أبحث عن موضوع

الأربعاء، 29 مارس 2017

عرض تحليلي نقدي لقصة "الركض في الفراغ" للقاص عادل المعموري ...... بقلم : علي البدر // العراق



1) القصة
مع انحدار نظرتها السريعة نحوه ،جلب انتباهها وجه تعرفه ،أمعنت النظر فيه،توهجت براكين روحها فجاة ،انفراج شفتيها فتحَ وهج الآهات المكبلة بوجع الفقد أن تنبعث من جديد ..أرتخت يدها وهي تمسك بالسماعة الطبية ،تقدمت منه بخطوة متوجسة وهي لمّا تزل تنظر في ملامحه ،وجه ناحل لرجل اربعيني مغمض العينين ،يغط في نوم عميق.. الشحوب يرتسم فوق ملامحه و لحيته النابته وشعره الطويل يغطي جزء كبير من جبينه وحاجبيه الكثين أشارت للطبيب المقيم باصبعها نحو المريض الراقد ،ففهم إشارتها وتمتم بثقة :
_اعطيناه أمبول مورفين قبل ربع ساعة ..هزّت رأسها بايجاب ..مدذت يدها لتسحب أوراقه في درج الكوميدينو ..شرعت تقلّب أوراقهه وهي تنظر إلى إسمه وعنوانه كلما قلبت ورقة من الملف،أغمضت عينيها بألم ثم فتحتهما ،انتبهت لوجود الطبيب الشاب ،فهم الطبيب نظرتها وانسحب موصدا باب الغرفة وراءه..،تجاعيد الزمن رسمت ملامحها فيه بقسوة وشعره المسترسل الناعم اختلط بالبياض ،آلمها منظره وهو يتنفس بصعوبة ،مدت سبابتها نحو شفتيه اليابستين ومررتهما فوقهما ،.أوصدت الباب باحكام وعادت إليه لتجلس على طرف السرير ..نظرت اليه طويلا والدموع المحتبسة في اعماقها بدت تتقاطر على وجنتيها بغزارة ، بأصابع مرتعشة طفقت تعدل شعرهه وتدفع به الى الأعلى كاشفة عن جبين ناصع البياض ..قربت رأسها من وجهه وطبعت قبلة طويلة على جبينه .. إشارات دقات القلب في الجهاز المعلق(المونيتر) فوق رأسه لايطمئن ،أعادت برمجة الجهاز لتتأكد ..عادالخط البياني لضربات القلب يعمل من جديد ..اعتصرت كفه التاحلة بأصابعها وهي تضم كفه الى صدرها ...تنهدت بعمق وتمتمت مع نفسها :
_سأكون معك ولن أتركك ماحييت ...على الباب نقرات خفيفة تناهت إليها ،نهضت من مكانها ومسحت دموعها .برز وجه الممرضة من فرجة الباب :
_أتريديني مني شيء دكتورة منى ؟
_هذا المريض.. متى ادخلتموه غرفة الإنعاش ؟
_منذ ثلاثة ايام ..على اسرّة دكتور مازن .
_هل زاره أحد من أسرته ؟
_ثمة امرأة عجوز فقط زارته مرتين البارحة .
_شكرا مديحة ...اوصدت الباب مديحة واختفت خطواتها في الرواق ..اقتعدت كرسيا كان بالقرب من الباب ..سحبته مرة أخرى وجلست قبالته تنظر اليه ..عادت بها ذاكرتها الى سنين مضت ،مر شريط حياتها معه ،داهمت ذاكرتها صوركثيرة لهما وهما يدرسان سوية في كلية الطب ..آخر صورة له توشحت بها ذاكرتها المتعبة ..حينما كان يجلسان سوية في كافتريا الكلية ..دخل عليه رجلان يرتديان الزي الزيتوني ومعهما رئيس الاتحاد التابع للحزب الحاكم ،سحباه من يده وغادرا الكافتريا ..وغادرت معه آخر صورة له ..لم تره بعد ذلك ،تداعت الى ذاكرتها حكايات كثيرة نسجها خيال الطلبة وهم يتحدثون عنه ..اتهموه البعض بالتآمر ضد الحكومة والبعض يتهمه بانتمائه لحزب الدعوة المحظور ..تنحنح بصوت مختنق وتحرك ليمسك ب( الكانيولا) التي تغذي جسده عبر انبوب جهاز الاعطاء ..قفزت نحوه وهي تمسك بيده ..فتح عينيه ونظر اليها ،قطّب ما ببن حاجبيه الكثين وراح ينظر اليها باستغراب ،بلع ريقه ومرر لسانه على شفتيه المتيبستين ،ثم اغمض عينيه ثانية، خرجت من بين شفتيه كلمات لاهثة :
_من أنتِ؟
_أنا دكتورة منى ..كيف حالك يا احمد ؟
_كماترين سيدتي ..قالها ثم التفت اليها وهو يركز النظر في وجهها ،رمقها بعينين شاحبتين من رأسها إلى أخمص قدميها ..قال مستفهما :
_منى عبد الوهاب ..اليس كذلك ؟
_وانت احمد حميد النداوي .
_لاأصدّق أني ساراكِ بعد تلك السنين الطويلة ..هل أنا في حلم أم أن تاثير المخدّر يوحي لي بهذا ؟.ابتسمت، واقتربت منه واضعة كفها فوق كفه :
_ها قد التقينا يا أحمد ..كم أنا سعيدة برؤياك ..تكلموا عنك كثيرا حتى بتُ لا اصدق أنك مازلت على قيد الحياة.. اخبروني انك متّ تحت التعذيب ..قبضَ على أصابعها بكفه الواهنة واعتصرها وهو يقول :
_لم أمت يامنى بسبب التعذيب ..كان موتي منذ انبثاق فجيعتنا الاولى ..منذ انقطاع شريان الحب الذي يغذينا بنسغ الحب ..بعد ان اخرجوني من السجن الحقوني بالخدمة العسكرية في حرب إيران الطاحنة ثم حرب الكويت وتداعياتها ..لم تشا ظروفي ان تسمح لي بالزواج ..بقيت مع والدتي العجوز ..وأنت يامنى الآن طبيبة إختصاصية أليس كذلك؟ .
_منذ عشر سنين ..تزوجني طبيب اختصاصي ثم هجرني وسافر الى الخارج طلقني وهو في الغربة ..ساد بينهما صمت ثقيل ..بدده صوته وهو يسألها مغيرا وجهة الحديث :
_هل مازلتِ تحبينني يامنى ؟
_أنا لا انساك أبدا ..انت حبي الأول والأخير في حياتي ..
سحبَ يده من كفيها بلطف وتمتم مبتسما بارتياح :
_أنا أعلم اني سأموت قريبا ..عجز في القلب وارتفاع بالضغط ..وحالتي ميؤوس منها ..هل سنبقى عالقون في رياح التذكر في دوامة هذا الحزن الصامت ..ارجوك لا توقظي العصافير ولا تلمين رماد خطواتنا الآتية ..ها قد اقبل الليل ..إني أراه من الشرفة يحمل طواحينه يؤمي إليّ من خلف الأشجار ..إنه يطرق أبواب حصوني الآيلة للسقوط .
-لا ..ارجوك لاتقل ذلك ..ستشفى وسنعود معا ..سنعوّض كل تلك السنين التي ضاعت منا ..لن يفرقني عنك حتى الموت نفسه ..ابتسمَ بمرارة وندّت منه ضحكة طالما اشتاقت لها :
_هل تعلمين ان البارحة كان عيد ميلادي ..لقد ضاع العمر هباء ..يامنى
إلى متى نبقى معلقين بالرغبات المستحيلة اعرف ان زمني ولىّ ولم يبق سوى ظلي الباهت فوق ركام الذكرى ..على كل حال.. اقتادوني من الكلية الطبية الى السجن ومارسوا معي انواع التعذيب كل ذلك بسبب أن ابن خالتي في حزب الدعوة ..ثم طردوني من الكلية وانهيتُ خدمتي العسكرية وخرجت خالي الوفاض إلاّ من بعض الأمراض المزمنة وأحلام مكسورة تربض في قاع الوجع ولوعة التعذيب التي لا أنساها ووحشية الحروب اللعينة ..
_ارتح قليلا ..سأاتيك بعد دقائق فقط ..لاتنم ..ابق متيقظا ....قالت ذلك وخرجت من الغرفة وهي توصي الممرضة بالانتباه والحذر ..هزّت الممرضة رأسها وهي تقلب شفتيها باستغراب..عادت الطبيبة بعد قليل وهي تحمل بيديها علب كارتونية منمقة فيها شرائط ملونة مع باقة ورد ..دخلت عليه والابتسامة مرتسمة على وجهها ..وضعت الحاجيات فوق الطاولة القريبة وذات الابتسامة ترتسم فوق شفتيها ..وضعت يدها فوق يده لتوقظه _أحمد حبيبي ..أحمد افتح عينك لترى ماذا ىجلبتُ لك من هدايا _..ذعرت من برودة بدنه ..هزته بلطف تناديه بصوت مخنوق ..لمحت علائم ازرقاق فوق وجهه ..نظرت نحو جهاز( المونيتر) ..كانت الخطوط البيانية للقلب مستقيمة ..هزّته بقوة ...سقطت ذراعيه جانبا والتوى رأسه ..صرخت تستغيث بصوت عال ..اسرعت الممرضة والطبيب المقيم يصطفان بجانبها وهما ينظراليهما بحيرة ..سحبت مقبضي جهاز الصدمة واشعلت زر الجهاز ..ضغطت به على صدره ..انتفض الجسد واهتزّ الرأس ..اعادت الضغط بكهربيه عالية ..أخذ جسدها يهتز كله بهستريا جنونية ..رمت الجهاز جانبا ..تخاذل جسدها كلياً وارتمت على الكرسي القريب..دفنت رأسها بين كتفيها ثم أجهشت تنشج بحرقة ..من بين دموع ساخنة أحرقت وجهها وصراخ اللا جدوى ..رفعت رأسها.. رأت الشرشف ا لأبيض يغطي وجهه..غطّوا مسامات حلمها الموؤود بجدران الأنين .ليغيب عنها ثانية .. إلى
الأبد.
================================================================

2) العرض التحليلي النقدي:
( مع انحدار نظرتها السريعة نحوه، جلب انتباهها وجه تعرفه ....).. فقد جمعتهما الصدفة بحبيبها راقداً على سرير الأنعاش. قلق وحيرة وألم يساورها.. تعاطف غير طبيعي بدا عليها..أيعقل أن تراه مسجياً أمامها بين الحياة والموت؟ ومرارة الزمن التي أبعدته لأكثر من عشرين سنة عندما اختفى بين الأروقة المظلمة في زنازين الأمن بسبب ابن خالته المتهم بانتمائه لحزب الدعوة؟ وقفت حائرة و (أشارت الى الطبيب المقيم باصبعها نحو المريض الراقد، ففهم اشارتها.) لم تسأله عن حالته بل أشارت اليه باصبعها لأنها عاجزة عن الكلام بحكم انفعالاتها التي افقدتها القدرة ولو مؤقتا. أراد الكاتب هنا افهامنا بالعمق الأنفعالي الذي يسري في أعماقها فاستغل لغة الجسد Body language وهي حركة gesture ، لكننا بالطبع لم نفهم هذا التساؤل الا بعد اجابة الدكتور (أعطيناه امبول مورفين قبل ربع ساعة) وهنا (هزت رأسها بالأيجاب) ولم تستطع، وهي الدكتورة المتمرسة المسؤولة، أن تجمع قواها للنطق ولو بكلمة واحده فها هي تغمض عينيها حيرة والماً سرعان ما انتبهت بأنها ليست لوحدها حيث (فهم الطبيب نظرتها وانسحب موصدا الباب وراءه...) وهكذا يحاول الكاتب تهذيب ونحت كلمات قصته لتكون موازية الى حد ما لعمق الثيمة theme من خلال حبكة plot أريد لمجرياتها أن تتسارع. ان تصرف الطبيب أفهمنا بانها نظرت اليه بارتباك واحراج وبالتأكيد يكون الأسلوب القصصي أكثر تشويقا عندما يشعر القاريء بالفن والذكاء الذي يستعمله القاص لجعله شريكاً معه في الأحداث، وهذا أسلوب اعتاد الكاتب اتباعه ويمكن لأي متابع أن يلاحظه. وقد (المها منظره وهو يتنفس بصعوبة . مدت سبابتها نحو شفتيه ومررتهما فوقهما. أوصدت الباب بأحكام....) وبالتأكيد انه لشعور غريب من دكتوره أن تتلمس شفتيه وتطبع قبلة على جبينه. هل هو احساس بالحيرة والذنب؟ أو للتعبير عن حب لم يمت؟ وياترى ماذا يحدث لو أن أحدا فتح الباب ووجدها تقبله أو تداعب شعره وتتلمس شفتيه وهو في غيبوبة؟ وهل من المعقول أن تضحي بسمعتها وبهذه البساطة؟ ولكن عندما نراجع النص نجد أنها أوصدت الباب بأحكام، وعندما نتعمق أكثر نجد أن الطبيب قد أوصد الباب وراءه (وانسحب موصدا الباب وراءه.) الباب اذن موصد ولكن قد نعطي مبررا اخر ونقول بأنها أقفلت الباب، وهذا مستحيل ، فسرعان ما يكون هذا التبرير ضعيفا لأن الممرضة فتحته فهو لم يقفل. وربما اطمئنان الدكتورة بأن أحدا لم يدخل الا بعد الأستئذان كما فعلت الممرضة (على الباب طرقات تناهت اليها. نهضت من مكانها ومسحت دموعها. برز وجه الممرضة من فرجة الباب.) أعطاها سلوكاً موقتا جعلها تتصرف هكذا. ويبقى التساؤل وارداً عما هو المقصود بالفعل "يوصد" . وفي حوار الدكتورة مع الممرضة، يكشف الكاتب عن اسم الدكتورة وهي الشخصية الرئيسيىة وكذلك الممرضة والاسمان غير مهمين ولكن طريقة تعريفنا هي المهمة. ولا يكفي أن تمسح الدكتورة دموعها لتبدوا طبيعية أمام الاخرين وذلك لسببين الأول ان المرأة "الممرضة" تدرك وتحس باختلاجات المرأة ربما أسرع من الرجل وثانيا قد يكون الدكتور الذي خرج قد سرب تفاصيل المشهد الذي راه والذي يدعم هذا الرأي أن الممرضة طرقت الباب لتتساءل ان كانت الدكتورة بحاجة الى المساعدة. ربما تكون صادقة وربما فضولها دفعها لمعرفة المزيد. وكانت صعوبة اللحظات مريرة عندما اضطربت دقات قلبه لكنه أفاق متسائلاً عن اسمها رغم أنه عرفها وهو تحت تأثير المخدر حيث نطق باسمها فحاولت لاشعوريا الحفاظ عليه وافهامه بأنها لم تتزوج الا بعد أن يئست من وجوده باعتباره قد مات اثناء التعذيب وقد برر هو أيضا. وقد أخبرته بطلاقها من زوجها الذي هجرها وأرسل ورقة طلاقها، وربما أرادت أفهامه باستعدادها بالأرتباط به والعيش معا لتذوق السعادة المفقودة. خرجت لحظات ورجعت مع باقة ورد وهدايا لتقول له كل عام وأنت بخير لكن ابتسامتها أذابها الذهول وحولها الى بكاء ونحيب فقد مات أحمد ولمرتين. (.... لم أمت يا منى بسب التعذيب .. كان موتي منذ انبثاق فجيعتنا الأولى .. منذ انقطاع شريان الحب الذي يغذينا...) وعندما وجدته أمامها انسانا يصارع الموت ، تحول كل شيء الى صمت الا أعماقها المتفجرة وأرادت ضمه والى الأبد لكنه ضاع وهو بين أيديها.. أجل مات أحمد ثانية ولكن الى الأبد وغاب من غير كلمة وداع كما حدث أول مرة.. أما هي.. فيا تري.. هل تنتظر موتها الأبدي؟ والى متى؟
ان تسارع أحداث القصة ساهمت في تركيز انفعالاتنا بل قادتها وبدراية الى الاحساس بالمأساة.. أجل وحتى البكاء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق