليلاً , ما بين هنا وهناك حلّت بنا الكارثة.

_ كيف اخبرني ؟

_ تسلّل الأسبوع الماضي ذهب لصلاة الفجر ولم يعد ولا نعرف تحت أية نجمة هو.

صرخت العمة بكلّ قواها فزعة :

أين هو ما هذا الهراء.

من وراء أنّة حزنٍ عميقة جاء صوت الأب مهيناً تعباً:

يبدو أنّه التحق بركب المجاهدين كما يزعمون .

صفعت العمة على صدرها, همست من بين دموعها, أطفأوّا شعلة الحياة بروحهِ .

على المدينة التي كانت مهبطاً للأحلام سقطت قذائف صاروخية تلقى الأستاذ عثمان رسالة مستعجلة على جهازه النّقال. يرجى الحضور إلى المشفى الوطنيّ

بسرعة. سقط مغميّاً عليه من هول الصدمة, فقط كان آخر أولاده ممددّاً في الممرّ الطويلّ

على البلاط مضرّجاً بدمائه وقد فارق الحياة .

كانت عينا الصّبيّ وفمه مفتوحين . كأنّه يريد أن يقول لوالده أنت قاتلي, بكى والده بحرقة. لكن ما نفع الدّمع.؟

على بعد ثلاثة أيام من الحادثة استلمت العّمة رسالة من أخيها يخبرها أنّ زاهر صار بذمّة الله

والتحق بقافلة الموتى.

تسلّلت العمّة زهرة الى غرفة الجلوس وهناك ثبّتت ناظريها على الصّورة المعلّقة على الحائط

الغربيّ .الصّورة تضمّ كلَّ أفراد العائلة وفي وسطهم زاهر. ثمّ انفجرت بصوت يشبه الرّعد

لمَ لا تعتمد مؤسساتنا التّربوية مبدأ الأتمته في امتحان الشّهادة الثانوية والإعداديّة أجيبوني.

لربّما تخفّف من أعداد المشرّدين على ضفاف القهر. فتحت باب بيتها عبرت الشّوارع والوجوه

وهي تصرخ.

كثيراً من أهل البلد شاهدوها وهي على هذه الحالة ولا من مغيث.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق