أبحث عن موضوع

الأربعاء، 19 أبريل 2017

مخابيء الشرف ( قصة قصيرة ) .............. بقلم : مزهر جبر // العراق


قاعد على ركبتيه في حيز معتم، بين جدارين؛ جدار المسجد من جهة وجدار المدرسة المستنصرية من الجهة الثانية. ابتلع بصعوبة قطعة خبز بمقدار نصف كف اليد بعد وضعها بضغط الجوع في فمه. أرغفة خبز، كان قد جلبها معه عندما خرج من بوابة المدرسة هارباً. أكل رغيفين منهما في ليليتين ونهارين. يحدق في الظلام الشفيف. أشباح واضحة المعالم تحت أضواء النجوم المتلألئة. كان الظلام ستاراً، أختفى فيه حين خرج ليلاً . أما وقد اشرقت الشمس وحل النهار فقد وجد له مكاناً خلف هذا الحيز، الى اليمين، مساحته صغيرة جداً، كانت قد اعدت لدخول الهواء ونور الشمس الى المسجد. ينزوي فيه، في النهار. وفي الليل يرجع الى الحيز المعتم. مشاعل نار تصعد الى الاعلى من سطح مياه النهر. أشباح الزوارق، تريد أن تمخر عباب النهر. كان يلاحظ من مخبئه؛ كرات النار وهي تسقط على الزوارق لتضيء وجه ظلام الليل بنار المنجنيق. كان الكثير منها، يحترق، والقليل منها تزوغ من مطارق نار المجنيق لتختفي، هناك، في البعيد. الآن، وفي الليلة الثالثة قَلَ النواح والندب وضجيج الناس الهاربين. كما أن الراجلين او الخيالة من الراطنين تباعد الآن وجودهم وقَلَ عددهم. صاروا يأتون اثنان أو ثلاث على أبعد تقدير.
الرياح تئز. تحمل إليه، أصوات رطانة. في الليل، دم وحرائق. ليلتان، لم ينم، الى الآن لم ينم. يصل إليه نواح الكلملت والحروف في الكتب. تبخرت الاحلام والامنيات،اصبحت محض خيال. بدأ قبل اشهر في إعداد بحث في الفلسفة. عندما خرج راكضاً وعاف صاحبه الشيخ الجليل، في الحقيقة، لم يتركه، شيخه هو من رفض وفضل الصعود الى السطح؛ لم يتسع له الوقت في جلب مخطوطاته وكتبه وبالذات مخطوط البحث الفلسفي والذي بدأ به قبل وقت من الآن. كان يغرق في الكتابة، في الليل، يتسرب منه الوقت ولا يحس به حتى يسمع صوت المؤذن يؤذن في الناس يدعوهم الى صلاة الفجر. وهو يجلس الآن على ركبتيه، فوق مصطبة الخوف، تفكر كثيرا؛ خطران يحدقان به، مغافلة الموت له، بالرماح أو بالسيوف المتوحشان، وحتى لو افلت ونجا بحسده، سوف يضيع في خوانق الظلام، في تلك الحالة يكون قد مات من غير موت. :لم يبق على البحث ويكتمل ألا النزر اليسير. فتاة تركض الى النهر. توقفت الفتاة، فتاة ممشوقة القوام. أثنان من الخيول نشرت اللغط والصياح وخببها وهما يدوران على كتف الشط. لاذت بجدار المدرسة على مقربة منه. تبكي أو تنوح. يضيع نواحها بين صهيل الخيل ورطانة الصراخ. : من ينقذها، لا أحد، هناك. : من تكون تلك الفتاة؟. : أتكون واحدة من جاريات القصر، نبرة الصوت ليست غريبة عن مسامعي، أتكون هي؟!. يتذكر شيخه الذي تركه في السطح، ذات ليلة، كلا، في الحقيقة ليالي عديدات عندما يتحول مجلس الخليفة الى الأنس والموسيقى والغناء يقول له لنخرج. ترك المخبأ وهو يجر خطواته إليها، خيل إليه، أن سنابك الخيل، تمشي على جسده وهي تغادر المكان. وفي ذات اللحظة كف الصراخ عن الصراخ. غادرا. حل صمت كثيف. أعلمته من تكون. تعجب، كيف نجت وأين كانت في الليلتين الماضيتين، مطربة الخليفة. مسح الدمع بكفيه من على خدًيها. : لا تبك. سوف نخرج من هنا. تعالي معي الى سطح المستنصرية. : نمكث هنا الى الغد أو بعد الغد، حتى أجد درباً للخروج. رغم الظلام الذي خيم على الباحة ابصرا جثث ودماء تيبست على البلاط حتى ان اقدامهما حين مرا في الطريق الى السطح، تعثرت بالجثث. بكت الفتاة بصوت صارخ حتى أن الجدران رددت رجع بكاءها. حين أستقرا على السطح تفاجئا بجثتين لرجل كهل وشاب في بداية الشباب. قالت وهي لم تزل تنشج بالبكاء يا شيخنا هذا الشيخ اعرفه لكني نسيت أسمه أنه شيخ علامة كان يأتي معك الى مجلس الخليفة..: يا شيخ لنذهب من هنا. هذا المكان غير أمن فقد يأتون إليه في أية لحظة. هناك، بين المسجد والمدرسة، حيز من فراغ، نلوذ ونحتمي به الى أن نرى لنا مخرجاً. لكنه ظل يصر على عدم الذهاب الى أي مكان آخر. : لنصعد الى السطح، إذ لا أحد يفكر في الصعود إليه. وأستمر في أصراره. آه، يا شيخي لو طاوعتني لكنت الآن حياً ولو الى حين. قالت وهي ترتجف من شدة الخوف كما خيل له : دعنا نذهب من هنا فقد يعودوا. توغلا في الدروب التى كانت تئن تحت سنابك الخيول والرطانة.. كم مشى متأملاً وسعيداً على وجه هذه الجادات. في الاماسي واحياناً في الليل عندما يجوب وحيداً في هذه الدروب ويتفكر في خلق الله وبقية مخلوقاته وسر الوجود. تغمر روحه وعقله فيوض من البهجة حين يتمكن من اجتراح مساراً جديداً في المعرفة. لاذا بالجدران وأستار الظلام. يحفهما الجند وهم يدورون في الجادات. في أحد البيوت وفي زاوية معتمة، اتخذا من المكان مستقراً لهما. كان البيت فارغا من ساكنيه وكذا بقية البيوت في الجوار. يسمعون من البعيد صراخ. قالت له: يا شيخنا المدينة تصرخ. يفتت روحي هذا الصراخ. صمت ولم يجبها. كان ينصت الى لغط يأتي من البيت المجاور. لم يدم انصاته كثيراً ألى الاصوات التى تشبه الى حد بعيد الهمس. التصقا الى الحائط، تماهيا مع الجدار، حين مروا بالقرب منهما، راجلون يرطنون. : أصمتِ، لا تبكِ يا أبنتي..: يا شيخنا، لا استطيع، صدري مختنق بالبكاء. لقد رأيت الجواري والخدم والحاشية وعائلة الخليفة والنساء؛ تقطع رقابهم بالسيوف. حالفني الحظ بعد انصرافهم وانسللت من الباب الخلفي الى بستان القصر. وتريدني أن أحتمي بالصمت من جروح روحي. في داخلي نار وفي رأسي انفجار، اغلق عليه نوافذ الدوي بأقفال أعصابي. يا شيخنا ليس بأمكاني مواصلة السيطرة على هيجان قلبي. أني أموت قبل الموت. لقد رأيت بعد رؤيتي لما رأيت في أروقة القصر والذي انسحبت منه واختفيت قبل دخولهم الى الغرف، تحت صندوق الزينة وعيوني تركت لها مجالاً لتتجول بينهم، في واحدة من غرف محظيات الخليفة؛ كيف سحبوا صاحبتي والتى تبعتني الى الغرفة، عازفة الربابة، كانت تبكي وتصيح وهي تتمسك بعتبة باب الغرفة: جسدي مشوه بالحروق. ما يؤلمني ويؤجج الوقيد في ادامة أشتعال حرائقي؛ لم تستنجدني وهي التي ابصرتني قبل وصولهم إليها؛ ادخل تحت الصندوق، مخافة انتباههم لوجودي مع انها استحضرت في لحظة اليأس هذه، حريق جسدها ذات ليلة بعيدة. صفير خاطف، من فوقهما ومن الجانبين. الرطانة صارت صراخ ثقبت جدار الليل، صراخ قوي وغاضب وعصبي الى حد بعيد. خافت وارتجفت هكذا أحس بها الشيخ وفق ما تراءت له. قال لها بكلمات من هسيس: لاتخفِ. في جزء الثانية أذ ركز الشيخ باصرتيه على مسببات تلك الجلبة التى احدثها الصفير وما تبعه من ضجيج الغضب. رأى ما لا تصدق عيناه ؛ الراجلون مضرجون بدمائهم، لم يحدد العدد، الرماح منغرزة في صدورهم ووجههم الى السماء. الآخرون منهم توزعوا على البيوت. لف المكان صمت وسكوت ما عدا رطانة وهستيرية الجند وهم يواصلون البحث عن حملة الرماح. أكد لها الشيخ كي يزرع في حناياه الأطمئنان : لا تخفِ، لا احد يبصر هذه الزاوية من ركن البيت هذا. : يا شيخ، أنا، لم أخف، ارتجف من ألم روحي الشديد، حمأة ألمي تصهر الحجر. سمعا صرخات مشروخة، تأكد الشيخ بحكم العلم والتجربة، أن الشرخ في الصرخات تأتي من أفواه لأجساد ضربت، ضربات موت. ما هي ألا دقائق وعم المكان صمت مهيب ومخيف وفيه من الريبة والشك الكثير. حتى الزقاق الضيق والذي طالما مر به أثناء تجواله في الاماسي الماضيات، غمرته وحشة الموت والدم المراق. دقائق مرت عليهما لاغير وسمعا، أصوات؛ حملت لهما كلمات واضحة المخارج والمعاني : لم يبق أحداً منهم وصوت آخر من اللامكان يجيب: أخرج لتتأكد أن لا أحد منهم قادم في الطريق. ظلا يستمعان وينتظران نهاية ما جرى قبل دقائق في هذا الزقاق البعيد عن قلب بغداد الذي لم يزل الى الآن تلتهب النار فيه، محدثة حرائق في جميع الشوارع والطرقات..: من أنتما؟. أنا الشيخ العلامة......وهذه الفتاة، مطربة الخليفة. تعالا. ذهبا معهم بعيدا عن المغول وعيون المغول. وفي الزقاق وداخل بعض البيوت المتجاورة والمتقابلة في الزقاق حيث جرت الواقعة. تركوا جند التتر جثثا هامدة تتوسد مساحة من دمائهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق