أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 28 مارس 2017

الخـــــــــراب ( قصة قصيرة ).................. بقلم : عادل المعموري // العراق



يشعر أنه مثل المشردين يمارس غواية التسكع على أرصفة ليل داج.. في شوارع المدينة الكبيرة ، يغمره فيض من وجع قديم ،يتجدد كلما شاهد امرأة تشبهها،يتملكه حنين كبير يأخذه إلى أحلام متمردة في هدأة من جراحه..جنونه المستعر يغرقه في تيه لا حد له .. يطوف في الشوارع والميادين يتخطى بين صور الأموات الذين مضوا ..وبين جموع القتلى ،كم من قتيل نسيه التأريخ والناس ،كم من عاشق مات حتف أنفه ، القتل في العشق كالقتل في الحرب سيان .. يقف يرقب من بعيد نافذتها الموصدة .
،ليس ثمة ضوء يفتق عباءة الظلام ..يستعر جمر مواقده ويرحل يجرُ قدمين أتعبتها المشاوير ليعود أدراجه من حيث أتى.. يقضم جوعه الأبدي، وحنينه المجنون إليها يذوب من فرط اشتعاله ..يتيه في دروب عتيقة لأحلام متكررة تزيد من سأمه.
ينظرُ إلى الشوارع والأماكن التي كانت ملكه لوحده ..كم من شارع سارا فيها معا ،وكم من مقهى توقفا عندها ،كم من مطعم رخيص تناولا فيه أكلات كانت أطيب من الشهد ..يعود إلى داره بعد منتصف الليل ..يدخل غرفته ويتمدد فوق سريره ينظر إلى النجوم عبر النافذة ،غامت أزمنته و تشظّت صورتها في السماء المفتوحة ،تحطمت كأسه بيد النادل في أقبية السراديب القديمة ،تعب من الشراب ومن أصنافه.. حطّم رأس النادل وهجر تلك الأماكن السرية ،عندما دخل السجن لم يتغير شيء في حياته ..لا شيء سوى الضياع .نسي كل شيء
إلاّ هي لم يستطع نسيانها ،يتملكه شوق مجنون لرؤيتها .. كيف تتزوج غيري وهي التي عاهدتني على الانتظار ..خمس سنين مرت من سني السجن و عندما خرجت علمتُ أنها تزوجت غيري ،هل أغادر إلى وطن آخر ،هل أشعل المدينة بالحرائق وأرحل ؟هل أغيّر وجه الشمس وأمشي بين حشود الظلام أي طرق اسلكها ؟..هل كُتبَ علي أن أعيش المنفى أنا الغريب داخل روحي ..قالها ونهض من فراشه .أغلق النافذة ..اقتعدَ كرسياً كان قريباً من النافذة وسحب سيجارة من علبة كانت في جيبه ..أحنى رأسه والتصقت نظراته التائهة فوق سطح الطاولة الصغيرة.
شعر أنه يحتضر .اختلاجات روحه حوّ مت فوق ذاكرته النازفة ووجوه الموت المتلونة ..وجوه ممسوخة لأشكال غريبة بدت ترتسم أمامه..رفع قبضته وأنزلها بقوة فوق سطح الطاولة ..أوجعته كفه من تلك الضربة،فرك يديه مع بعضهما .(.عمري تعدى الثلاثون .. ليس ثمة من يملا فراغ روحي ..بلا زوجة ..بلا أطفال..بلا أم ..بلا أب ..شقيقي الوحيد قبضوا عليه بعد خروجه من المسجد ،اتهموه بموالاة بلد معاد ..كان عابدا زاهدا وتقيا ورعا يصغرني بسنتين .
نصحته أن يشرب الخمر ويهجر الجامع كي ترضى عنه الحكومة ويبتعد عن التجمعات الدينية ولكن لا فائدة فقد أصر على عناده وغيبوه في السجون السرية ..لم أفكر مطلقا بالهرب من العسكرية ولكن صعبت علي الحرب الطاحنة التي كنا نحترق في اتونها ..كانت جبهات الحرب على طول الحدود تشتعل ..والقتلى من الطرفين بالالاف ..ماكنة الحرب تصهر الأجساد كاللحم المفروم كل يوم .

.وشى بي أحدهم للنادل ..توسلتُ إليه أن لا يخبر أحدا بذلك ..ولكن النادل وبخني ووصمني بالخائن والجبان..لم أكن أعلم إنه مخبر يعمل لصالح دائرة الأمن العام إلاَّ بعد حين.
ماذا أفعل ؟.قذفته بزجاجة العرَق ..سقط على الأرض والدم ينزف من رأسه ...لم أكن أصدق ماحدث بعدها بدقائق، حين دخل الى الحانة أربعة رجال واقتادوني الى جهة مجهولة )..تشابهت الليالي و النهارات عنده ..عاد من جديد يحتسي الخمر ..سار وحيداً كزورق وحيد وسط الأمواج،حملته رياح الوجد ،اختفت كل الخطوات في ليله المعتم سوى خطواته تطوي الشارع طياً ،لا ح له بيتها من بعيد ،أخذته العبرة وساحت دموعه على خديه ..وصرخ :
__بابك الموصد متى يُفتح ..هل علي أن أسأل العابرين عنك .إلى متى تختبئين في معطفه ..أخرجي لأرى وجهك المفقود في المتاهة ...جلس على دكّة الرصيف قبالة النافذة العالية ..طفقَ يُمعن النظر في الستارة الصفراء المنزاحة قليلا ..الضوء الخافت المنبعث منها يحفّزه للبقاء لعلها تظهر خلف النافذة ..رفع كفه وأفردَ سبابته وهتف :
__هل أتوسدُ يأسي وأغفو حزيناً وذراعاك تحتويانه ..هل هو الآن يحيطك بذراعيه وعيناه في عينيك ..آه يا حريق روحي ..بالكاد أستطاع أن يقوم من جلسته وعندما انتصبَ واقفا صاح بصوت عال :
_أنظري إلي ولو قليلا ..لا تؤاخذي جنوني بك ..متيّم أنا بك ..نسيت كل العالم ولم أستطع نسيانك ..أما آن لك أن تلقين مرساتكِ في بحر الجنون ..أنا مجنون ..أنا مجنون ليس لدي ما أخسره .. ليسمع كل العالم أني مجنون..لاح له من وراء النافذة ثمة خيالا باهتا ..قطّب مابين حاجبيه ركز نظره ..تشكلت الصورة أمامه بوضوح ..رأى ظل رجل ..انكفأت الستارة وبان منها ظل لقامة رجل يقف ينظر إليه مسندا كفيه فوق سطح النافذة السفلي....استدار تاركا صورة النافذة خلفه تتوهج بضوء ساطع ..سار بضع خطوات ثم التفت ملقيا نظرة أخيرة عله يرى زوال صورة الرجل التي أقلقته
..فوجئ به يقف على مقربة منه هاتفاً به :
_اسمع أيها المتشرد ..إن شاهدتكَ أمام داري ثانية ..لن أرحمكَ أبدا..عمن تبحث ياهذا ؟
_عن امرأة كانت تسكن في ذلك البيت .
_لايوجد غيرنا ،أنا وأمي العجوز ..الساكنون قبلنا هاجروا منذ أعوام إلى استراليا...وانقطعت أخبارهم ..هل تعي ما قلته لك ؟
.....لم يفه بشيء ..تركه وطفق يحثُ الخطى سائرا في هزيع الليل بلا هدى ،يقطع الشوارع والميادين وحيدا . يستفزه صوت المؤذّن من بعيد...تنأى به المسافات على قارعة أمنياته .. تقوده خطواته المتعثرة نحو دروب تيه جديد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق